سيظل الشريط السينمائى فى مصر صاحب فضل على كثير من المطربين ليس فقط لأنه حفظ تراثهم الغنائى وضمن له البقاء لسنوات طويلة قادمة وإنما أيضا لأن المواقف الدرامية المختلفة داخل سياق الفيلم السينمائى أتاحت تقديم أفكار مبتكرة ومتنوعة لتلك الإغنيات ، وحررت الأغنية العربية بوجه عام من كثير من أشكال الزخرفة التركية وساهمت فى تسريع إيقاع الغناء العربى الأمر الذى جعله أكثر ملاءمة لإيقاع القرن العشرين وما بعده ..
من بين هؤلاء المطربين الذين يدينون بفضل السينما عليهم المطرب محمد فوزى الذى رحل عن دنيانا فى العشرين من أكتوبر 1966 والذى يعد أكثر من ثمانين بالمائة من تراثه الغنائى ابنا شرعيا وأصيلا للشريط السينمائى .
وكان نجاح الفنان محمد فوزى كمطرب سينمائى واضحا وضوح حرصه على التواجد على الشاشة الكبيرة الذى دفعه ليكون أكثر مطرب عربى وقف أمام كاميرات السينما على مدى تاريخها كله متفوقا بذلك حتى على المطربين الشعبيين الذين دأبت السينما المصرية على طلبهم وخاصة فى زمن وجود محمد فوزى .. فماذا يمكن أن تكون الأسباب التى ساعدت فوزى على النجاح سينمائيا إلى هذا الحد؟
أولا: كان محمد فوزى عند ظهوره فى فيلمه الأول «سيف الجلاد» سنة 1944 أكثر مطربى الغناء العاطفى فى زمانه ملاءمة لأدوار الفتى الأول من حيث المرحلة العمرية ، فقد كان محمد عبد الوهاب فى الثالثة والأربعين من عمره وفريد الأطرش فى حدود الخامسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين فى ضوء الاختلاف على تاريخ مولده بينما كان محمد فوزى فى منتصف العشرينيات من عمره ، ومن ثم كان الأقرب إلى اقتناع الجمهور به فى أدوار الشاب المكافح الذى يريد أن يبدأ حياته ويحقق أحلامه، فما بالنا وقد انسحب عبد الوهاب تماما من الساحة السينمائية كممثل بعد فيلمه الأخير «لست ملاكا» سنة 1946تاركا فوزى وفريد فى حلبة المنافسة ذراعا بذراع وفيلما بفيلم ومفضلا الدفع بشاب من عائلته وتلامذته إلى حلبة المنافسة هو سعد عبد الوهاب الذى ظهر لأول مرة على شاشة السينما سنة 1949 فى فيلم «العيش والملح» ولكن بعد أن كانت قد استقرت الأمور للمتنافسين الأصليين فوزى وفريد مع ميل ملحوظ لصالح الأول، ففى الخمس عشرة سنة التى قدم فيها محمد فوزى أفلامه الستة والثلاثين بين عامى 1944، 1959 قدم فريد الأطرش واحدا وعشرين فيلما فقط من بين مجمل أفلامه التى وصلت إلى واحد وثلاثين فيلما.
ثانيا: لا يمكن إغفال أهمية نزول محمد فوزى إلى عالم الإنتاج السينمائى منذ عام 1947 بفيلمه «العقل فى اجازة» إخراج حلمى رفلة فى تدعيم وجوده على الشاشة وتقديم السينما التى يريدها ، لكن لا يجب أيضا إغفال أن عبد الوهاب وفريد الأطرش ومعظم مطربى ذلك العصر كانوا كذلك منتجى غالبية أفلامهم ، ومع هذا لم يصل أى منهم إلى عدد الأفلام التى قدمها محمد فوزى سواء كانت من إنتاجه أو أنتجتها له شركات سينمائية أخرى.
ثالثا: كان محمد فوزى لونا موسيقيا مختلفا عما كان سائدا طوال فترة نشاطه السينمائى ، فلا هو منحاز للغناء الشعبى المباشر على طريقة عبد العزيز محمود وكارم محمود وعبد الغنى السيد ومحمد الكحلاوى، ولا هو من أنصار رزانة غناء عبد الوهاب وبكائيات فريد الأطرش ، وإنما كان لونا جمع بين رشاقة اللحن وخفة ظل صاحبه مع عدم التنازل عن طابعه الشرقى الأصيل حتى وهو يحاول التجريب فى بعض الأحيان ، أما سعد عبد الوهاب الذى وقف فى مرحلة وسطى بين رزانة عمه محمد عبد الوهاب وتحرر محمد فوزى فقد وقف- كذلك- فى المرحلة الوسطى من النجاح الجماهيرى بين النموذجين.
رابعا: من المصادفات المحمودة فى مسيرة محمد فوزى أن تزامن ظهوره على الساحة السينمائية فى وقت كان صناع السينما يرحبون أولا بوجود المطرب- أى مطرب- ضمن توليفة الفيلم- أى فيلم- ضمانا لشباك التذاكر التى باتت رائجة تماما برسوخ إقدام مطرب مثل محمد عبد الوهاب على شاشة السينما.. كذلك تزامن ظهور محمد فوزى مع بداية العصر الذهبى للكوميديا الموسيقية فى السينما المصرية فى أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 وزيادة الطلب على الفيلم الكوميدى بنجومه المعروفين، والمدهش أنه برحيل نجيب الريحانى سنة 1949 وتراجع على الكسار إلى الأدوار الثالثة والرابعة لم يكن هناك أى ممثل كوميدى يمكن أن يثق صناع السينما فى اسمه كى يستطيع تحمل البطولة المطلقة لأى فيلم خاصة وأن إسماعيل ياسين لم يكن قد وصل بعد لهذه الحالة الخاصة من الثقة والاستقرار التى عرفها بداية من عام 1954.. والأكثر دهشة أن أيا من الكوميديانات المعروفين فى ذلك الوقت أمثال عبد السلام النابلسى وحسن فايق وعبد الفتاح القصرى وستيفان روستى ومارى منيب وزينات صدقى وإسماعيل ياسين وشكوكو لم يكن أحد منهم محسوبا على فن الغناء مباشرة حتى وإن كان إسماعيل ياسين وشكوكو يتمتعان بالقدرة على الغناء السليم ولكن تم تصنيفهما كفنانى مونولوج ، فكيف يمكن- إذن- تقديم سينما تجمع بين الكوميديا والغناء فرسى الرهان فى أى نجاح جماهيرى ؟ الحل كان فى الكوميديا الموسيقية التى يمكن أن يتصدى لها مطرب شاب خفيف الظل رشيق الأداء يجمع بين الغناء والتلحين حتى يكون مسئولا عن الحالة الموسيقية التى يقدمها .. فهل هناك اسم فى ذلك الوقت تتوافق تركيبته المزاجية وشخصيته الموسيقية مع كل هذه المتطلبات أفضل من محمد فوزى القادم من فرقتى بديعة مصابنى وفاطمة رشدى بقدرات تمثيلية طيبة مع حشد غالبية الأسماء الكوميدية المعروفة فى أفلامه كعامل إضافى لنجاح التوليفة التجارية المضمونة والمحلقة بجناحى الكوميديا والغناء؟
خامسا : من حيث التحليل الرقمى فقد قدم فريد الأطرش واحدا وثلاثين فيلما فى أربعة وثلاثين عاما فى الفترة بين عامى 1941 و 1975 بمتوسط قدره ٩١,.فيلم تقريبا فى العام ، وقام عبد الحليم حافظ ببطولة ستة عشر فيلما فى اثنين وعشرين عاما ( نفس مدة محمد فوزى ) بمتوسط قدره 73,. فيلم تقريبا فى العام، بينما قدم عبد الوهاب أفلامه السبعة فى ثلاثة عشر عاما بين عامى 1933 و 1946 توقف بعدها عن التمثيل بمتوسط قدره٥٤ ,. فيلم تقريبا فى العام ، فإذا ما حسبنا أفلامه السبعة على مدى مشواره الفنى كله الذى انتهى برحيله عام 1991 أصبحت أفلامه السبعة فى ثمانية وخمسين عاما ، وانخفض متوسط عدد أفلامه إلى 12,. فيلم كل عام ، أما محمد فوزى فكان متوسط عدد أفلامه ١,٦٤ فيلم فى السنة خلال فترة نشاطه السينمائى ما يشير إلى ثبات حظوظ الطلب عليه طوال تلك الفترة أكثر من بقية منافسيه الكبار .
سادسا : فى أفلام محمد عبد الوهاب السبعة شاركته البطولة أربع مطربات هن نجاة على ( دموع الحب ) وليلى مراد ( يحيا الحب ) ورجاء عبده ( ممنوع الحب ) ونور الهدى ( لست ملاكا ) ، بالإضافة إلى صوت أسمهان فى « يوم سعيد « وأداء راقية إبراهيم الغنائى فى « رصاصة فى القلب « وجميعهن شاركن عبد الوهاب الغناء فى أفلامه ، وفى واحد وثلاثين فيلما قدمها فريد الأطرش شاركت أربع مطربات هن: صباح ، نور الهدى ، فتحية أحمد ، وشادية ، وأربع راقصات هن: سامية جمال ، تحية كاريوكا ، ببا عز الدين ، وليلى الجزائرية ، وجميعهن ظهرن معه فى سبعة عشر فيلما، بينما شاركت عبد الحليم حافظ البطولة مطربتان فقط هما: شادية وصباح اشتركتا معه فى أربعة أفلام من أصل أفلامه الستة عشر ، أما محمد فوزى فقد ظهرت معه ثمانى مطربات هن : نور الهدى ، صباح ، شادية ، رجاء عبده ، أحلام، ليلى مراد ، نازك، وفايزة أحمد ، وممثلة تجيد الأداء الغنائى هى :عقيلة راتب ، بالإضافة إلى ثلاث راقصات هن: سامية جمال، تحية كاريوكا ، ونعيمة عاكف ، وجميعهن ظهرن معه فى واحد وثلاثين فيلما من أصل أفلامه الستة والثلاثين، وهو الرقم الأكبر كما ترون، ويعكس مدى اهتمام محمد فوزى بأشكال الغناء المختلفة من أوبريتات وديالوجات وتريوهات ( الأغنيات الثلاثية ) أكثر من بقية منافسيه ، فعبد الحليم حافظ مثلا الذى أشرك معه فى أفلامه مطربتين فقط لم تشاركه الغناء سينمائيا فى عمل مشترك سوى شادية فقط ، بينما لم يجمع صباح وحليم أى ديالوج غنائى فى فيلمهما المشترك «شارع الحب» وغنى كل منهما منفردا ، وفريد الأطرش شاركته الغناء فى أفلامه ثلاث مطربات من أصل أربع فقط ظهرن معه ، هن: صباح ونور الهدى وشادية ، فيما كان عبد الوهاب أكثرهم اهتماما بالديالوج أو الثنائيات الغنائية حيث غنت معه كل بطلاته المطربات : نجاة على وليلى مراد ورجاء عبده ونور الهدى ، بالإضافة إلى صوت أسمهان الذى شاركه جزء من أوبريت « مجنون ليلى» فى فيلم «يوم سعيد» والممثلة راقية إبراهيم التى غنت معه فى ديالوج « حكيم عيون « ضمن أحداث فيلم «رصاصة فى القلب» .
أما محمد فوزى فكل بطلاته المطربات (ثمانى مطربات ) شاركنه الغناء بالإضافة إلى كل من :عقيلة راتب ونعيمة عاكف، فإذا ما أضفنا إلى كل هؤلاء فنانين مثل إسماعيل ياسين وشكوكو وعزيز عثمان وسليمان نجيب وحسن فايق ومحمد البكار وثريا حلمى غنوا معه فى أفلامه أدركنا إلى أى حد كان محمد فوزى مهتما بكافة قوالب وأشكال الغناء، فغصت أفلامه بالاستعراضات الكبيرة، ومنها : «سندريللا» فى فيلم «مجد ودموع» سنة 1946 إخراج أحمد برد خان ، «مملكة الشياطين» و«المريخ» فى فيلم «حب وجنون» سنة 1948 إخراج حلمى رفلة ، «نجوى الربيع» فى فيلم « نرجس» سنة 1948 أيضا إخراج عبد الفتاح حسن، «الوجوه المقنعة» و «بنت باريز» فى فيلم «بنت باريز» إخراج حلمى رفلة سنة 1950 ، «أبطال الغرام» فى فيلم «الآنسة ماما» فى العام نفسه ومن إخراج حلمى رفلة أيضا الذى قدم معه فى السنة ذاتها استعراضى «ألف ليلة» و «السندباد العصرى» فى فيلم « غرام راقصة» ثم أعقبه المخرج نفسه فى العام التالى باستعراض «جنينة الغرام» فى فيلم «الحب فى خطر» ثم «بياع الفوانيس» فى فيلم «يا حلاوة الحب» سنة 1952 إخراج حسين فوزى ، «الأزياء» و«الزهور» فى فيلم « بنات حواء» إخراج نيازى مصطفى سنة 1954 ، ثم أخيرا استعراض «النبع» فى آخر أفلامه «ليلى بنت الشاطئى إخراج حسين فوزى سنة 1959 .
وحرص محمد فوزى كذلك على تقديم الثنائيات الغنائية (ديالوج) والتى كان أشهرها: شحات الغرام وفيه حلجة «شاغلاك» مع ليلى مراد فى فيلم «ورد الغرام» سنة 1951 إخراج بركات ، ومع صباح «أنت حبيت» من فيلم « الحب فى خطر» سنة 1951 و «مثلا» من فيلم « فاعل خير» عام 1953 ، و« يا ميت ندامة» مع فايزة أحمد من فيلم «ليلى بنت الشاطئ» سنة 1959 ، وأيضا ديالوج «عاوز أقولك» مع نور الهدى تأليف فتحى قورة فى فيلم «غرام راقصة» سنة 1950 الذى أعاد كل من شادية وعبد الحليم حافظ تقديمه بشىء من التعديل فى فيلم «لحن الوفاء» سنة 1955ولكن من تلحين منير مراد هذه المرة، كذلك قدم محمد فوزى بعض الثنائيات الغنائية مع أصوات غير محسوبة على عالم الغناء بعيدا عن بطلات أفلامه كما حدث مع إسماعيل ياسين فى ديالوج « ياللى انت عاوز تعرف» فى فيلم «نهاية قصة» سنة 1951 وديالوج «يا بختك يا قلبى» فى فيلم « من أين لك هذا» العام التالى مباشرة ، أو ديالوج « الغرام هو» مع عزيز عثمان فى فيلم « بنت باريز»سنة 1950 .