فى كتابه «المضحكون»، الذى صدر منتصف عام 1971، قبل وفاة إسماعيل يس بعام، شبه الناقد الكبير محمود السعدنى، الفنان إسماعيل يس – بعد عودته من لبنان عام 1970- بالجيش الألمانى فى الحرب العالمية الثانية، حيث قال: «هو نفس الفخر الذى يشعر به قادة الجيش الألمانى فى الحرب العالمية الثانية، صحيح أنهم حققوا انتصارات عظيمة، لكن النتيجة كانت الهزيمة الكاملة! صحيح أنهم زحفوا إلى مشارف موسكو، لكنهم وقعوا وثيقة استسلام فى برلين نفسها»، فى ذكراه قررنا أن نزور منزله ونتعرف على عائلته
من خلال لقاءنا بزوجة ابنه السيدة سامية شاهين، فجاءت هذه الأسرار..
تحت عنوان «الغلبان» لخص السعدنى حال إسماعيل يس فى الفصل الذى خصصه عنه فى هذا الكتاب بأنه «لم يكن يحلم بأن يكون أكثر من مونولوجست، يضحك المعازيم فى الأفراح، والليالى الملاح، لكنه بالصدفة أصبح أشهر مونولوجست فى مصر، وبالصدفة دخل السينما، وبالصدفة أصبح بطلاً، ثم أصبح البطل الوحيد للسينما المصرية، وعلى مدى 15 عاماً، ثم أصبح هو اسم الفيلم، وفجأة تدحرج من القمة إلى القاع».
وكتب السعدني: «لابد أن تكون مأساة إسماعيل يس درساً لكل المضحكين اللامعين الآن، ومادة للدراسة لكل المهتمين بالفنون».
فما هو الدرس، وما هى تلك المأساة التى عاشها ذلك المضحك، ومن كان السبب فيها.. وهل استوعب ابنه هذا الدرس.
«إسماعيل يس إسماعيل يس إسماعيل يس إسماعيل يس نخلة» هذا هو الاسم الكامل، للطفل المولود فى السويس فى 15 سبتمبر 1912، والابن الوحيد لأب صائغ، لديه محل لتجارة الذهب.
يشاء القدر أن تتوفى أم هذا الطفل، قبل أن يكمل عامه العاشر، فلم يكمل تعليمه الابتدائى، ويتعرض الأب يس للإفلاس، بعد أن أساء فى إنفاق دخله، مما عرضه لدخول السجن، فعاش الطفل إسماعيل فى كنف جدته لأمه حياة قاسية، لم يجد فيها الحنان ولا الرعاية.
أحب إسماعيل منذ صباه الاستماع الى أغانى عبد الوهاب، وحلم بأن يكون مطرباً منافساً له، وفى أحد أيام عامه السادس عشر سرق ستة جنيهات من المرتبة التى كانت تخبئ فيها جدته النقود، وسافر بها إلى القاهرة، محاولاً عرض موهبته فى الغناء على أكثر من مكان.
أنفق الجنيهات الستة خلال أيام، ولكن صوته لم يعجب أحداً ممن قابلهم «لأن صوته لم يكن جميلاً، بل كان يجيد الأداء الغنائى»، كما تقول السيدة سامية شاهين زوجة ابنه المخرج يس، رحمه الله.
لجأ إسماعيل إلى مسجد «السيدة زينب»، وحكى حكايته لشيخ الجامع، فنصحه بالعودة إلى أهله فى السويس، وبالفعل نفذ نصيحة الشيخ، وعاد إلى جدته.
المونولوجست الأول
وعندما بلغ الصبى الثامنة عشرة من عمره، فى فترة الثلاثينيات قرر المجىء مرة ثانية إلى القاهرة، عله يجد من يؤمن بموهبته هذه المرة، وحدث أن قابل المونولوجست الشهير سيد سليمان، الذى استمع لموهبته، وتنبأ له بأن يكون المونولوجست الأول فى مصر؛ لأنه رأى فى ملامح وجهه وحركاته، ما يساعده على أداء المونولوج.
وخلال تواجده فى القاهرة، تنقل الشاب إسماعيل بين أكثر من عمل، منها مقاهى شارع محمد على، وفى الأفراح الشعبية، كما عمل وكيل محامٍ فى مكتب أحد المحامين.
وقاده القدر إلى مقابلة المؤلف أبوالسعود الإبيارى، ومن وقتها كونا ثنائياً كتب له النجاح، فألف له الإبيارى بعض مونولوجاته الشهيرة، حتى أصبح إسماعيل يس المونولوجست الأول فى مصر.
وفى الأربعينيات أصبح يقدم مونولوجاته فى الإذاعة المصرية، نظير أربعة جنيهات لكل مونولوج.
فى سنة 1939 اختاره فوزى الجزايرلى ليمثل معه فى فيلم «خلف الحبايب»، لتبدأ مسيرته الفنية فى السينما.
خلال هذه السنوات كان إسماعيل قد تزوج ثلاث مرات، والأخيرة «فوزية»، والدة ابنه الوحيد يس، سنة 1949.
الممثل.. واسم الفيلم معاً
توالت أعماله السينمائية، وكون ثلاثياً سينمائياً فى 1955 مع أبو السعود الإبيارى والمخرج فطين عبد الوهاب من أهم الثلاثيات فى تاريخ السينما المصرية، وقدموا معاً أكثر من ثلث ما مثل إسماعيل يس فى السينما، وحمل عنوان أغلبها اسم «إسماعيل يس»، مثل «إسماعيل يس فى الجيش»، «إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة»، «إسماعيل يس طرزان»، «إسماعيل يس للبيع»، «إسماعيل يس فى مستشفى المجانين»، وغيرها.
وتنقل السيدة سامية على لسان زوجها يس إسماعيل يس قوله: «على الرغم من أن الطابع الكوميدى كان غالباً على كل أفلام أبى، لكنه استطاع أن يغير جلده فى فيلم (صاحبة العصمة) مع تحية كاريوكا وزينات صدقى، فقد قدم فيه التراجيديا والدراما، بعيداً عما اعتاد عليه من الأداء الكوميدى».
تراث مسرحى ضائع
عشق إسماعيل يس المسرح، وكون فى الخمسينيات فرقة «إسماعيل يس المسرحية»، ليقدم نحو 66 مسرحية، التي سجل التليفزيون المصرى أغلبها، «لكن للأسف تم مسح كل هذا التراث المسرحى، ولم يتبقَ منه سوى مسرحية واحدة من فصلين، اسمها (كل الرجالة كده)، لأنه كان يتم تسجيل مواد أخرى على نفس الشرائط، فمسحت المواد القديمة» كما تؤكد سامية.
وتضيف سامية شاهين زوجة ياسين إسماعيل يس ابن فناننا المبدع: فى أواخر الستينيات عانى إسماعيل يس من مرض النقرس، وكانت قدماه تتورمان وهو يؤدى المسرحية على المسرح، لدرجة أنه كان يقطع بنطلوناته من الأسفل لتتسع قليلاً، وكثيراً ما كان يكمل باقى العرض وهو جالس على الكرسى.
كان إسماعيل يعرض مسرحياته على مسرح «سينما ميامى» بوسط القاهرة مستأجراً المسرح، وفى الإسكندرية استأجر مسرحاً أطلق عليه اسم «مسرح إسماعيل يس»، لعرض مسرحياته.
ورغم هذا الانتشار والتواجد، يصف محمود السعدنى فى كتابه «المضحكون» مسرح إسماعيل يس بأنه «كان مسرح إسماعيل يس هو المسرح الوحيد القادر على تقديم رواية جديدة كل أسبوع، فالمؤلف أبوالسعود الإبيارى قادر على تأليف رواية فى 3 ساعات، ولا شىء يهم إذا كانت الرواية الجديدة فيها نفس حوادث الرواية القديمة، ولا يهم إن كان إسماعيل يس يردد نفس النكت التى رددها من قبل!».
هروب النجوم من حوله
ويمضى السعدنى فى وصف مسرح إسماعيل يس قائلاً: «صحيح أنه سيظهر حول إسماعيل يس على المسرح ممثلون لهم أسماء لامعة وشهرة عريضة، لكنهم لن يكونوا أكثر من بطانة التواشيح، ولهذا سيهرب هؤلاء الممثلون واحداً تلو الآخر من مسرح إسماعيل يس، وهو لن يهتم برعاية موهبة جديدة أو تنمية فنان موهوب، ولهذا هرب من مسرحه عبد المنعم إبراهيم وعدلى كاسب، وبدر الدين جمجوم ونور الدمرداش وصلاح منصور، وسيبقى محمود المليجى ليأخذ أجره عن كل ليلة، وبعد مرور سنوات طويلة تغير كل شىء حول إسماعيل يس، لكنه لم يتغير، ولم يستطع أن يراقب حركة نمو المجتمع».
جنيهان فى رصيده
فى عام 1956تبرع إسماعيل يس بألفى جنيه للمجهود الحربى، وفى عام 1966 كان لديه فى البنك 300 ألف جنيه، فذهب ليسحب مبلغاً من المال، فلم يجد فى حسابه سوى جنيهين، وعرف أن الضرائب هى من سحبت هذا المبلغ، بعد أن قدرت عليه هذا المبلغ تقديراً جزافياً، وعلى أثر هذه الواقعة أُصيب بالشلل النصفى، وظل يعالج منه نحو 6 أشهر.
بين لبنان وسوريا
بعدها قل معدل ما كان يقدمه من أفلام، وبعد حرب 1967 سافر للبنان، على غرار ما حدث مع الكثير من الفنانين، وبقى هناك 4 سنوات، مثل فيها العديد من المسلسلات والإعلانات، وقدم مونولوجات، واستطاع أن يجمع الكثير من المال، فقرر أن ينشئ مسرحاً باسمه فى سوريا، لكن مسرحه لم يحقق أى نجاح، وخسر النقود التى جمعها فى لبنان، ليعود لمصر عام 1970.
مؤامرة
لم يحالفه الحظ عند العودة لمصر، فكان كلما اتفق على التمثيل فى فيلم، كان المخرج لا يكمل الإعداد للفيلم، وقال البعض إن ما حدث معه كان مؤامرة لصالح إظهار جيل «مسرح التليفزيون»، فلم يجد أمامه سوى العمل فى الملاهى الليلية، ليقدم مونولوجاته، وفى 1971 مثل فيلماً مع ابنه «نصف مليون جنيه» من إخراج حمادة عبد الوهاب، ومن تأليف الابن يس.
ويسترسل السعدنى فى وصف حال إسماعيل يس، فى كتابه، فيقول: «لم يعد أحد يهتم بالرجل، الذى كان فى يوم ما علماً على الفكاهة فى مصر، وانزوى الضاحك الغلبان، وكأنما هو الآخر استعذب الاختفاء، وضاع إسماعيل يس، ولكن ضياعه كان حكماً على مدرسة الكروتة... والاستخفاف بعقول الناس. سيبقى إسماعيل يس مكانه فى الظل يجتر ذكريات مجده الذى ولى، وسيظل يشعر بينه وبين نفسه بالفخر على ما حقق من انتصارات، ولكن هل إسماعيل يس هو المسئول وحده عما حدث، أعتقد أن هناك مسئولين كثيرين عن نهاية إسماعيل يس، ولكن إسماعيل نفسه لم يكن من بينهم».
ورغم هذا الوضع كان لدى السعدنى الأمل فى إمكانية أن يعود إسماعيل يس إلى الأضواء مرة أخرى، مستنداً إلى موهبته، لكن بشرط ذكره فى نفس الكتاب: «الذى لا شك فيه أن إسماعيل يس فنان موهوب وخفيف الدم إلى أبعد الحدود، وله حضور لدى الجمهور، وهو حتى هذه اللحظة أقدر الجميع على إضحاك البسطاء من الناس؛ لأنه بسيط مثلهم وغلبان مثلهم، وضعيف الحيلة مثلهم. إنه قادر على العودة من جديد إذا قيض الله له من يعيد صياغته ويعيد تقديمه للجمهور، وإلا سيبقى كمأساة وأسطورة غريبة، حدثت بالفعل».
لكن الواقع أن القدر لم يمهل إسماعيل حتى يجد من ينقذه من تلك النهاية، فبعد وفاة صديقه فطين عبد الوهاب، أُصيب باكتئاب، ونصحه الطبيب بأن يذهب لشقته فى الإسكندرية ليغير الجو، لكنه عاد منها إلى القاهرة بعد عشرة أيام فقط، وتوفى فى الليلة التى عاد فيها من الإسكندرية، بعد 10 أيام من وفاة صديقه فطين، عن عمر يناهز 59 سنة.
ميراث إسماعيل يس
بعد وفاة إسماعيل يس أراد البنك أن يحجز على عمارته، تمهيداً لبيعها، لسداد القرض الذى أخذه من البنك ليبنى به تلك العمارة، لكن يس ابنه قرر أن يبيع العمارة، ليسدد من ثمنها قرض البنك، فباعها عام 1972 بنحو 56 ألف جنيه، ورد للبنك 28 ألف جنيه منها، هى قيمة ما كان عليه سداده، والباقى عاش به هو ووالدته.
كان إسماعيل قد اشترى قطعة أرض فى شارع حسن صبرى بجزيرة الزمالك، وحصل على قرض من البنك ليبنى عمارة بارتفاع 6 طوابق، وبالفعل بناها وسكن فى آخر طوابق العمارة، وهى العمارة التى لازالت موجودة ومكتوب على واجهتها بالرخام «عمارة إسماعيل يس» هكذا تقول سامية شاهين زوجة ابنه.
ويحكى الابن يس لزوجته عن شقة الطابق الأخير: «كان فيها روف كبير نلعب فيه الكرة، ومصعد العمارة يفتح مباشرة فى شقتنا، لكن تركنا الشقة، ليأتينا منها عائد، وسكنا فى الطابق الأرضى بعمارة أخرى رقم 138فى شارع 26 يوليو بالزمالك، ذات 7 غرف، خصص واحدة منها كمكتب، يقابل فيها زملاءه الفنانين، ومنهم عبد الحليم حافظ وصديقته تحية كاريوكا ومحمود المليجى، وفريد الأطرش وسعاد مكاوى، وخيرية أحمد وزينات صدقى».
قبل أن ينتقل إسماعيل يس وأسرته للحياة فى الزمالك، كانوا يسكنون فى فيلا استأجرها بحى مصر الجديدة، ولا تزال موجودة حتى الآن.
فى الزمالك كان يس الابن زميلاً لخالد عبد الناصر ابن الزعيم جمال عبد الناصر، فى مدرسة واحدة فى الزمالك، وكان خالد وإخوته يأتون لبيت يس لحضور أعياد ميلاده، حسبما حكى يس لزوجته.
بعد وفاة إسماعيل يس، عاش يس مع والدته فى شقة بالهرم، بجانب أكاديمية الفنون، ومثل والده تزوج يس من ثلاث سيدات، آخرهن السيدة سامية شاهين سنة 1983، التى تعرف عليها عندما ذهب مع والدته لزيارة أقارب لها فى الإسكندرية، حيث مسقط رأسها وعائلتها، وبالصدفة رأى سامية فى نفس عمارة أقارب والدته، وتوفيت والدته بعد زواجه بأشهر، فى عام 1984.
وأنجب يس من سامية ابنتيه سارة، صيدلانية، وسلمي خريجة إعلام، وكلتاهما تزوجت وأنجبت كل واحدة طفلين.
حياة درامية
حصل يس على مجموع 86 % فى الثانوية العامة، والتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم تركها والتحق بكلية الآداب، ولم يكملها والتحق بمعهد السينما، وخلال امتحانات السنة الأولى بالمعهد توفى والده، فلم يكمل الامتحان، ولم يكمل الدراسة.
ومع هذا سار يس على خطى الأب، منذ كان عمره 9 سنوات، عندما شاركه التمثيل فى فيلم «إسماعيل يس فى البوليس الحربى»، بتشجيع من الأب، كما مثل معه آخر أفلامه «نصف مليون جنيه»، وكان عمره وقتها 22 سنة. لكن يس رفض أن يمثل ثانية، لأنه رأى فى نفسه ممثلاً سيئاً، حسبما قال لزوجته سامية.
كتب يس سيناريوهات بعض الأفلام بتشجيع من والده أيضاً، كما كتب سيناريو البرنامج الإذاعى الشهير «46120 إذاعة»، وكان عبارة عن حلقة بوليسية يليها سؤال عن شخصية فى الحلقة، سواء القاتل أو الضحية أو السارق أو غيره، وظل يس وفياً لخطى والده، وكان يحب رائحة البلاتوهات، ويقول لزوجته «رائحة بلاتوهات السينما لا تذهب من أنفى».
وجد يس نفسه فى إخراج وتأليف الأفلام الأكشن والأفلام البوليسية، مثل أفلام «عاد لينتقم»، و«الشيطان يغنى»، كما أخرج بعض المسلسلات التليفزيونية، وكان آخرها مسلسل «بنات عمرى» بطولة نيرمين الفقى، من تمثيله وإخراجه.
وتروى زوجته سامية شاهين، أنه بكى خلال عرض آخر حلقات المسلسل، وقال: «باين عليه آخر عمل لى»، لأنه كان مريضاً وقتها، وبعدها بنحو 20 يوماً توفى يس، عن عمر 59 عاماً، مثل والده تماماً، ومات مستوراً لم يمد يده لأحد، كما تحكى زوجته.
وتضيف سامية: أخذ يس من والده، الالتزام فى الفن، وحب الفن للفن، وليس وسيلة لكسب المال، فلم يكن يطرق أبواب المنتجين، لكن كان يطرق أبواب الجهات الحكومية، مثل شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، وقطاع الإنتاج فى التليفزيون المصرى.
وتطالب سامية كثيراً بأن يسمى مسرح سينما ميامى بوسط القاهرة، باسم «مسرح إسماعيل يس»، لكن هذا الطلب لم يتحقق حتى الآن، وإن كان محافظ السويس، تحسين شنن، افتتح مسرحاً بالسويس يحمل اسم «إسماعيل يس».