الإثنين 25 نوفمبر 2024

الشيخ البهتيمى والعمامة الحمراء

الشيخ البهتيمي

15-4-2023 | 14:04

يعود الإنشاد الدينى فى مصر إلى بداية القرن الـ 20؛ وتتجلى روعة الإنشاد الدينى الذى يتغنى بمحبة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبة آل بيته الأطهار، فى كونه محببا للعديد من طبقات المجتمع، وتنشط ليالى إنشاد قصائد المديح النبوى فى الليالى الختامية للموالد والمناسبات الدينية، حيث تتزايد مشاركة كبار المنشدين بإحياء الليالى الرمضانية التى تعد السهرة الروحية المفضلة لدى المصريين فى هذا الشهر الكريم.. اسمه بالكامل الشيخ محمد زكى يوسف البهتيمى الشهير بكامل البهتيمى من مواليد حى بهتيم بشبرا الخيمة محافظة القليوبية عام 1922م، كان والده من حفظة كتاب الله الكريم، وأراد لابنه كامل أن يحذو حذوه؛ فألحقه بكتاب القرية وقت أن كان عمره لا يزال 6 سنوات فقط، وبالفعل أبدى الابن نبوغا مبكرا وأتم حفظ القرآن قبل بلوغ 10 سنوات من عمره فكان يذهب إلى مسجد القرية بعزبة إبراهيم بك المتاخمة لقريته سيرا على الأقدام ليقرأ القرآن على المصلين قبل صلاة العصر دون أن يأذن له أحد بذلك، كان ذلك مبعثه ثقته بنفسه التى باتت واضحة فى هذا السن المبكرة، حيث إن ترتيل القرآن الكريم أو تجويده أو أداء التواشيح والابتهالات على حشد من الجمهور، يحتاج ثقة كبيرة حيث إن الجمهور من بينهم بالطبع من يحفظ القرآن بقراءاته المختلفة؛ فإن أخطأ الشيخ الصغير يكون من السهل اكتشاف الخطأ، ليس هذا فقط علامة الشجاعة الوحيدة لدى شيخ بهتيم الصغير؛ بل إنه كان يطلب من مؤذن المسجد أن يسمح له برفع الأذان بدلا منه، ليكتشف المصلون أنهم أمام قارئ موهوب يملك صوتا عريضا له حلاوة فى الآذان، يخترق القلوب كشهاب مضئ، خاشع، تقى، ورع. لكن ثمة عائقا كان ينتظر الصبى كامل البهتيمى، عندما رفض مؤذن المسجد ترك المأذنة ومكبر الصوت له، لم ييأس الشيخ الصبى ولم يفقد الثقة بالنفس؛ بل ظل ذلك الطفل الموهوب محمد زكى يوسف الشهير بكامل البهتيمى على عهده يقرأ القرآن بالمسجد بصوت مرتفع وبمقامات صحيحة؛ ليستمر فى جذب انتباه المصلين إلى أنه ليس طفلا؛ بل هو قارئ ينافس مشاهير القراء، لا تنقصه حلاوة الصوت ولا أسس القراءة بقواعدها السليمة، حتى تنامى وتزايد محبوه وعشاق تلاوته وفى كل يوم يجذب انتباه مصلين جدد يلتفون حوله بعد أن يفرغوا من صلاة العصر، يستمعون إليه وهو يجود آيات الذكر الحكيم بصوت كأنه بمدد من السماء ينافس مشاهير القراء، زاد الإعجاب وكثر جمهوره، بعضهم تتبعه إلى حيث بيته وأسرته، يسألون عنه ويرجون أسرته أن يشملوه بمزيد من الرعاية، يوما بعد يوم كان يزداد عدد معجبيه، ولم يحدث أن نال شهرته أحد من قبله فى هذه السن المبكرة؛ وأمام ضغط هائل من جمهوره، سمح له مؤذن المسجد برفع الأذان بدلا منه تشجيعا له، ونبوءة بأنه سيأخذ مكانه يوما قريبا، انطلق الشيخ الصغير سنا، الكبير فى عيون القرية، رفع الأذان؛ فخشع الحاضرون لخشوعه، بدأت الدائرة تتسع بجمهوره فى حلقة تلاوته للقرآن الكريم وأصبحت من المواعيد التى يتفرغ لها أبناء القرية بعد انتهاء أعمالهم، حتى أصبحت القرية الصغيرة مزارا ومعلما دينيا يضم بين جنباته قارئا موهوبا فريدا فى صوته وفى خشوعه، حتى أنه كان يُبكى المصلين من فرط الصدق فى التلاوة والضغط على حروف الآيات بمقدرة الدارس للمقامات وكأنه يفسر الآية ويشرحها مع التلاوة، ذاع صيت الصبى كامل البهتيمى وانتشر فى ربوع القرى المجاورة وأخذ الناس يدعونه لإحياء المناسبات الدينية؛ كان والده فخورا به؛ فهذه هى الطريق التى رسمها له وأراد الله أن يوفقه فيه، كان يرافقه لسنوات عديدة وينظم له مواعيد حفلاته، يطوف معه القرى والنجوع، يطرب لسماع آهات المستمعين لابنه الشيخ صاحب العمامة الحمراء، ولكن إشفاقا من الابن البار طلب من والده أن يخلد إلى الراحة واستعان برجل من أبناء نفس قريته ليساعده فى مهمة السفر وشد الرحال، ليستقل عن أبيه بعد أن أصبح قارئا معروفا واعترافا بموهبته تم تعيينه قارئا لقرآن يوم الجمعة بمسجد القرية، كان أهل القرية بشبابها وعجائزها وأطفالها يفترشون حصير المسجد منذ الصباح المبكر حتى يجدوا مكانا لهم قبل تدفق أهالى قرى القليوبية وبعض أهالى القاهرة ومحافظات الدلتا وكأن قرآن الجمعة بصوت الشيخ الصغير وحد أهالى المحافظات المتلاصقة وكانوا يهللون ويكبرون وكأنها تكبيرات العيدين فى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، زحام غير مسبوق، كل ذلك وكامل البهتيمى لا يزال صبيا يافعا حاول الأهالى أن يجمعوا من بعضهم البعض قروشا قليلة يدسونها فى جيب جلباب الشيخ امتنانا منهم له، وفى كل مرة يرفض الشيخ البهتيمى أن يتقاضى أجرا من أبناء القرى فى مسجد بهتيم الكبير الذى زاد واتسع، وظل على رفضه تقاضى أجر من أبناء قريته طوال حياته حتى بعد أن أصبح قارئا معتمدا واتسعت رقعة شهرته فى التلاوة والإنشاد لتشمل معظم بلدان العالم؛ فأصبح الشيخ كامل البهتيمى قارئا ومنشدا له مدرسة خاصة به وأسلوب عرف به فى أداء التواشيح والإنشاد الدينى والمديح، بعد أن انضم الشيخ البهتيمى قارئا ومنشدا معتمدا بالإذاعة عام 1953م، وعين قارئا بمسجد عمر مكرم بوسط القاهرة ، حتى توفى وهو يؤدى الصلاة في يوم السادس من فبراير عام 1969م. فؤادى غدا من شدة الوجد فى ظمأ إلى نحو من فوق السماوات قد سما ولولاه ما اشتقت لحطيم وزمزما شغفت وقلبى مات فى الحب مغرما.