الجمعة 26 ابريل 2024

مسلسل ( ستهم ) والدور الحقيقي للدراما


د.ناهد الطحان

26-4-2023 | 18:06

الناقدة د. ناهد الطحان
عانت المرأة في مجتمعنا عبر الزمان من التقاليد والأفكار الخاطئة المتوارثة ، والتي شكلت معيارا للتعامل مع الأنثى في كل أطوارها ، طفلة وصبية وزوجة وأختا وأما ، ورغم سن القوانين الإلهية في القرآن الكريم وعبر التشريع القانوني إلا أننا نجد من يقف أمامها جامدا متكبرا عن تنفيذها ، مما يعني التعنت والتسلط والتملك رغم حرص الدولة في هذا العصر على تفعيل القوانين وتوعية المجتمع بغية تحرير المرأة من سجن أنوثتها الذي يجعلها مواطنا من الدرجة الثانية لا حق له في معاملة كريمة وحرية إرادة أو ميراث شرعي يرضاه الله ويرضاه العقل والمنطق . هذا ما دار حوله بكل قوة مسلسل ( ستهم ) هذا العام تأليف ناصر عبد الرحمن وبطولة الفنانة القديرة روجينا وتصوير وإخراج رؤوف عبد العزيز ، ليؤسس لفكر أكثر رحابة وبمنطق درامي يحكم علاقات الأخوة وعلى رأسهم ( رماح ) الذي يقوم بدوره الفنان جهاد سعد ، والفنانة الكبيرة ( روجينا ) في دور ستهم والتي استطاعت عبر سجالات حوارية درامية أن تكشف زيف منطق رماح الأخ الأكبر الذي استخدم القوة والعنف تجاه أخوته لفرض قانونه الخاص ، فحرم البنات من ميراث أبيهم غانم ، كما أعطى إخوته الرجال بعض الحقوق بعد أن أقنع الجميع أنه يحافظ على مال أبيهم ، لكن هذا الأمر لا يقنع ( ستهم ) التي تقوم الفنانة روجينا بدورها بإقتدار ومعايشة عبر مواقف درامية غاية في التصعيد بينها وبين ( رماح ) فترفض الإستغلال ، وترفض هذا الشرع الشاذ الذي يضعه رماح وكأنه منزل من السماء ، وتقف أمامه كرجل يحمل معه كل مقومات القوة والعقل ، وعندما يمارس عليها ( رماح ) القوة تقرر أن تهرب من هذا الجحيم لمكان آخر من صعيد مصر بعد أن تحلق شعرها تماما في مشهد أبكى الجميع وصور اصرار المرأة حين تظهر قوتها الحقيقية ، وليس الضعف كما يعتقد البعض ، ويعد هذا المشهد من أقوى ما قدمت الدراما التليفزيونية ، لتتجه بعد ذلك بإبنتها الوحيدة بعد أن قتل زوجها وسط الرجال ومات ابنها في حادثة مؤلمة ، تتجه لمجتمع الرجال فتسعى على رزقها رفضا لمنح رماح ، فتعمل بالعباءة الصعيدية في أعمال متوالية في البناء ومع الفوال وبائع أنابيب ومنادي عربات في الموقف ، لتدلل على قدرة المرأة بلا حدود على التعاطي مع مشكلاتها والسعي بقوة من أجل العيش دون خوف أو رهبة ، وهو ما حدث بالفعل عبر مواقف غاية في التأثير من جانب الفنانة روجينا عبر تحولات الشخصية المؤثرة ، والتي أرى أن هذا العمل يحسب لها كأفضل عمل درامي قامت به وكأفضل مسلسل تليفزيوني هذا العام ، لأن العنف ضد المرأة وقضية التوريث وعدم الإعتراف بحقوق المرأة هي أبجديات التعامل مع ملف المرأة، إذ يمثل ذلك أساسا للتعامل مع مشكلاتها بشكل عام، كمواطن في مجتمع يرفض القهر ويدافع عن حقوق مواطنيه ، فقد خلقت المرأة بأدوارها المختلفة نصفا للمجتمع ، بل إن مهمة نهضة المجتمع تقوم عليها في المقام الأول . إن ستهم ترفض أن تعود لرماح القاسي القلب الذي لا هم له سوى جمع المال وتحقيق حلم الأبوة، اذ يهرع في خط درامي مواز مؤكدا على قساوته وسطوته للإستيلاء - بعد التلويح بالمال لنجات أخته التي حرمت من رثها هي الأخرى – على مولود نجات أخته بحجة إحتياجه للأبوة كي يحافظ الطفل على ورثه بعد مماته بل ويقنعها أنها صاحبة أولاد يحتاجون لهذا المال ولن يضيرها التنازل عن المولود الجديد وهو ما يتحقق فيسبب كارثة لنجات ولزوجها الذي كان دائم الرفض لهذا الفعل المشين انسانيا ، فيموت الطفل على يد نجات بعد حرم من أمه الحقيقية وبعد أن رفض الرضاعة من أخريات في قسوة إنسانية دالة على بشاعة رماح ومدى وحشيته ، وتعامله مع البشر بمنطق المال والسلطة. في حين تعود ( ستهم ) من الإسكندرية بعدما أقامت مع أخيها الطيب المحب ( مصطفى )- الذي ترك كل شيء لرماح بدوره – لتفتح ورشة أبيها التي أوصى أن تكون لها تفتحها وتعمل بيديها في حجر الألاباستر وتكسب تجارتها وتصدر إلى الخارج وتصبح الورشة مصنعا كبيرا ، في الوقت الذي تستولي سعادات وزبيدة زوجتا رماح على كل شيء بعد أن زوجت سعادات رماح لزبيدة ابنة عمها كي تنجب الولد وهو ما يتحقق بالفعل و بعدها تهرب زبيدة بكل شيء وتتبعها سعادات ويفقد رماح أمواله وأموال أهل القرية التي يتاجر بها ويتعرض للمساءلة القانونية ويهرب بعد أن تسبب بكارثة ، وأصبح مطاردا ، ويتواصل مع مصطفى أخيه ومع جبر الأخ الأوسط بغية أن يرى ابنه التي هربت به زبيدة ، وعندما تساعده ستهم على اعادة ابنه يطلب رماح منها في موقف مؤثر أن تقوم بتربيته لأنه لا يثق إلا فيها ، ويختفي في نهاية درامية حتمية تمثل نهاية لكل متسلط وكل مخالف لشرع الله . أما جبر أخو رماح الذي يمثل دوره بنجاح الفنان محمد عبد الحافظ فقد مثل ذلك الدور المتأرجح والمتردد بين خوفه من رماح وحبه لأخته ستهم وهو ما استنكرته ستهم عليه لأنه بذلك أضاع حقوقهم ولم يقف في وجه رماح بقوة من أجل الحقوق التي أضاعها . إن رماح هنا يمثل كل استغلال في بعض مجتمعاتنا التي مازالت تتناسى حقوق البعض وتتعامل بمنطق الغاب ، كما يعبر عن نظرة المجتمع للمرأة ككائن ضعيف وهو ما حاولت ( ستهم ) أن تذيبه عندما قالت في مشهد مؤثر مع بوسي التي تقوم بدورها الفنانة الصاعدة ( مريم أشرف زكي ) عندما اكتشفت الأخيرة أنها امرأة وليست رجل ، قالت لها ستهم وبكل قوة وربما يأس بعدما عانت من قسوة الناس على المرأة ( اللي عايز يشوفني حرمة يشوفني واللي عايز يشوفني راجل يشوفني ) . إن ( ستهم ) تمثل تلك القوة داخل كل أنثى فينا، تلك القوة التي تستدعيها كل أنثى وقت الخطر لأنها كامنة بداخلها وليست بعيدة عنها ، من هنا أكد المؤلف ناصر عبد الرحمن ( من ناحية التأليف والسيناريو والحوار الذي جاء قويا وانسانيا ومنطقيا ومعبرا عن الروح المسيطرة على المسلسل) والمخرج المتميز رؤوف عبد العزيز والأداء التمثيلي المعبر الصادق على أهمية وجود المرأة في المجتمع وقوة تأثيرها لأنها هي من يبني مصر ويبني مجدها . اذ شحن الأداء التمثيلي كل طاقته بنجاح ممثلا في النجمة روجينا وهي الشخصية الرئيسية في العمل والأكثر تأثيرا والتي أدت بمعايشة وامتلاك لأدوات الممثل المؤثرة والمتحولة والمؤكدة على رسالة الشخصية عبر روح الغضب العارم بداخلها الناتجة من رفض المجتمع لها وهو ما ظهر في أدائها في قسوة وجهها عندما قسى قلبها على من ظلمها وعلى ما عاشت من محن ، وبصفاء روحها وحبها بلا حدود لزوجها وابنها ولأخوتها وللعالم الطيب من حولها والذي انعكس على تعبيرات وجهها بابتسامتها الرقيقة ونظراتها الحانية والتلوين الصوتي والحركي من صوت امرأة لرجل ومن حركة امرأة لحركة رجل والعكس، والذي يتسم بالقوة كعاملة أنابيب أو كعاملة بناء أو كرجل يتحدث بصوت ستهم الإنثى وبداخله مصالحة نفسية مع العالم كله ، مما يكشف عن المغزى الجوهري للمسلسل ، أن المراة بداخلها القوة وهو ما جعل المسلسل ينتهي وستهم ترتدي ثياب الرجال وبصوت نسائي في دعوة للقوة مع اللين والمحبة والسلام ، كما أن جهاد سعد عبر بكل قوته عبر ملامح قاسية وتلوين صوتي مؤثر على بشاعة قسوته من جهة وعلى انكساره النفسي في النهاية من جهة أخرى، أما جبر فظهر بما يؤكد على شخصيتة من حالة الحيرة والجبن والخوف من رماح وحالة حبه في نفس الوقت لستهم وهو ما تماس مع الخط الدرامي ، كذلك مصطفى بأدائه الهاديء وتجنبه للمشاكل طوال الوقت وعجيبي بروحه الصوفيه الجميلة . أما الخط الدرامي الموازي فقد برزت فيه الممثلة ( غادة طلعت ) التي أدت فيه دور نجات أخت ستهم برضاها وخوفها من رماح فتبيع طفها وبنكستها في فقدان الطفل ثم وفاته في حين يرفض زوجها ( عجيبي ) الصوفي عازف الناي هذا السلوك لأن الرزق يوزعه الخالق كيف يشاء ولأن الطفل جزء منهما ، وعندما يواجه عجيبي رماح ويطلب ابنه يظهر رماح شهادة ميلاد الطفل باسم رماح غانم ، فيسقط في يده ويبتعد عن الجميع وعن نجات ويعيش حياته الصوفيه بعيدا عن هذا العالم القاسي للعزف مع عم ياسين التهامي في المحافل الدينية ، ولا يعود إلا عندما يشعر بندم نجات التي أدت دورها بقوة وبمعايشة كبيرة لدور الأخت المحبة أو التي تتآمر مضطرة مع رماح حتى لا يقطع المال عن أسرتها أو عندما تفقد ابنها وتنقلب على رماح وترفض قسوته ضدها وضد أختها ( ستهم ) . كان التصوير عاملا مهما ومؤثرا في العمل عبر كادرات كبيرة ووسطى وقريبة استطعنا بها أن نرى جمال الصعيد من ناحية وبشاعة المواقف المختلفة في الجبل عند مقتل عبد الرحمن ابن ستهم وفي موقف ذبح رماح للحمام دليل على ذبحه للسلام والحب وضربه لستهم بقوة بالعصا ومقتل عامر و قص شعر ستهم الذي شكل مشهدا فارقا في العمل والخط الدرامي كله ثم في مشاهد متوالية تدل على أعمال ستهم ومعاناتها وعلاقتها بشعبان الذي تقدم بخطبتها وكشف عن حبه لها أو باصرارها على الرفض الداخلي لرفضها الحياة الناعمة وتأكيدها على رسالتها التي تقوم بها وكفاحها من أجل أسرتها واسترداد حقوقها . رغم ذلك هناك خط الطبيب حماد وميري وهاني ابنهما الذي لم يكن مؤثرا في الأحداث الرئيسية وانما كاشفا ومؤكدا على أصالة صعيد مصر كجزء لا يتجزأ من انتمائنا وكذلك مشهد لجوء ستهم للمحامي الذي لم يكشف عن أيه تطورات ولم يكن له تأثير في الأحداث رغم أهميته لأنه يشكل القطب الحاكم الذي كان من الممكن أن يحرك الكفة لصالح ستهم لكن المؤلف آثر تصعيد الموقف والحراك الدرامي المتوالد الذي يكشف عن مصير الشخصيات الدرامية في النهاية دون تحكم خارجي ، وهذه طبيعة الدراما . وقد غلف سحر المسلسل – الذي أحيي القائمين عليه تأليفا واخراجا وتصويرا ومونتاجا وغير ذلك - ذلك العبق الروحاني الذي طغى على المكان حيث أغاني ياسين التهامي الدينية وروح الصوفية لديه ولدى عجيبي عازف الناي وعند ستهم التي تكتسب كلماتها قوة التأثير الروحاني لما حولها من مشاكل صقلت نفسها أو هذا الجو الأنساني الذي سرى في كل ما حولها بدفاعها وحيدة عن نفسها وعن أبنائها وبعدالة قضيتها التي شكلت معضلة لمن لا ينفذون شرع الله بل ويجدون معاناة نفسية في اعطاء المرأة حقوقها لأنهم وببساطة غير مقتنعين بالمرأة كوجود خاص ، انهم يرونها عارا يمشي على الأرض يريدون مداراته وليس الإعتراف به مما يشكل قضية مهمة طالما حاولت الدولة أن تتغلب عليها في ظل مجتمع صارم وجامد وتقاليد بالية رغم تأكيد الجميع حول رماح بزيف قضيته وشرعه الذي وضعه بعدم أحقية البنات للتوريث وهو ما يؤكده المخرج في الحلقة الثلاثين والأخيرة من تدعيم الرئيس عبد الفتاح السيسي لدور المرأة وقوتها وتأثيرها بتكريم سيدات عانوا ولا يزالوا ، فستهم شخصية حقيقية سلط عليها المسلسل الضوء وكشف عن قوتها لتصبح نموذج لسيدات مصر والعالم وهو الدور الحقيقي للدراما .