15-3-2025 | 13:45
نانيس جنيدي
على مدار سنوات طويلة، أصبحت الأعمال الدرامية الرمضانية أكثر من مجرد حلقات تعرض على الشاشات؛ بل صارت تشكّل جزءاً من ذاكرة الجمهور والمشاهدين، ففى كل رمضان، يجتمع الجمهور حول قصص تجسد مشاهد الحياة الواقعية وتلامس قلوب الناس، فتظل هذه المسلسلات حاضرة فى الوجدان حتى بعد انقضاء مواسمها.
فمن خلال أعمالٍ تحمل مزيجاً من الدراما الاجتماعية والرومانسية والإنسانية، تحولت الدراما الرمضانية إلى جزء لا يتجزأ من تقاليد الأسرة، تحمل معها ذكريات عذبة وصوراً لا تنسى.
لتستطيع تلك الأعمال أن تؤكد أنها أكثر من مجرد مسلسل تليفزيوني؛ بل شهادة على قدرة الفن على تجاوز الزمن، وإحياء ذكريات فى قلوب المشاهدين، مما يجعلها أعمالاً خالدة فى تاريخ الدراما المصرية.
فى هذا الباب الرمضانى الأسبوعى، نتناول على صفحات «الكواكب» بعض تلك الأعمال، التى ارتبط بها الجمهور فى شهر رمضان، والتى ما زالت تحتفظ بمكانتها فى قلوب المشاهدين.
يعد مسلسل «محمد رسول الله»، أحد أهم الأعمال الدينية فى الدراما العربية بوجه عام، وقد تم تقديمه فى خمسة أجزاء، كان أولها فى عام 1980.
وقد نجح فى جذب انتباه المشاهدين منذ جزئه الأول، ليصبح فيما بعد واحداً من أكثر الأعمال الدينية متابعة وتأثيراً.
المسلسل يتكون من خمسة أجزاء، تناول خلالها قصص الأنبياء بداية من النبى إبراهيم عليه السلام وحتى بعثة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، مستعرضاً فى سياق الأحداث البشارات التى وردت على ألسنة الأنبياء، وما جاء فى الكتب السماوية.
استند المسلسل إلى سلسلة «محمد رسول الله والذين معه» للأديب الكبير عبد الحميد جودة السحار، أما السيناريو والحوار فكان من إبداع الشاعر الغنائى عبد الفتاح مصطفى، الذى استطاع أن يمزج بين ما ورد فى القرآن الكريم والأسلوب الدرامى المشوق، مما جعل المسلسل يحقق نجاحاً كبيراً.
ضم المسلسل نخبة من كبار نجوم الدراما المصرية، من بينهم عبد الله غيث، حمدى غيث، أمينة رزق، أحمد مظهر، كرم مطاوع، شكرى سرحان، فردوس عبد الحميد، أحمد توفيق، فؤاد أحمد، محمد الدفراوي، كريمة مختار، وليلى فوزى وغيرهم.
وتولى إخراج الأجزاء الثلاثة الأولى أحمد طنطاوي، بينما أخرج الجزء الرابع أحمد توفيق، وجاء الجزء الخامس والأخير بتوقيع لمخرج الكبير الراحل نور الدمرداش.
الجزء الأول (1980):
تناول هذا الجزء قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، بداية من نشأته فى أرض كنعان، ورحلته فى البحث عن الحقيقة، ورفضه لعبادة الأصنام، حتى خروجه من النار بأمر الله، كما استعرض المسلسل زواجه من السيدة سارة، ثم السيدة هاجر، وقصة رؤيته فى المنام بذبح ابنه إسماعيل، وبناء الكعبة، مروراً بقصص الأنبياء لوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام، كما سلط الضوء على البشارات التى وردت على ألسنة هؤلاء الأنبياء عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
جمع المسلسل بين مجموعة من التفاصيل، حيث جسد شخصية فرعون والتى جعلت من القصة شكلاً خاصاً وربطت بين الحضارة السومرية فى بابل وآشور والحضارة الفرعونية المصرية.
صرح الفنان عبد الغفار عودة، الذى جسّد شخصية فرعون فى المسلسل، بأن تقديمه لهذه الشخصية كان تجربة فريدة ومليئة بالتحديات.
وأوضح أن الدور أظهر التحول الذى طرأ على فرعون، عند تعرضه للسيدة سارة، زوجة النبى إبراهيم عليه السلام، لكن الله أنقذه بفضل دعواتها.
وأضاف أن المشهد الذى يعكس استسماح فرعون لها وطلبه المغفرة وإيمانه بالله جسد بعداً إنسانياً معقداً، مما جعل أداء الشخصية يجمع بين المتعة والصعوبة فى آن واحد.
الجزء الثانى (1981):
دار الجزء الثانى حول قصة نبى الله موسى عليه السلام، بداية من ولادته فى ظل حكم فرعون مصر، وقصة الوحى والمعجزات، إلى جانب عرض قصص الأنبياء داود وسليمان عليهما السلام، بما فى ذلك قصة بلقيس ملكة سبأ وإسلامها على يد النبى سليمان.
الجزء الثالث (1982):
ركز على حياة الأنبياء زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، بالإضافة إلى لمحة عن العزير الذى أماته الله مائة عام ثم بعثه، كما استعرض المسلسل قصة أصحاب الكهف الذى كان شيخهم هو عاموس، وصولاً إلى استيلاء الأحباش على اليمن وظهور سيف بن ذى يزن، ومحاولة أبرهة هدم الكعبة، والتى انتهت بهزيمته.
الجزء الرابع (1984):
تناول هذا الجزء ميلاد النبى محمد عليه الصلاة والسلام، ونشأته فى مكة، ورحلته التجارية، وزواجه من السيدة خديجة، ثم نزول الوحى وبدء الدعوة السرية، مع التركيز على مواقف قريش ومحاولاتهم قمع دعوته.
الجزء الخامس (1985):
استعرض فترة العصر النبوي، بما فى ذلك الدعوة الجهرية، الهجرة إلى الحبشة، وبيعة العقبة، والهجرة إلى المدينة المنورة، والغزوات الكبرى، وصولاً إلى فتح مكة وانتصار الدعوة الإسلامية.
الإبداع الموسيقى والتلحين
تحدث الملحن الكبير جمال سلامة فى لقاءات صحفية سابقة عن رحلته مع مسلسل «محمد رسول الله»، الذى ظل يعرض لعدة سنوات خلال شهر رمضان، مشيراً إلى أن مشاركته فى هذا العمل جاءت بعد أن كان من المقرر أن يتولى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مهمة تلحين المسلسل، إلا أن الشاعر الغنائى عبد الفتاح مصطفى هو من رشحه لتأليف الموسيقى التصويرية والألحان الخاصة بالأغاني، والتى أدتها الفنانة المعتزلة ياسمين الخيام.
كشف الملحن الكبير عن بصمته المميزة فى تتر المسلسل، حيث أضاف عبارة «محمد يا رسول الله» فى مقدمة الأغنية، والتى كانت تبدأ فى الأصل بعبارة «دعوة إبراهيم ونبوءة موسى»، مؤكداً أنه أراد بهذه الإضافة أن يمنح التتر مسحة روحانية أقرب إلى روح العمل، مما يعزز هذه المسحة الروحانية فى وجدان المشاهدين منذ اللحظة الأولى.
وروى سلامة موقفاً طريفاً لكنه حاسم مع مخرج المسلسل أحمد طنطاوي، الذى تفاجأ عند سماع اللحن لأول مرة، وصرخ قائلاً: «إيه ده يا دكتور؟! أنت حاطط البيانو فى عمل ديني؟ موضحاً أن إدخال آلة البيانو كان سابقة فى الأعمال الدينية آنذاك، لكنه دافع عن رؤيته الفنية بقوله: «أنت قلت لى إن المسلسل هيكون عمل عالمي، والآلة الموسيقية الوحيدة التى يعرفها العالم كله هى البيانو، لأنها تضفى فخامة خاصة على العمل الفني».
ورغم محاولاته العديدة لإقناع المخرج، إلا أن الأخير أصر على تعديل اللحن، وهو ما وضع جمال سلامة فى مأزق، خاصة مع اقتراب شهر رمضان، حيث لم يتبق سوى يومين على بدء عرض المسلسل، وفى لحظة إحباط، غادر سلامة الاستوديو وتوجه إلى المعمورة، ليبتعد عن أجواء التوتر.
لكن المفاجأة كانت حين عرض المسلسل فى أول أيام رمضان، وسمع سلامة ألحانه تذاع كما هي، إلا أنه صدم بعدم إدراج اسمه على تتر المسلسل، وهو ما أثار استياءه بشدة.
فى اليوم التالي، فوجئ جمال سلامة بعرض المسلسل واسمه يتصدر التتر، اسمه مرتبطاً بأحد أبرز وأهم الأعمال الدينية فى تاريخ الدراما المصرية.
القيمة الفنية والدينية
لم يكن «محمد رسول الله» مجرد مسلسل ديني، بل كان وجبة درامية ثرية بالمعلومات الدينية والتاريخية، معززة بخدع تليفزيونية مبتكرة آنذاك، ما أضفى على الأحداث طابعاً واقعياً جذب الجمهور من مختلف الفئات العمرية، كما ساهم المسلسل فى تعريف الأجيال بتاريخ الأنبياء وقصصهم، وربطها بالدين الإسلامي.
فى الختام، يبقى مسلسل «محمد رسول الله» أحد أهم الأعمال الدينية فى تاريخ الدراما العربية، حيث استطاع أن يجمع بين الفن الرفيع والتوعية الدينية، مقدماً للأجيال نموذجاً فريداً للدراما الهادفة التى تخدم المجتمع وتُرسخ القيم الروحية والإنسانية.