24-5-2025 | 13:05
ناصر جابر
فى 17 مايو من كل عام، تحل علينا ذكرى رحيل الفنانة الكبيرة وردة الجزائرية، التى نجحت فى أن تحجز لنفسها مكانة خاصة فى وجدان الشعب المصرى والعربى بأسره، أحبتها القلوب قبل أن تطرب لها الآذان، جمعت بين الإحساس العاطفى والروح الوطنية والنفحات الدينية. لم تقتصر مسيرتها على الغناء فقط، بل تركت بصمة لافتة فى السينما والدراما التليفزيونية، وقدّمت أعمالاً خالدة أصبحت علامات مضيئة فى تاريخ الفن العربى.
من باريس إلى بيروت.. ميلاد نجمة
ولدت الفنانة وردة، واسمها الكامل وردة محمد فتوكى، فى العاصمة الفرنسية باريس يوم 22 يوليو عام 1939، لأم لبنانية وأب جزائرى، حصلت لاحقاً على الجنسية المصرية، وأصبحت واحدة من أبرز نجمات الغناء فى جيلها، تعاونت خلال مسيرتها الفنية مع نخبة من كبار الملحنين فى العالم العربى، من بينهم فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطى، محمد القصبجى، محمد الموجى، سيد مكاوى، بليغ حمدى، كمال الطويل، عمار الشريعى، صلاح الشرنوبى، وحلمى بكر، وهو ما منح صوتها تنوّعاً فنياً استثنائياً جعلها تتربع على قمة الغناء العربى لعقود.
تلقّت وردة أولى خطواتها الفنية على يد الفنان التونسى الراحل الصادق ثريا، الذى أشرف على تدريبها الغنائى فى نادى والدها، الذى حمل اسم «طم طم» بفرنسا. وبمرور الوقت، أصبحت تؤدى فقرة غنائية خاصة بها ضمن فقرات النادى، حيث كانت تشدو بأغانى عمالقة الطرب مثل أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، لاحقاً بدأت تغنى أعمالاً خاصة من ألحان الصادق ثريا، لتشق طريقها نحو التميز بصوتها الفريد.
كان «الطم طم» أحد أبرز الأماكن التى استقطبت نخبة من نجوم الفن العربى فى المهجر، مثل فريد الأطرش وصباح، وكان بمثابة ملتقى للعرب لتبادل الأفكار والثقافة.
فى عام 1956، استقرت عائلة وردة فى حى الحمرا، أحد أبرز الأحياء البيروتية المعروفة بالحياة الفنية، وهناك بدأت وردة تصنع لنفسها اسماً فى عالم الغناء، وخلال أحد عروضها، حضر الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذى أُعجب بصوتها، ودعاها للحضور إلى مصر بعد العرض، لكنها لم تكن تعلم بوجوده فى القاعة.
انطلاقة مصرية.. ولقاء غير متوقع
فى عام 1960، وصلت وردة الجزائرية إلى مصر بدعوة من المنتج والمخرج حلمى رفلة، الذى أسند إليها أولى بطولاتها السينمائية فى فيلم «ألمظ وعبده الحامولي»، ليكون هذا العمل بوابة إقامتها المؤقتة فى القاهرة، وفى لفتة جميلة، تم إضافة مقطع بصوتها إلى أوبريت «الوطن الأكبر»، ليكون هذا بداية اندماجها فى المشهد الفنى المصرى.
عودة من بوابة الاحتفالات الوطنية
ابتعدت وردة الجزائرية عن الساحة الفنية لعدة سنوات بعد زواجها، بعدها شاركت فى احتفالات الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر عام 1972، حيث قدّمت أغنية وطنية بعنوان «عدنا إليك يا جزائرنا الحبيبة»، من كلمات الشاعر صالح خرفى وألحان الموسيقار المصرى بليغ حمدى، كانت تلك العودة إلى الغناء نقطة تحول فى مسيرتها، تبعتها نهاية زواجها من جمال قصيرى، وكيل وزارة الاقتصاد الجزائرى آنذاك.
بعد الانفصال، عادت وردة إلى القاهرة، حيث استأنفت مسيرتها الفنية بقوة، وتزوجت من الموسيقار بليغ حمدى، لتبدأ معه واحدة من أنجح الشراكات الغنائية فى تاريخ الموسيقى العربية، استمرت رغم انفصالهما فى عام 1979، وكان انطلاقتها الفنية الحقيقية بعد العودة، من خلال أغنية «أوقاتى بتحلو» التى غنتها عام 1979 فى حفل مباشر، من ألحان سيد مكاوى.
الجدير بالذكر أن هذه الأغنية كانت قد أُعدت خصيصاً لكوكب الشرق أم كلثوم عام 1975، لكنها رحلت قبل أن تؤديها، فاحتفظ بها سيد مكاوى حتى قدّمها لصوت وردة.
بين الكاميرا والشاشة الصغيرة
قدّمت للسينما مجموعة من الأعمال البارزة، من بينها فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» إلى جانب عادل مأمون عام 1962، وفيلم «أميرة العرب» مع رشدى أباظة وفؤاد المهندس عام 1963، كما شاركت فى فيلم «صوت الحب» مع حسن يوسف وعماد حمدى عام 1973، وفيلم «حكايتى مع الزمان» مع رشدى أباظة عام 1974، ثم «آه يا ليل يا زمن» مع رشدى أباظة ويوسف شعبان عام 1977، وصولاً إلى فيلم «ليه يا دنيا» مع محمود ياسين وصلاح السعدنى عام 1994.
أما فى مجال الدراما التليفزيونية، فقد تألقت فى مسلسل «أوراق الورد» إلى جانب عمر الحريرى، وشاركت فى مسلسل «الوادى الكبير»، كما قدمت مسلسل «آن الأوان» من تأليف يوسف معاطى وإخراج أحمد صقر، وجسدت فيه شخصية سيدة تمتلك شركة إنتاج كاسيت تدعم الأصوات الواعدة، وهو دور يعد قريباً من سيرتها الذاتية.
وردة وبليغ.. قصة حب وإبداع
من بين أجمل الثنائيات الفنية والإنسانية فى تاريخ الموسيقى العربية، تبرز قصة الحب العميقة بين وردة الجزائرية وبليغ حمدى، التى لم تكن مجرد علاقة عاطفية، بل نهراً متدفقاً من الشغف والإبداع، توّج بالزواج وخلّف عشرات الألحان الخالدة التى تعد، فى نظر كثير من المؤرخين، بمثابة التاريخ الحقيقى لوردة.
بدأت شرارة هذا الحب من بعيد، عندما كانت وردة تجلس فى إحدى صالات السينما بفرنسا عام 1957، واستوقفتها ألحان أغنية «تخونوه» التى غناها عبدالحليم حافظ فى فيلم «الوسادة الخالية»، سحرت باللحن المفعم بالشجن، وأُغرمت بالملحن رغم أنها لم تره بعد.
القدر كان له رأى آخر، حين دعاها المخرج حلمى رفلة إلى مصر للمشاركة فى أول أفلامها «ألمظ وعبده الحامولى» عام 1962، هناك، تحقق حلمها بلقاء بليغ لأول مرة فى منزل الموسيقار محمد فوزى، وبدأ التعاون الفنى بينهما بأغنية «يا نخلتين فى العلالي» ضمن أحداث الفيلم، وخلال جلسة تحفيظ اللحن بحضور الإعلامى وجدى الحكيم، بدأ قلبهما يتحدثان، حيث قال بليغ للحكيم: «أنا عمرى ما اهتزيت لستّ إلا لما سلمت على وردة».
رغم رفض والدها زواجهما فى البداية، ومحاولة فصلها عنه بإعادتها إلى الجزائر، فإن مشاعر الحب ظلت مشتعلة. وبعد طلاقها من زوجها هناك، عاد اللقاء من جديد عام 1972 خلال احتفالات عيد الاستقلال، حين التقت بليغ مجدداً وأقنعها بالعودة للفن، وبأن صوتها لا يجب أن يُحرَم منه الجمهور.
وفى عام 1973، توّجت قصة الحب بالزواج، حيث تم عقد قرانهما فى منزل الفنانة نجوى فؤاد، وسط حضور نجوم الوسط الفنى، وغنى عبدالحليم حافظ بنفسه «مبروك عليك»، ورغم أن الزواج استمر ست سنوات فقط، فإن ما أنتجاه معاً خلال هذه الفترة سيظل خالداً.
عززت علاقة الحب القوية التى ربطتهما، من الإنتاج الفنى بينهما، وتغنى كل منهما بالآخر، فكان بليغ يلحن لها الأغانى بقلبه، ووردة تقدمها بمنتهى الحب لشريك عمرها، لذلك تألق الثنائى، وقدما أجمل وأشهر أغانى الحب، ولحن ما يقارب 30 أغنية بين العاطفية والوطنية.
من تلك الأغنيات، «العيون السود» و«أحبك فوق ما تتصور» و«على الربابة»، و«ليل يا ليالي» و«ليالينا» و«والله يا مصر زمان» و«حلوة بلادى السمرا» و«احضنوا الأيام»، و«ولاد الحلال»، و«حنين»، و«وحشتوني»، و«اشتروني»، و«حكايتى مع الزمان»، و«خليك هنا»، و«دندنة»، و«لو سألوك»، و«مالي»، و«مسا النور والهنا»، و«أنا عندى بغبغان» للأطفال، وأغنيات أخرى بمسلسل «أوراق الورد» الذى قامت وردة ببطولته.
أكد الإذاعى والمؤرخ الكبير وجدى الحكيم أن أغنية «العيون السود» التى تعاونا فيها عام 1972، كانت عبارة عن قصة حبهما، حيث كتب أبياتها الأولى بليغ، ثم أكملها الشاعر محمد حمزة بأفكار بليغ أيضاً، وكانت مخصصة لعودتها للفن.
وجاء مطلعها معبراً عن مشاعر بليغ، حيث يقول: «وعملت إيه فينا السنين؟.. فرقتنا لا، غيرتنا لا، ولا دوبت فينا الحنين»، وغنتها وردة بعد عودتها إلى مصر.
أثناء وجود بليغ فى باريس فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى كان يشعر بالحزن والأسى لفراقه الوطن والحبيبة، فكتب كلمات تحمل الحزن والعتاب ودون مقدمة أغنية «بودعك»، ثم أكملها الشاعر الغنائى منصور الشادى ولحنها ووزعها بليغ، ثم أرسلها لوردة.
عاد بليغ إلى مصر، وحالته النفسية متدهورة، وقتها قررت وردة أن تغنيها عام 1993 وكأنها كانت تعلم أنها بمثابة الوداع الحقيقى لحبها الوحيد لبليغ الذى توفى فى 12 سبتمبر من عام 1993، عن 62 عاماً بعد صراع طويل مع مرض الكبد.
رسائل حب بين الألحان
قيل إن بعض مقدمات الأغانى التى وضعها بليغ لأم كلثوم كانت رسائل غير مباشرة منه إلى حبيبته البعيدة، ومنها «بعيد عنك»، و«الحب كله»، و«سيرة الحب»، و«أنساك»، وأن أم كلثوم عندما علمت بالأمر، قالت له مازحة: «إنت بتشغّلنى كوبرى للبنت اللى بتحبها».
ذكرت وردة فى أحد لقاءاتها أن بليغ كان معتاداً خلال فترة زواجهما أن يضع لها «وردة» بجوار سريرها يومياً، حتى تكون أول شيء تراه فى الصباح، وبعدما وقع الطلاق تدهورت حالة بليغ الصحية والنفسية، حتى كاد يصاب بالاكتئاب، وأصيبت وردة بانفجار الزائدة الدودية وكادت تفقد حياتها.
رغم الطلاق، إلا أن مشاعر الحب والمودة ظلت مستمرة، بين بليغ ووردة، كان يردد اسمها قبل وفاته فى 1993، وفى المقابل أصيبت وردة بعد وفاته بحالة اكتئاب شديدة، وكانت فى كل لقاءاتها تتحدث عنه.
كنز الأغانى.. إرث فنى خالد
قدمت وردة ما يقرب من 290 أغنية، منها «اسأل دموع عنيا»، «أوقاتى بتحلو»، «بتونس بيك»، «حرمت أحبك»، «فى يوم وليلة»، «أحبك فوق ما تتصور»، «أنده عليك»، «شعورى ناحيتك»، «جيت فى وقتك»، «خليك هنا»، «لولا الملامة»، «العيون السود»، «قبل النهارده»، «بكرة يا حبيبي»، «معندكش فكرة»، «على عيني»، «بودعك»، «ولو إنك يا حبيبى بعيد»، «لو سألوك»، «لعبة الأيام»، «أحلى الليالي»، «اشتروني»، «حكايتى مع الزمان»، «روحى وروحك»، «هقولك حاجة»، «وحشتوني»، «يا نخلتين فى العلالي»، «دار يا دار»، «الشموع»، «باريس»، «حنين»، «ليالينا»، «ليل يا ليالي»، «مسا النور والهنا»، «مقادير»، «بوسة»، «حلوة بلادى السمرا بلادي»، «بعتب عليك يا زمن»، «أوراق الورد»، «آه يانى من الهنا»، «آه لو قابلتك من زمان»، «أنا عندى بغبغان»، «تعيش وتفتكرني»، «سلامتك يا حبي»، «عجايب»، «على شط بحرنا»، «كل سنة وانتى طيبة يا مامتي»، «معقول أحب تاني»، «يانا يا حيرانة»، «أكدب عليك»، «اسمعوني»، «أصلك تنحب»، «أهلا يا حب»، «بحبك صدقني»، «بعُمرى كله حبيتك»، «حب الحبيب»، «سفر»، «عايزة معجزة»، «قال إيه بيسألوني»، «قالوا فى الأمثال»، «قلبى سعيد»، «لأ مش كده»، «لازم نفترق»، «مخترناش»، «مدريتوش»، «من الوف»، «ولا فى الأمثال»، «يا حبيبى لا تقولي»، «يا ولاد الحلال»، «ياما ليالى».
نهاية المشوار.. والوداع الأخير
توفيت فى منزلها فى القاهرة فى 17 مايو 2012 إثر أزمة قلبية ودفنت فى الجزائر، وكان فى استقبالها العديد من الشخصيات السياسية والفنية ليتم دفنها فى مقبرة العالية بالجزائر العاصمة.