الجمعة 27 يونيو 2025

رواد الإعلام المصرى.. رحلة وطنية من الميكروفون إلى الشاشة

رواد الإعلام المصرى.. رحلة وطنية من الميكروفون إلى الشاشة

31-5-2025 | 09:34

نانيس جنيدي
منذ انطلاقة أول إرسال إذاعى رسمى فى مصر، كانت الدولة المصرية رائدة فى العالم العربى، حيث دشنت عهداً جديداً من التواصل الجماهيرى عبر أثير الإذاعة، تبعتها لاحقاً قفزة كبرى بإطلاق أول بث تليفزيونى فى عام 1960، لتبدأ رحلة طويلة من التحولات الإعلامية التى عكست بدقة ملامح المجتمع المصرى وتطوره السياسى والثقافى والاجتماعى. حمل الإعلام المصرى على عاتقه مسئولية التنوير والتثقيف والترفيه، فلم يكن مجرد وسيلة نقل للمعلومة، بل كان شاهداً على لحظات مفصلية فى تاريخ الوطن، مروراً بمرحلة البناء والتنمية، وصولاً إلى ثورة المعلومات والانفتاح الإعلامى. وفى هذا التقرير، نستعرض مسيرة تطور الإعلام المصرى من جذوره الأولى فى الإذاعة إلى التليفزيون، من خلال الرواد الذين حملوا على عاتقهم مسئولية التأسيس والتنوير، وسطَّروا بأصواتهم وصورهم صفحات مشرقة من تاريخ الإعلام العربى حيث شكّلوا الوعى، وتركوا بصمات خالدة فى وجدان الأجيال، وأسسوا لمدارس إعلامية لا تزال مرجعاً حتى اليوم. كان صوت المذيع أحمد سالم هو أول ما سمعه المستمعون عبر أثير الإذاعة، عندما صدح بجملته التاريخية: «هنا القاهرة»، تلك العبارة التى أصبحت منذ ذلك الحين رمزاً لانطلاقة الإعلام الصوتى فى مصر والعالم العربى. لم يكن أحمد سالم مجرد مذيع يُلقى التحية الافتتاحية، بل كان نموذجاً للمثقف متعدد المواهب، فقد تلقى تعليمه فى إنجلترا، ودرس الطيران، قبل أن يتجه إلى العمل فى مجالات الإخراج والتمثيل، ليجمع بين الثقافة، والفن، والإعلام فى آن واحد، وكان باكورة جيل من الرواد الذين أسهموا فى وضع اللبنات الأولى لهذا الصرح الإعلامى العريق. أصوات صنعت الذاكرة خلف الميكروفون لمع عدد من الأسماء التى شكّلت حجر الأساس لهذا الصرح الإعلامى، وأصبحوا رموزاً خالدة فى ذاكرة المصريين، من أهمهم محمد فتحى، الذى حمل لقب «كروان الإذاعة»، كان صوتاً محبباً لا تخطئه الأذن، واحتل مكانة خاصة فى قلوب الصغار ببرنامجه الشهير للأطفال، حيث جمع بين الرقة والحكمة، فأصبح رفيق طفولة أجيال كاملة. أما صالح جودت، فقد برع فى المزج بين اللغة الرصينة والصوت الواثق، وكان إلى جانب كونه مذيعاً مؤثراً، كاتباً مرهف الحس، أسهم بقلمه فى إثراء الثقافة العامة من خلال الإذاعة والصحافة معاً. وجاء فهمى عمر ليجسد مسار التطور المؤسسى للإعلام، حيث لم يكتف بكونه مذيعاً بارزاً، بل تولى لاحقاً رئاسة الإذاعة والتليفزيون، ليسهم فى رسم ملامح الإعلام المصرى الحديث من موقع القيادة. ويبقى «بابا شارو»، أو محمد محمود شعبان، الاسم الأكثر ارتباطاً بذاكرة الطفولة فى مصر والعالم العربى، بصوته الدافئ وعباراته المبهجة التى لا تزال تتردد حتى اليوم، مثل: «يا أولاد يا أولاد.. تعالوا شوفوا بابا شارو جايب إيه النهارده». فمن خلال برنامجه الأشهر «ركن الأطفال»، غرس القيم والمعرفة فى عقول الصغار بطريقة ساحرة جمعت بين التسلية والتعليم. لقد كان هؤلاء وغيرهم من الرواد، هم بناة الهوية الإذاعية المصرية، وملامح مرحلة تاريخية صنعت الوعى العام، وظلت أصواتهم حاضرة فى وجدان الناس، رغم مرور العقود. «هنّ».. صاحبات الريادة فى زمن كانت فيه مشاركة المرأة فى المجال العام محدودة، خرجت من الإذاعة والتليفزيون المصرى أصوات نسائية قوية، شكّلت حجر الأساس لحضور المرأة فى الإعلام، وفتحن الباب أمام أجيال كاملة من الإعلاميات اللواتى تبعن خطاهن. صفية المهندس: كانت أول صوت نسائى يخرج من الميكروفون الرسمى للإذاعة المصرية فى أربعينيات القرن الماضى، بصوتها الواثق ولغتها العربية السليمة، قدمت برنامج «ربات البيوت»، الذى تحول إلى مرجع تربوى وثقافى للمرأة المصرية، قبل أن تسجل إنجازاً تاريخياً بتوليها منصب رئيسة الإذاعة المصرية عام 1975، كأول امرأة تتولى هذا الموقع. أما آمال فهمى، فكانت بلا منازع أسطورة البرامج الحوارية. خرجت من استوديوهات الإذاعة إلى الشارع ببرنامجها الشهير «على الناصية»، حيث التقت الناس بمختلف فئاتهم، وقدمت صوت المواطن البسيط بأسلوب يجمع بين العفوية والمهنية، لتصبح أيقونة فى وجدان المستمعين. وفى شاشة التليفزيون، برزت أمانى ناشد كواحدة من ألمع المذيعات فى تاريخ «ماسبيرو»، بصوتها الرصين وهدوئها الواثق، أدارت حوارات سياسية وثقافية عميقة، واستضافت شخصيات مؤثرة محلياً وعالمياً، مما أكسبها مكانة مرموقة بين الإعلاميين. أما حكمت مختار، فقد مثّلت صوتاً دافئاً داخل كل بيت مصرى، وساعدت الأمهات عبر برامج نسائية وتربوية متخصصة، على مواجهة تحديات الأسرة والتربية، ونجحت فى جعل الإعلام منصة للتوعية الأسرية والمجتمعية. كما بزغت أسماء أخرى لامعة شكّلت ملامح الشاشة الصغيرة فى سنواتها الأولى، وكان أحمد سمير أحد أبرز هؤلاء الرواد، بصوته الرصين وأسلوبه الهادئ الذى أكسبه احترام المشاهدين، قدم سمير النشرات الإخبارية والبرامج السياسية والاجتماعية بلغة أنيقة وحضور مؤثر، جعله أحد أعمدة التليفزيون المصرى. كما دخلت همت مصطفى التاريخ كأول امرأة تقرأ نشرة الأخبار على شاشة التليفزيون المصرى، وأصبحت رمزاً للثقة والمهنية والاتزان، وعبر طلة هادئة وصوت قوى، أسست لحقبة جديدة من الحضور النسائى الجاد على الشاشة، ومهدت الطريق لجيل من المذيعات المحترفات. ومن الأسماء التى لمع نجمها فى تلك الحقبة المبكرة، عبد الوهاب يوسف وملك إسماعيل، اللذان اشتهرا بتقديم نشرات الأخبار والبرامج ذات الطابع التوثيقى والإنسانى، وامتازا بالجدية والالتزام. أما ليلى رستم، فقد جمعت بين الرقى الثقافى والاحتراف الإعلامى، وقدّمت حوارات راقية مع كبار المفكرين العالميين. حين صعد الفنان من قلب الإذاعة رغم أن اسمه ارتبط لاحقاً بالمسرح والسينما، فإن فؤاد المهندس كانت بدايته من الميكروفون الإذاعى، حيث شارك مع عبد المنعم مدبولى فى تقديم برامج الأطفال والتمثيليات الإذاعية التى شكّلت وجدان الأجيال. بصوته الدافئ وخفة ظله الفطرية، أضفى على الإذاعة بعداً إنسانياً وفكاهياً، من خلال برامج شهيرة مثل «ساعة لقلبك»، و«الساعة 8»، التى فتحت الباب أمام الكوميديا الاجتماعية المبنية على النقد البناء والسخرية الذكية. برامج شكلت الوعى الجماهيرى مع تطور البث التليفزيونى، برزت برامج أصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية للمصريين، منها: «العلم والإيمان»، ذلك البرنامج الأشهر للدكتور مصطفى محمود، الذى قدم فيه تأملات علمية بروح إيمانية، بأسلوب مبسط وعميق، جعله محبوباً من مختلف الفئات. «حديث المدينة»، وهو برنامج حوارى أدار فيه مفيد فوزى لقاءات إنسانية مع شخصيات من مختلف الطبقات، كاشفاً الجانب الإنسانى والاجتماعى فى المجتمع المصرى. «نادى السينما»، و«صندوق الدنيا»، و«الكاميرا فى الملعب»، وهى برامج وضعت اللبنات الأولى للإعلام المتخصص، سواء فى الثقافة أو الترفيه أو الرياضة، ورفعت مستوى الذائقة العامة. الإعلام المصرى يرصد الانتصارات فى لحظة فارقة من تاريخ الأمة، حين دقت طبول حرب أكتوبر 1973، لم يكن الإعلام المصرى مجرد ناقل لما يجري، بل كان طرفاً فاعلاً فى المعادلة الوطنية، يوازى فى تأثيره وقع الرصاص على الجبهة. دخل الإعلام بسلاح الكلمة والصوت والصورة، ليصوغ وعياً جمعياً متماسكاً ويعزز الروح المعنوية. برز فى هذه المرحلة من خلال الصفوف الأمامية المراسل الحربى الإعلامي حمدى الكنيسي، الذى سجل بشجاعة ميدانية نادرة تفاصيل ما كان يدور خلف خطوط النار، لم تكن تقاريره مجرد وصفٍ للمعارك، بل كانت شهادات حية على البطولة، تنبض بروح الجنود وتعبر عن تضحياتهم، إلى جانبه، وقف الإعلامى محمود سلطان مراسلاً بارزاً ينقل بدقة وأمانة مشاهد الانتصار والتحدي. وفى قلب غرفة الأخبار، كان كل من طه حسنين وفهمى عمر يقدّمان نموذجاً رفيعاً فى صياغة وتقديم نشرات الأخبار، فكانت نشراتهما مدروسة، ودقيقة، تبث الطمأنينة وتعلى من قيمة الصمود الوطني. لقد شكّلت حرب أكتوبر لحظة اختبار حقيقى للإعلام المصري، فنجح فى أن يكون صوتاً للوطن، ومرآة للبطولة، وسجلاً توثيقياً لانتصار سيبقى خالداً فى الذاكرة. ذاكرة لا تموت.. وإرث يدرّس رغم التغيرات المتسارعة فى عالم الإعلام، وظهور عشرات القنوات والمنصات الرقمية، فإن ما قدّمه رواد الإذاعة والتليفزيون فى مصر يبقى ثابتاً فى الوجدان. لم يكونوا مجرد ناقلين للمحتوى، بل صناع وعى ومهندسى ذوق وبناة ثقة، أرست تجاربهم معايير المهنية والالتزام، وبقى تراثهم مادة حيّة تدرس وتلهم، وتجسد لقيمة الإعلام حين يكون ضميراً حياً للأمة.