25-10-2025 | 14:37
نانيس جنيدي
لطالما كان الشتاء فى السينما المصرية أكثر من مجرد فصل مناخى أو خلفية باردة تدور فيها الأحداث؛ لقد كان روحاً خفية تحرك الدراما، وتعمق المشاعر، وتعيد تعريف معنى الدفء الإنسانى وسط العواصف، ففى أفلام كثيرة، لم يكن المطر مجرد مشهد جمالى، بل نغمة حزينة توازى أوجاع الأبطال، بينما تحولت المدافئ إلى رموز للأمان، والشوارع المبتلة إلى مرايا تعكس هدوء البشر.
بين قسوة «ليلة ساخنة» ورومانسية «ليلة شتاء دافئة»، وبين عواصف «النوة» ، ظل الشتاء حاضراً صوتاً درامياً يعكس التحول، والفقد، والبحث الدائم عن دفء يتجاوز الطقس إلى أعماق الإنسان.
سنستعرض فى هذا التقرير كيف تحول البرد إلى لغة فنية تحرك العاطفة وتكشف ملامح المجتمع.
يعد فيلم «ليلة ساخنة» للمخرج الكبير عاطف الطيب، وبطولة نور الشريف ولبلبة، من أبرز الأفلام التى جسدت أجواء الشتاء القارس لتكشف التناقضات فى المجتمع المصرى بصدق.
تدور أحداث الفيلم بأكملها خلال ليلة رأس السنة، تلك الليلة التى تتشح بالبرد والعتمة، يفترض أن تكون ليلة احتفال ودفء عائلى، لكنها تتحول إلى مرآة قاسية لدي البعض.
فى تلك الليلة، يخرج سيد (نور الشريف)، سائق التاكسى للبحث عن الرزق، محاولاً توفير 200 جنيه لإجراء عملية عاجلة لحماته، فيلتقى مع حورية (لبلبة)، الراقصة التائبة التى تسعى لتدبير ثمن ترميم بيتها المتهالك، تتقاطع مصائرهما في الطريق، ليواجه الاثنان شتاءً لا يرحم وأحلاماً يحاولا تحقيقها.
لم يكن البرد فى الفيلم مجرد حالة جوية، بل رمزاً لضغوط عديدة يعيشها أبطال العمل، حيث يرصد احتفالات البعض بليلة رأس السنة وسعي البعض الأخر لتحقيق أحلامه، ومع عثور سيد على حقيبة تخص أحد القتلى، يدخل فى دوامة مطاردات ليلية تكشف أقصى درجات التوتر الإنسانى.
وقد شكل الفيلم أيقونة لأفلام الليلة الواحدة فى السينما المصرية، وبلغ ذروة الواقعية فى مسيرة عاطف الطيب، وكما كشفت لبلبة وبشير الديك، فإن الطيب أصر على التصوير فى ليالٍ شتوية حقيقية، سعياً لملامسة الواقع بصدق كامل، لتأتى النتيجة عملاً يقطر حرارة إنسانية تحت برد قاس.
«ليلة شتاء دافئة».. البرد طريق إلى الحب
يقدم فيلم «ليلة شتاء دافئة»، بطولة عادل إمام ويسرا، رؤية رومانسية مغايرة للبرد، حيث يتحول الشتاء من فصل قاس إلى مساحة لدفء المشاعر ونشوء الحب وسط الصقيع، القصة مأخوذة عن الفيلم الأمريكى الكلاسيكى It Happened One Night، غير أن المخرج أحمد فؤاد صاغها بلمسة مصرية أصيلة، جعلت من أجواء الشتاء فى أسوان ثم فى الرحلة نحو القاهرة خلفية شاعرية تجمع بين البطلة الهاربة والصحفى المندفع.
تهرب سارة (يسرا)، ابنة المقاول الثرى، من والدها الرافض لاختيارها العاطفى، لتلتقى بـممدوح (عادل إمام)، الصحفى الباحث عن سبق مثير، تتقاطع حياتهما فى محطة قطار تغمرها برودة الليل، وتبدأ رحلة طويلة مليئة بالمواقف المضحكة والمواقف الإنسانية.
فى هذا العمل، يصبح الشتاء اختباراً للمشاعر، بحثاً عن الدفء الإنسانى قبل أى شيء، فـ«الدفء» فى العنوان لا يشير إلى حرارة الطقس، بل إلى حرارة القلوب التى تولد من رحم الصقيع.
وقد اعتبر الفيلم من أنجح التجارب الرومانسية الخفيفة فى الثمانينيات، بفضل العفوية والكيمياء بين عادل إمام ويسرا، اللذين أبدعا فى مشهد انتظار الأتوبيس تحت المطر، حيث يتجلى المزج بين الكوميديا الرومانسية والواقعية الشتوية، ليمنحنا فيلماً يثبت أن أجمل قصص الحب تولد في الشتاء.
«النوة».. حين تهب العاصفة فى السماء
يعد مسلسل «النوة» (1991)، من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل، واحداً من أبرز الأعمال التى جعلت من الشتاء بطلاً دراميا لا يقل حضوراً عن الشخصيات نفسها، تدور أحداثه فى مدينة الإسكندرية، التى تشتهر بظاهرة «النوة» - تلك العواصف الشتوية العنيفة التى تضرب سواحل البحر المتوسط - لتصبح رمزاً للاضطراب الاجتماعى والعائلي الذى يعصف بحياة أبطال العمل.
فى المسلسل، تتحول النوة من حالة جوية إلى استعارة إنسانية، تعكس القلق والانقسام داخل عائلة «الرحمانى»، وتوازى الفوضي حول الأبطال، فكلما اشتدت الأمطار وهبت الرياح، تصاعدت الصراعات والقرارات المصيرية، حتى غدت العاصفة مرآة لما يجرى فى النفوس، وجرسَ إنذار بعاصفة أكبر تضرب القيم والعلاقات.
أما من الناحية الفنية، فقد شكل العمل تحفة درامية عن المجتمع فى التسعينيات، حيث ربط عكاشة بين الطبيعة ومصائر البشر فى عناوين الحلقات نفسها، مثل «الموجة الأولى.. آخر أيام الصيفية» و«غيوم سبتمبر» و«ربيع فى النوة».
هذا التوازى بين الفصول والتحولات الإنسانية جعل الشتاء فى الإسكندرية بطلاً صامتاً ومهيباً، لا يهدأ إلا ليعلن عن بداية جديدة.
الشتاء فى السينما الكلاسيكية... برد المشاعر ودفء الأغنية
فى السينما المصرية الكلاسيكية، ارتبط فصل الشتاء غالباً بمشاعر الشجن والحنين والحاجة إلى الدفء الإنسانى، ورغم أن الأفلام الكلاسيكية القديمة نادراً ما جعلت الشتاء عنواناً صريحاً لأعمالها، فإن حضوره البصرى والموسيقى كان دائماً وسيلة لتكثيف الحالة الشعورية، فالمعاطف الثقيلة والأوشحة الطويلة والشوارع الخالية المبتلة كانت رموزاً للوحدة.
لكن هذا البرد السينمائى لم يخلُ من لمسات البهجة والدفء الغنائى، إذ ظهر فى الأوبريتات التى كسرت قسوة الشتاء بروح الدعابة، مثل أوبريت «الحب له أيام» فى فيلم «بنات حواء» (1954)، حين غنى إسماعيل ياسين بخفة ظله الشهيرة «برد الشتا بيتكتك فى جتتى وقفايا»، فى مشهد جمع بين الطرافة والمناخ الشعبى بمشاركة محمد فوزى وشادية، كما استخدم الشتاء رمزياً فى أغنية فريد الأطرش الشهيرة «أدى الربيع عاد من تانى» من فيلم «عفريتة هانم» (1949)، حين قال «يا طول لياليه فى الشتا»، فى إشارة إلى وحدة الإنسان فى الليالى الباردة، وإلى توقه الأبدى لدفء الربيع.
وهكذا، ظل الشتاء فى الكلاسيكيات المصرية فصلاً للحنين والبوح، تتقاطع فيه برودة الطقس مع حرارة العاطفة، فى مزيج صنع أحد أجمل وجوه السينما المصرية القديمة.
حين يصبح الشتاء عنواناً للفيلم نفسه
لم يكتفِ المبدعون بتصوير الشتاء كخلفية للأحداث، بل جعلوه عنواناً للأفلام ذاتها، ليعبر عن الحالة العامة للعمل ومضمونه العاطفى أو الدرامي.
يأتى فى المقدمة فيلم «آخر ليالى الشتاء» (1996)، وهو من الأعمال الدرامية الكلاسيكية البارزة فى تلك الحقبة، بطولة يوسف شعبان وكمال أبو رية وأحلام الجريتلى، تأليف وفية خيرى وإخراج مجدى نجم، يجسد الفيلم لحظات إنسانية مشبعة بالتوتر والمشاعر المتناقضة، حيث تتقاطع البرودة المناخية مع البرودة النفسية فى رسم ملامح شخصيات تبحث عن الأمان فى نهاية شتاء طويل يرمز إلى الوحدة.
أما فيلم «صيف فى عز الشتاء»، فقد قدم معالجة مغايرة تمزج بين الغموض والدراما. تدور قصته حول ثلاث فتيات - ريم، ندى، ومروة - يسافرن إلى بيروت لقضاء إجازة وتصوير معالم المدينة، ليفاجأن فى نهاية رحلتهن بجريمة قتل لرجل ثرى، لتتحول الإجازة إلى كابوس ملىء بالمطاردات والخطر، استخدم الفيلم مفارقة العنوان بين الصيف والشتاء ليبرز ازدواجية الظاهر والباطن؛ فدفء الظاهر يقابله برود الخوف والمأساة.
كما ظهر الشتاء أيضاً فى أفلام أخرى مثل «قصة شتاء»، حيث اتخذ كإطار زمنى يعمق المشاعر ويبرز هشاشة الإنسان أمام قسوة الطبيعة والحياة.
وفى خاتمة الصورة السينمائية المصرية، يمكن القول إن الشتاء كان فصلاً درامياً غنيا بالرموز والمعانى، فهو قسوة الواقع فى «ليلة ساخنة»، ودفء اللقاء فى «ليلة شتاء دافئة»، وعاصفة التغيير فى عادات وتقاليد الأسرة من خلال «النوة»، وبكل مطره وبرده ورياحه، لم يكن الشتاء مجرد طقس على الشاشة، بل لغة سينمائية كشفت عن عمق المشاعر المصرية، مؤكدة أن الدفء الحقيقى لا يولد من المدافئ، بل من العلاقات الإنسانية والاحتواء العاطفى القادرَين على إذابة أقسى ليالى الشتاء.