السبت 20 ديسمبر 2025

كيف خلد التشكيليون نجوم السينما والموسيقى فى الذاكرة

كيف خلد التشكيليون نجوم السينما والموسيقى فى الذاكرة

20-12-2025 | 14:13

شيماء رحيم
منذ البدايات الأولى للفن التشكيلى، ظل الإنسان هو البطل الأول للوحة، ومع ظهور نجوم السينما والمسرح والغناء، تحول هؤلاء إلى أيقونات بصرية، ولم يعد الفنان يرسم ملامح وجه فقط، بل بات يوثق حالة، ومرحلة، وصوتاً وصورةً استقرت فى الوجدان الجمعى، وهنا بدأ حوارٌ طويل بين الريشة والكاميرا، بين التشكيل والضوء، بين الصامت والمتحرك. تأثر الفنانون التشكيليون بنجوم الشاشة لم يكن مجرد إعجاب بشهرة أو بريق، بل كان محاولة لإعادة صياغة الأسطورة الحديثة بلغة اللون والخط والكتلة، فكل فنان رأى النجم من زاويته الخاصة: منهم من قدمه رمزاً للزمن الجميل، ومنهم من أعاد تقديمه بروح معاصرة، ومنهم من حمله دلالات اجتماعية، فتنوعت الأساليب بين الواقعية والتعبيرية. وهكذا لم تعد صورة النجم حبيسة الفيلم أو الأغنية، بل تحولت إلى عمل فنى خالد، ينتقل من ذاكرة الشاشة السريعة إلى ذاكرة التشكيل البطيئة والعميقة، لتبقى ملامحهم حية عبر الأجيال فى لوحات وتماثيل لا تُصفق، لكنها لا تنسى. يعد الفنان الأرمنى - المصرى شانت أفيديسيان (1951 - 2019) أحد أبرز الفنانين الذين أعادوا صياغة صورة نجوم السينما والمشاهير فى سياق فنى معاصر يمزج بين البوب آرت، التراث الشعبى، والرموز البصرية للستينيات، حيث إن أعماله ليست مجرد بورتريهات، بل إعادة اختراع للذاكرة المصرية عبر صور لأيقونات مثل أم كلثوم، فاتن حمامة، سعاد حسنى، عبد الحليم حافظ وغيرهم، حيث تتداخل فيها الرموز مع لغة الملصقات الشعبية. كان شانت مفتوناً بفترة الخمسينيات والستينيات؛ وقد اختار المشاهير لأنهم الذاكرة المشتركة التى توحد جميع الفئات، فصورتا أم كلثوم أو عبد الحليم ليستا مجرد فن، بل رمز لعصر كامل. ويتعامل شانت مع النجم السينمائى كـ«علامة ثقافية» وليس كشخص، وتكون الصورة عنده ليست بورتريهاً فردياً، بل رمز قومى يجرى تفكيكه ثم إعادة تشكيله بصرياً من خلال التكرار، الزخرفة، واللون. وكانت الخلفية في اللوحات ليست مجرد خلفية، بل تحتوى على زخارف مختارة بعناية لتكمل المعنى، فعلى سبيل المثال خلفية لأم كلثوم قد تحمل زخارف إسلامية، بينما سعاد حسنى تحمل زخارف ذات طابع شعبى أكثر مرحاً. عادل السيوى وعلى نفس المنوال تناول الفنان التشكيلى عادل السيوى شخصيات السينما والمشاهير بأسلوب يجاوز حدود «البورتريه» التقليدى، ليحول وجوههم إلى نصوص بصرية تقرأ بقدر ما ترى، فالسيوى لا يتعامل مع النجم بوصفه صورة متداولة أو رمزاً استهلاكياً؛ بل بوصفه كائناً إنسانياً معقداً يحمل فى ملامحه رواسب التجربة والمكان والزمن، لهذا جاءت أعماله أقرب إلى «تفكيك الصورة» وإعادة صياغتها فى سياق يمنح النجم معنى جديداً يتجاوز شهرته. وقد ظهر هذا بوضوح فى مشروعاته التى استلهم فيها وجوه ممثلين عالميين ومصريين، حيث أعاد رسم ملامحهم عبر طبقات لونية كثيفة ومتحركة، تجعل الوجه يبدو وكأنه يعيش حالة انتقالية بين الواقع والخيال. فالتركيز لم يكن على الدقة التشخيصية بقدر ما كان على الطاقة التعبيرية الكامنة فى العينين، وفى الهالات المحيطة بالوجه، وفى الخلفية التى كثيراً ما تحمل خطوطاً أو مساحات تومئ إلى الحالة الداخلية للشخصية. كما أن السيوى استخدم وجوه الممثلين كوسيلة لطرح أسئلة حول صورة الإنسان فى عصر الإعلام: كيف تتحول الملامح إلى أيقونة؟ وكيف يعاد إنتاجها فى ذاكرة الجمهور؟ لذلك جاءت بعض أعماله وكأنها تعليقات بصرية على فكرة «النجومية» نفسها، وعلى التوتر بين الصورة الحقيقية وصورة الشهرة. وفى عدد من لوحاته، يميل السيوى إلى تجريد الملامح جزئياً، ليُخرج النجم من صورته النمطية ويضعه فى حالة إنسانية خالصة، كأنه يقول: خلف اللمعان يوجد إنسان بكل قلقه وضعفه ودهشته. وهكذا، يتعامل عادل السيوى مع مشاهير التمثيل لا بوصفهم وجوهاً لامعة فقط، بل بوصفهم شخصيات تحمل حكايات ودلالات رمزية، فيحولهم إلى مواد فنية يتقاطع فيها الواقع بالذاكرة، والملمح بالأثر، والإنسان بصورة الإنسان كما يراها الفن، لا كما يراها الجمهور. عاطف أحمد يعد الفنان عاطف أحمد واحداً من أبرز التجارب التشكيلية المصرية التى تناولت وجوه مشاهير السينما والغناء بوصفها مفاتيح بصرية تحمل ذاكرة جيل كامل، فمشاهد مثل سامية جمال، نعيمة عاكف، تحية كاريوكا، فاتن حمامة، شادية وغيرهن، لم تظهر فى أعماله كـ«بورتريهات توثيقية»، بل ككائنات فنية جديدة تعيد تعريف حضورهن فى الوجدان المصرى. يعتمد عاطف أحمد تفكيك أيقونة الشهرة نفسها كما يعيد بناء الصورة من الداخل، وليس مجرد إعادة إنتاج صورة فوتوغرافية معروفة. فبالنسبة الى أعماله لسامية جمال أو نعيمة عاكف، لم يرسم «الفنانة» فقط، بل رسم المرأة - الظاهرة: تاريخ، حركة، حضور، وشخصية، ولذلك نجد أن عاطف أحمد يضيف لبورتريهات المشاهير مستوى سردى بحيث إن اللوحة تحمل قصة، أو لحظة داخلية، تجد فيها إن نظرة سامية جمال ليست مجرد نظرة كاميرا، بل امتداد لخبرة، أو إدراك، أو حالة نفسية. نفس الأمر مع نعيمة عاكف، التى غالباً يقدمها بحيوية داخلية بدل الحركات الاستعراضية المباشرة، عبر أسلوبه الذى يميل إلى الدقة الانفعالية، والإضاءة عادة تكون ناعمة وعميقة، لتكشف إحساساً داخلياً، والملامح تبنى بطبقات من التعبير، كأنها مترددة بين القوة والضعف، فهو لا يعيد خلق الوجه فقط، بل يعيد خلق مزاج الشخصية. وما يميز عاطف أحمد عن غيره من فنانى البورتريه أنه لا يتعامل مع المشاهير كرموز جاهزة، بل كنصوص مفتوحة، يخلع عنهم هالة النجومية، ويعيد بناء حضورهم الإنسانى عبر لغة بصرية تجمع النحت بالتصوير، والانفعال بالملمح، فيخرج المشاهير من إطار الذاكرة الجماعية إلى مساحة قراءة جديدة، أكثر عمقاً وصدقاً. أحمد رجب صقر من أبرز ملامح أعمال الفنان أحمد رجب صقر خاصة فى معرضه الذى حمل عنوان «ثرى مصر» توظيف وجوه المشاهير، من ممثلين ومطربين، كـ«مادة» لصياغة سرد بصرى يرتبط بتاريخ مصر الاجتماعى والثقافى، بدلاً من الاكتفاء بالبورتريه التقليدى. وقد اعتمد صقر على قراءة تراكمية للشخصيات: استمع إلى مقاطع صوتية لهم، راجع أفلامهم، قرأ سيرتهم، ومن ثم أعاد تشكيل صورتهم عبر لغة تشكيلية تتداخل فيها الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجمعية، هذا النحو من العمل جعل اللوحات تبدو قطعاً أرشيفية معادَة التشكيل، تحمل آثار الزمن والغبار إلى جانب وهج الشهرة. وقد اتسمت لوحات المعرض بتوظيف النسيج والسطوح الملموسة (texture) واستخدام طبقات لونية متراكمة تمنح الوجوه عمقاً رمزياً؛ الخلفيات لم تكن فراغاً وإنما مناطق دلالية تحتوى علامات وإشارات – نصوص أو رموز أو عناصر تراثية – تحيل إلى السياق الوطنى أو لقصص خاصة بتلك الشخصية، فى بعض الأعمال، بدا المعالَج التشكيلى أقرب إلى نحت سطحى على القماش، حيث تبنى ملامح الوجه كبنى طينية أو محفورة، ما يعطى تأثيراً زمنياً وكأن الصورة «مستخرجة من تراب التاريخ» ومنه جاءت تسمية المعرض. رضا خليل كما اختار الفنان التشكيلى رضا خليل أن يجعل من وجوه نجوم السينما ومشاهد أفلامهم مادةً سرديةً ملونة، تعيد استحضار ذاكرة الحارة المصرية وحركة الشارع، لم تكن لوحاته مجرد محاكاة لصور المشاهير، بل معالجة بصرية تعيد تشكيل الذاكرة، تربط بين اللقطة السينمائية واليوم القاهري، فتتحول الوجوه إلى خرائط زمنية تحمل آثاراً ومعاني. وفى السنوات الأخيرة قدم خليل سلسلة معارض انشغلت بعلاقة الفن التشكيلى بالسينما المصرية، حملت عناوين وإيحاءات بصرية مرتبطة بالشاشة الفضية، وظهرت تغطياتها تحت مسميات مثل «سينما ترسو» و«سينما مصر»، حيث عرض لوحات تستدعى أيقونات الشاشة ومشاهد أفلام خالدة، تناول فى تلك التجارب ملامح نجوم كبار مثل شكوكو، محمود المليجي، وسعاد حسني، إلى جانب لقطات من أفلام مثل «الأرض»، لم يكن هدفه التوثيق فحسب، بل تقديم قراءة تشكيلية جديدة لسرديات الناس والمكان. طارق الكومى اشتهر النحات طارق الكومى بتقديم أعمال ميدانية لوجوه وطنية وفنية بارزة، ما جعله واحداً من أهم الأسماء وقد شكّلت تماثيله لسيدة الغناء العربى أم كلثوم علامة فارقة؛ إذ تنتشر أعماله لها فى أكثر من موقع، منها تمثال دار الأوبرا، وتمثال الزمالك، وآخر فى مدينة المنصورة، كما يعد تمثاله لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب من أبرز أعماله. ويقوم منهج الكومى فى النحت على التركيز على «جوهر الشخصية» داخل التمثال؛ فهو لا يكتفى بنقل الملامح بدقة، بل يسعى إلى أن «يحمل التمثال الحياة» — فى الوقفة، تعبير الوجه، أو سكون اللحظة، كما يفضل الكومى التلخيص والاختزال على التشخيص الزائد؛ ففى نحت الشخصيات التاريخية أو الفنية، لا تطغى الواقعية بقدر ما يعلو التعبير عن الهوية والمعنى. وتقوم رؤيته على أن التمثال ليس مجرد عمل فنى، بل هو عنصر بصرى وجغرافى فى آن واحد، يتفاعل مع المكان والجمهور، ويجمع بين الكتلة والحجم والفراغ والذائقة، ليصنع سرداً بصرياً يخاطب المتلقى العام لا المتخصصين وحدهم. عصام درويش عند عصام درويش، الاهتمام بمشاهير الفن ليس فقط باعتبارهم وجوهاً محبوبة، بل لأنهم يمثلون ذاكرة جماعية ثقافية: صورة من الزمن الجميل، نجمة تركت أثراً فى وجدان الناس، وشخصية تشكل جزءاً من الهوية البصرية للمجتمع. لذلك، عندما ينحت تمثالاً مثل فاتن حمامة أو محمود ياسين، فهو لا يكرر صورة فوتوغرافية فقط، بل يسعى لإنشاء نص بصرى يحمل حنينَ جيل، وذاكرة فنية لا تفنى، هذا ما صرح به بنفسه عند نحت تمثال فاتن حمامة، مشيراً إلى أن العمل ليس مجرد تمثيل بل «تكريم لمسيرة فنية» تستحق الخلود. مى عبدالله فى السنوات الأخيرة، برز اسم الفنانة مى عبدالله بوصفها واحدة من أكثر التجارب النحتية تميزاً فى المشهد المصرى المعاصر، ليس فقط بسبب قدرتها على تحويل وجوه المشاهير إلى أيقونات ثلاثية الأبعاد، بل لأنها استطاعت أن تبتكر لغة نحتية خاصة تجمع بين السخرية المحببة، والتشخيص الدقيق، والطابع الاحتفالى بالأيقونات الثقافية. ومنذ مشروع تخرجها الذى لفت الأنظار فى كلية الفنون الجميلة، وحتى أحدث مشاركاتها فى معرض «كادرات موازية»، ظل خيط واحد يربط أعمالها: البحث عن «الجوهر الإنساني» خلف هالة الشهرة، وقد قدمت تماثيل لعدد كبير من الشخصيات، من بينها:أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، نجيب الريحانى، سمير غانم، شادية، صلاح جاهين، فؤاد المهندس، سعاد حسنى، محمد رمضان، أحمد زكى.