الثلاثاء 14 مايو 2024

جزيرة غمام .. معجزة درامية غير مسبوقة

5-6-2022 | 07:46

بقلم: هبة عادل

"فى البدء كان الكلمة".. إنها ليست مجرد آية إنجيلية فقط، وإنما هى عبارة لطالما استعرتها عندما أكتب عن منتج درامى بديع، ولكنى أعترف الآن بأننى لو كنت أعلم أن قادم الأيام سيخبئ بين طياته هذا المسلسل العظيم «جزيرة غمام»، لكنت قد ادخرت هذه الاستعارة لمقام الكتابة عنه بلا منافس، هذا النص البديع للكاتب الرائع عبد الرحيم كمال، جاء فائق الإبهار، قادنا إلى رحلة خلابة آسرة للعقل والوجدان والروح، إلى عالم تفاصيله أسطورية إلى حد لا يوصف، بتراكيب لجمل وعبارات لم نسمع مثيلتها من قبل، خالقاً حالة من المتعة اللانهائية لملحمة، بل معجزة درامية بكافة المقاييس والمعايير.

تأتى البداية مع أجواء تاريخية تعود لعام ١٩١٤.. ولعل المؤلف قصد بها تمويه الموقف كله، وإحالتنا إلى عوالم الرمز والإسقاط؛ ليقول إنها حدوتة كل زمان ومكان.. وها هو الشيخ «مدين» الذى قام بدوره الفنان الكبير عبدالعزيز مخيون، وهو الشيخ الهرم، الراقد على فراش الموت وسط ثلاثة من الرجال الذين قام بتربيتهم ورعايتهم، وهم العمالقة أحمد أمين، فتحى عبدالوهاب، ومحمد جمعة.. يتوفى الشيخ مدين بعد ما قسم عليهم تركته، حيث ترك بيته للشيخ يسرى «محمد جمعة» ومشيخة الجامع ومكانه لـمحارب «فتحى عبدالوهاب» وطلب أن يختلى بعرفات «أحمد أمين» ليورثه دفتراً به اعترافات أهل القرية بخطاياتهم وأخطائهم التى رووها لشيخهم «مدين»، فى رغبة منهم للوصول إلى حالة من التطهر، إذا جاز التعبير، كما يورث عرفات أيضاً سبحته فقط ورضاه، الذى ينطلق بهما هذا العرفات الزاهد الفقير إلى الله، ساعياً فى الحياة يكد ليجد قوته اليومى، بينما زاده الحقيقى هو قلبه العامر بحب الله.. ومن هنا كانت البداية الموحية تماماً بالهدف الفلسفى العميق الذى سيقود الأحداث فيما بعد، حيث الاختبار لقيم العدل والحق والخير والجمال.. وماذا سيفعل الوارثون الثلاثة، كل بما حصل عليه.

تتوازى الأحداث سريعاً بظهور «الحاج عجمى» كبير الجزيرة، الذى لعب دوره باقتدار الفنان القدير رياض الخولى ومعه ذراعه اليمنى بطلان أو الفنان محمود البزاوى.. وهما يمثلان هنا سلطة الحكم، ثم يظهر «طرح البحر»، حيث مجموعة من السفن القادمة عبر البحر، بقيادة زعيمها «خلدون» طارق لطفى، ممثلاً الشر والغزو والاستعمار، ومعه أيضاً جدته العجوز «لبنى ونس» والعايقة «مى عز الدين» رمز الغواية القادرة على إسقاط القلوب فى شباكها وحبائلها بالجمال أو بالسحر - بالمكر أو بالحب - المهم أن تصل إلى مبتغاها.. وفى إيقاع متلاحق تظهر «مليحة» هذه السيدة العجوز الضريرة التى تأتى لتتعرف على جثة فتاة قتيلة أخرجها الصيادون من البحر، وهى حفيدتها «سندس»، وتطالب مليحة، التى جسدت شخصيتها الفنانة عايدة فهمى بامتياز يحسب لها ويضيف لرصيدها الكثير والكثير.. الشيخ عجمى بالعثور على قاتل الفتاة لإقرار العدل والحق.. وبين هذه الخيوط والخطوط، حيث مدين وأبناؤه والعجمى رمز السلطة، ومليحة رمز العدل، وخلدون رمز الشر.. تتضافر الخيوط من الوهلة الأولى بغير غموض رغم العمق، وبغير تعقيد رغم فلسفة الحالة الوجودية شديدة التكامل.

حسبنا مثلاً اسم العمل وكلمة غمام، فى إشارة واضحة إلى البعد الفلسفى من تلك التسمية، حيث الظلال التى تطفئ نور القرية البسيطة بفعل الشيطان الوافد إليها «خلدون»، وكل محاولاته للحرب أمام الخير الذى يجسده عرفات «أحمد أمين».

ووسط أحداث العمل، اجتماعية الظلال، كانت الصراعات الدرامية المتشابكة واضحة كالنور، وكان البعد الروحى فيها هو الأعمق والهدف النورانى من رسالة النص كان الأجلى، واستشراف المعانى الدفينة هو الأقوى أثراً، وكان عرفات يغلب الجميع بقوة الكلمة البسيطة وعفويته النورانية الروحانية.

وبالتوازى مع هذا الجبروت المذهل فى الكتابة، إذا جاز التعبير، كان إبداع أبطال العمل.. كل واحد وواحدة منهم تقمص الشخصية المكتوبة له باحتراف مبهر، فما رأيناه لم يكن أداءً تمثيلياً لممثلين حافظين أدوارهم ومتدربين على الحركات، وإنما كان تلبساً تاماً للشخصية.. فما هذه القوة فى أداء رياض الخولى ومهابته حتى وإن تحرك أمام الكاميرا بظهره وعباءته التى تغطى جسده المرهوب، وما هذا الأداء الفائق الذى لا يضاهى للشيطان خلدون وملامح الشر المطلق فى وجه طارق لطفى، وما هذا التمكن والتألق والهدوء والثبات الذى أبهرنا به أحمد أمين فى دور الزاهد العارف بالله؟!

وجاءت مى عز الدين فى دور. «العايقة» الغجرية فى أفضل حالاتها التمثيلية وفى تناقضات درامية مرهقة للغاية، والبديع فتحى عبدالوهاب المتوهج فى دور رجل الدين الزائف، ومحمد جمعة المتمكن دائماً من أدواته، ومحمود البزاوى صاحب نبرات الصوت الواثق فى أداء غير متكرر، والجميلة وفاء عامر.. أو «هلالة رضوان عيسى» المرأة القوية ضد كل قوى الشر فى الجزيرة.

الموسيقى التصويرية بالعمل أيضاً فاقت ألحان التراتيل والإنشاد وكأنها مستوحاة من أرواح الملائكة بتفوق يحسب تماماً للموسيقار شادى مؤنس الذى تكامل بدقة مع مفردات العمل وكلماته، أما التصوير لمدير التصوير إسلام عبدالسميع فجاء رائعاً سواء بسواء فى المشاهد الخارجية على البحر أو داخل شوارع المدينة أو داخل البيوت المصنوعة بديكور قديم وإضاءة اعتمدت على الشموع، خاصة فى مشاهد التصوير الليلية، ويكفينا من روعة التصوير مشهد النهاية، حيث الزوبعة التى أنبأ بها الشيخ مدين ووريثه عرفات عندما جاء ما هو أشبه بالطوفان الذى أغرق المدينة لما زاد شرها، وفى عبقرية تامة ينتهى العمل إلى حيث بدأ بعد هدوء العاصفة، وبعدما يكبر عرفات ويطعن فى السن ويرحل تاركاً لأبناء جدد من مريديه نفس ما ورثه من الشيخ مدين، ويعود خلدون ليظهر من جديد بعد أن كان قد قتل على يد أهل القرية  ليؤكد النص أن الخير والشر باقيان فى الحياة إلى يوم الدين، وأن صراع الخير والشر أزلى لا ينتهى ما دامت على الأرض حياة.

رسم المشاهد البديعة بالكاميرا والصوت والصورة والإضاءة والمونتاج المخرج البارع حسين المنباوى، فى إخراج يستحق أكثر من الأوسكار له ولكل فريق عمله، حيث أخرج كل منهم من ثوبه إلى رحاب أوسع من عوالم الدراما التى نعرفها أو حتى الخيال مهما حاولنا السباحة بعيداً عن تيارات الواقع، ولكنه الواقع الذى صنعه خيال صناع «جزيرة غمام» لهم كل التحية والسلام.