كان من المعروف أن علاقة قوية تربط بين العندليب الأسمر والكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين، و لطالما فتح كاتبنا الكبير قلبه متحدثاً عن مكانة حليم الخاصة جداً لديه، وماذا كان يدور فى لقاءاتهما، وغيرها من القصص والحكايات..
اليوم نعيد نشر أجزاء من حوار مهم أجرته " الكواكب " مع مصطفى أمين بعد رحيل حليم ، فماذا قال ؟
و قد جاء فى مقدمة محرر الحوار أنذاك القول بأنه: حينما نتحدث عن عبدالحليم حافظ، فلا ننسى من أحبوه وساندوه وأعطوه النصح، ووقفوا إلى جواره يرسمون له طريق النجاح.. طريق الشهرة.. والصحفى الكبير الأستاذ مصطفى أمين كان من أكثر الناس وقوفاً إلى جوار عبدالحليم، يعطيه الأمل فى النجاح والانطلاق، ويشفق عليه فى الوقت نفسه لأنه كان يحس بكل ما يعانيه من آلام نفسية وعضوية.. لم يدخر الصحفى الكبير وسعاً فى أن نصح فناننا الكبير، ورسم طريق نجاحه وشهرته.
قلت لأستاذنا الكبير.. فى ذكرى الفنان الراحل عبدالحليم حافظ ماذا تقول عنه خاصة أنك كنت من أوائل الذين شجعوه.. وكنت تعتز بصداقته؟
أجاب الأستاذ مصطفى أمين: إن ما أود قوله فى ذكرى عبدالحليم أنه كان صديقى، لقد عرفته فى أول الطريق، وهو مبتدئ.. أعجبت به لأنه كان مكافحاً وكان يريد أن يتعلم، وكان يريد أن يستفيد من تجارب الآخرين.. وعندما يبدأ فى الإعداد لأغنية جديدة يغنيها كالطالب الذى يستعد لدخول الامتحان يذاكر ليلاً ونهاراً.. وهو يأكل، وهو نائم.. ولهذا أعجبت بعبدالحليم.. المجد، المجتهد والفلاح البسيط الذى استطاع بجده واجتهاده أن يصعد إلى القمة، ولم يعاونه أحد، بل وُجهت إليه ضربات كثيرة، أكثر كثيراً جداً من المساعدات التى قدمت له.
أذكر أنه جاءنى ذات يوم وهو يائس أكثر ما يكون، جاءنى وقد عقد النية على أن يترك الغناء، لما يلاقيه فى الحقل من حقد الناس وكراهيتهم، فلم أتركه يسترسل فى إبداء الأسباب التى دفعته لقوله هذا، وقلت له على الفور، إن هذه الشتائم التى توجه إليك، هى المَدافع التى تضرب وتنطق ابتهاجأً بمولد نجم جديد، ولهذا عليك ألا تهتم بتلك الشتائم، أو ذلك الهجوم الذى يحاوله أعداؤك.
وكان عبد الحليم ذكياً جداً، وذكاؤه هو ذكاء الفلاح، فالفلاح المصرى لا يمكن الضحك عليه بسهولة، وكانت هناك خلافات تحدث بينه وبين جميع من كانوا يعملون معه مثل كمال الطويل مثلاً ، لكن خلاصة الأمر أن عبدالحيم كان شعوره دائماً نحو كمال الطويل، ونحو كل الشباب الذين بدأوا الطريق معه هو شعور الزمالة والصداقة، وفى رأيى أن عبدالحليم مدين بالحب الذى أعطاه له زملاؤه وأصدقاؤه فى شبابه، فهذا الحب الذى غمروه به هو الذى ساعده فى صعود السلم وفى تحقيق النجاح الذى وصل واستمر فيه.
قلت للأستاذ مصطفى أمين: أعرف مدى الحب الذى كان بينك وبين عبدالحليم وتلك النصائح التى كنت تؤديها له باستمرار.. ما الموقف الذى مازلت تذكره حينما جاءك عبدالحليم يشكو ظلم الناس؟
قال الصحفى الكبير: أجمل موقف أذكره، هو ذلك اليوم الذى جاءنى فيه عبدالحليم، وقرر أن الحياة ضاقت به وضاق بها أيضأً، وأنه يلقى نكراناً وجحوداً، وضربات من الذين كان يظن أنهم سوف يساعدونه، وأنه يزرع الخير ويحصده شرأً، ويزرع الحب ويحصد الكراهية.. وقال:
أنا بين نارين إما أن أنتحر، وإما أن أعتذر عن العمل فى هذا الوسط الفني!..
على الفور رددت عليه باسماً وأنا أقول له: حقاً إن هذه أخبار سارة، فلو كنت إنسانأً فاشلأً لما أحس بك أح د ولما حدث لك هذا.. وخذ عندك..
«أبو المعاطى أفندى» الكاتب فى السكة الحديد.. هل هناك أحد يشتمه؟!
قال عبد الحليم : لا.
سمعت عنه؟
قال عبدالحليم: لا.
هل أحد يريد القضاء عليه؟
قال عبدالحليم: لا.
قلت له.. لأنه كده!
فإما أن تختار أن تكون على القمة، وتدفع ثمن تذكرة الصعود إلى القمة، وهى تحمل الشتائم والحملات والهجوم والظلم، وإما أن تصبح «أبو المعاطى أفندى» فى الفن، ولا أحد يتطرق إليك بجيد أو سيئ.. وكل من يسمع عنك يقال له.. هذا رجل طيب وغلبان!
قال لى عبدالحليم على الفور: لا أريد أن أصبح «أبو المعاطى أفندي».
فقلت له: اتفقنا، واعتبر كل ما يقال ضدك تذاكر تدفعها، وكلما ارتفعت إلى أعلى فإن الثمن يزداد ويرتفع ثمن التذكرة، ويرتفع ثمنها أكثر وأكثر وأكثر.. وفى هذه الحالة سوف تتضاعف الحملات وتتضاعف وتتضاعف.. ومعنى هذا أنك وصلت القمر.. وفى رأيى أن هذه الشتائم هى الوقود الذى يجعل الصاروخ ينطلق إلى القمر.. الحسد والحقد والكراهية والأكاذيب، والحملات الباطلة الظالمة هذه هى الوقود الذى يدفع الصاروخ إلى أعلى.
إننى لن أنسى ذلك اليوم الذى بكى فيه عبدالحليم أمامى نتيجة ما كان يلاقيه من الجحود ومن الحملات الظالمة التى كانت توجه إليه، والصفات التى كان الآخرون يطعنونه بها فى الظلام.
وبعد أن تحدثت معه فى كل تلك الأمور اقتنع فى النهاية وخرج سعيداً.. ولكن هل تنتهى آلام الإنسان، وهل ينتهى الشر من الحياة ؟.. لا.. بل ظل هذا الأمر يواجه فناننا الكبير طيلة حياته.
قلت للأستاذ مصطفى أمين: هل كان عبدالحليم يستشيرك فى بعض أغانيه؟
أجاب قائلاً: لاشك أن عبدالحليم حافظ كان يتمتع بذوق راقٍ وحس فنى ممتاز، ومع هذا فإنه حينما كان يختار أغنية جديدة سوف يغنيها، فقد كان يقرأها لى.. وأذكر أنه حضر هو والموجى إلى منزلى حينما كان يلحن له أغنية «جبار»، ووقتها غنى الموجى اللحن مع عبدالحليم فى وجودى.. وبالطبع ليست عندى خبرة موسيقية إنما أعتبر نفسى متذوقاً، إنما أنا أستمع كرجل الشارع، وكل ما فى الأمر أن عبدالحليم كان يحب أن يسمع وجهة نظرى ليس كخبير ولكن كمتذوق فقط!
قلت للأستاذ مصطفى أمين: قيلت آراء كثيرة حول مرض عبدالحليم حافظ.. هل حب الحياة هو الذى دفعه لكى يقاوم تلك السنوات الطوال أو ماذا فى رأيك؟!
قال الأستاذ مصطفى أمين: إن عبدالحليم حافظ فى مرضه، وفى ظروف تحمله لتلك الآلام الرهيبة التى كان يعانى منها كان يتألم أكثر وأكثر حينما يسمع بأنه يتظاهر بالمرض ويدعيه لكى يقلد فناناً مثل فريد الأطرش فى مرضه ولكى يكسب عطف الناس وحبهم له لأنه مريض، ولكى يكسب نوعاً من الشهرة أيضاً.
وعبدالحليم فى حقيقة الأمر كان مريضأً.. يتألم ألماً فظيعأً إلى الحد الذى يجعله يبكى من شدة الآلام التى كانت تصيبه.
وحينما يجد نفسه فى فترات متلاحقة محكومأً عليه بالنوم فى سرير المرض، لا يبرح الفراش بأمر الطبيب، ويدخل جسمه فى اليوم الواحد عشرات الحقن، فقد كان مرضه خطيرأً للغاية وفى آخر أيامه استلقى فى فراش المرض، ومع هذا كان يحاول فى لحظات أن يستمتع بكل ما فى الحياة من جمال.
لقد تعذب هذا الفنان كثيرأً بسبب مرضه، ولكنه كان يأمل أن تعطيه الحياة أيامأً يعيشها، كنت أجده يقول لى أنا لا أود أن أموت قبل أن أنتهى من هذه الأغنية وبعدها أموت، وحين ينتهى من الأغنية وتلقى من النجاح الكبير، يجيئنى قائلاً: هناك واحدة جديدة أرجو أن يعطينى الله عمرأً لكى أغنيها لتسعد الناس، ثم بعد ذلك أموت.. كان يود أن يعيش، ومرضه هذا جعله يشعر بقيمة الحياة، وحبه للحياة، لقد كافح عبدالحليم من أجل أن يعيش كفاحاً مريرأً.
وكيف استطاع عبدالحليم حافظ أن يبدع ويبتكر وهذا الحسد والحقد من حوله فى كل مكان؟!
أجاب مصطفى أمين قائلاً: فى رأيى أن الفنان حينما ينظر أكثر فسوف يجد أن الأغلبية تحبه.. تمامأً كما تنظر إلى حديقة جميلة جداً وفيها «طوبة»، من الخطأ جداً أن تنظر إلى هذه «الطوبة» وتترك الجمال المحيط بك فى أرجاء هذه الحديقة الغناء.