السبت 4 مايو 2024

على خلفية نقاش عبد الوهاب وفاروق جويدة

26-6-2022 | 21:26

منذ أيام أثار الشاعر الكبير فاروق جويدة نقاشا مهما فى صيغة تساؤل : أى الفنون أعظم .. الشعر أم الرسم أم الموسيقى؟ وذلك على خلفية نقاش سابق جمعه مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ، يومها قال له جويدة أن فن الموسيقى هو الأعظم متصورا أن هذا سوف يلقى هوى فى نفس موسيقار كبير بقيمة محمد عبد الوهاب ، لكن موسيقار الأجيال فاجأه برأى مخالف.. هو أن الشعر هو الأعظم لأن" فى البدء كان الكلمة" ، وأن الشعر هو أبو الفنون وفيه الموسيقى من خلال الأوزان والتفعيلات ، وبه الرسم من خلال التصوير البليغ الذى قد يفوق أعظم الرسامين ، المدهش فى الأمر أن أيا من الرجلين لم ينحز للفن الذى افنى فيه عمره ، وإنما رجح كفة اللون الآخر من الإبداع مدافعا بحيادية تامة ودون تأثر عن وجهة نظره المجردة من الميل الشخصى ، وقد أحيت هذه المساجلة بن جويدة وعبد الوهاب فى نفسى السؤال ذاته الذى يلح على منذ زمن ، ووجدتنى أنحاز لوجهة نظر فاروق جويدة التى ترى أن الموسيقى هى أعظم الفنون ليس فقط لأنها – كما قال - لغة عالمية تخاطب الوجدان البشرى فى كل زمان ومكان بعكس الشعر الذى يحتاج إلى لغة مشتركة بين المبدع والمتلقى كى تؤتى الكلمة أثرها ، أو اللوحة التشكيلية التى قد تحتاج إلى مفسر لما يقصده مبدعها لا سيما إذا كانت سريالية تجريدية عبثية أو ميتافيزيقية أو شيئا من هذا القبيل ، وإنما أيضا لأن الموسيقى إبداع خالص ، خلق من عدم .. فالشعر هو استحضار من المبدع لحصيلته اللغوية وإعادة صياغتها وفق قواعد وأسس معينة تراعى حسن البيان وجرس الموسيقى كى تعبر فى مصنف جديد عن خاطرة أو فكرة بعينها ، لكنه فى النهاية يستند إلى كلمة موجودة بالفعل لأن فى البدء كان الكلمة . ولا شك أيضا فى موهبة الرسام وقدرته الإبداعية لكنه بالأساس يستخدم ألوانا من صنع الطبيعة يحاكى بها كذلك شيئا من الطبيعة حتى لو كان يعبر عن مكنون بداخله ، ومهما استعصت اللوحة التشكيلية على متلقيها فهى فى النهاية خطوط وألوان وظلال وكتل وفراغات أعيد تشكيلها وصياغتها وفق وجهة نظر مبدعها . أما فى الموسيقى فالأمر يختلف تماما ، نعم الكون كله بجميع كائناته قائم على الموسيقى ، لكنك لا تسمع الكروان يغرد مثلا من مقام " دو ماجير " عند الغرب ، أو العصفور يزقزق من مقام " الراست " عند الشرق .. الموسيقى إبداع خالص من العدم يخص صاحبه ولا يتشابه فيه مع غيره إلا إذا قصد التقليد ، والموسيقار حين يجلس إلى آلته الموسيقية لا يستدعى من ذاكرته لا كلمة يعرفها ولا صورة رآها ، وإنما يترك روحه الخلاقة تقوده إلى أنغام لم يكن يعرف عنها شيئا قبل الجلوس إلى آلته ، بل أن هناك عباقرة موسيقيين يكتبون موسيقاهم على الورق مباشرة دون الحاجة إلى آلة موسيقية ، وأفذاذ منهم – كبيتهوفن فى سنواته الأخيرة – لا يستمعون حتى إلى ما يبدعونه ، ثم أنت فى النهاية أمام مصنف إبداعى لا شبيه له فى الحياة قادر على توحيد الوجدان الجمعى والتأثير فيه ومخاطبة كافة أجناس البشر فى كل زمان ومكان ، وأنت فى كل الأحوال تستطيع أن تستغنى عن الشعر أو الرسم لكنك أبدا لا يمكنك العيش بلا موسيقى حتى بمعناها البسيط ، وأذكر أننى يوما سألت الموسيقار عمر خيرت فى حوار نشرته " الكواكب " : هل تصورت الحياة بلا موسيقى؟ فكان جوابه : لن تكون حياة .