من السنن الحميدة التى استنها مهرجان الإسكندرية السينمائى لدول البحر المتوسط الاحتفاء بمئوية رموز الفن السابع فى مصر ، وحسنا فعلت إدارة المهرجان حين قررت الاحتفاء هذه الدورة بمئوية الموسيقار الراحل على إسماعيل ، وقد شاء القدر أن يكون مولد الموسيقار على إسماعيل فى اليوم ذاته الذى عرف العالم فيه العرض السينمائى الأول بالصالون الهندى فى المقهى الكبير شارع كابوسين بالعاصمة الفرنسية باريس ، ولكن بعد مرور سبعة وعشرين عاما على هذا الحدث الفارق فى الثامن والعشرين من ديسمبر 1895 وكأن الله قد أراد لعلى إسماعيل أن يقترن ميلاده بميلاد ذلك الاختراع الفذ الذى غير شكل الحياة على وجه الكرة الأرضية دون مبالغة أو تضخيم .
إذن فعلى إسماعيل المولود فى الثامن والعشرين من ديسمبر 1922 هو ابن شرعى لثورة 1919 بكل ما أزكت فى المصريين من روح وطنية ذابت فيها كل الفوارق الدينية والعرقية والاجتماعية ، وهو ابن سنة 1922 وقت أن كان موسيقار الشعب سيد درويش فى قمة ثورته الموسيقية قبل أشهر قليلة من رحيله المفاجئ فى سبتمبر 1923 ، هاتان الثورتان – الوطنية والموسيقية – هما اللتان شكلتا وجدان على إسماعيل حيث نشأ فى ظلهما وتأثر بما أحدثته من تغير على كافة المستويات فى مصر ، فإذا ما قامت ثورة وطنية أخرى فى يوليو 1952 وهيأت المناخ لظهور فن موسيقى لصيق بها كان على إسماعيل أحد رموزه وأبرز قادته وذائقة موسيقية شديدة الخصوصية صاحبت كل انتصارات هذا الجيل وانكساراته أيضا .
وابن البيئة الشعبية الذى نشأ فوجد والده عازفا ثم قائدا لفرقة الموسيقى الملكية لم يكتف بدراسة الموسيقى الغربية الاوركسترالية وإنما راح يكمل معارفه الموسيقية فى معهد الموسيقى المسرحية فى جيل مميز كان له أثره البالغ فى تاريخ الموسيقى العربية منذ منتصف القرن العشرين ، فإذا بهذا الشاب متعدد الروافد والتأثيرات يصوغ كل هذه المعارف فى جمل موسيقية تجمع بين رصانة البناء ورهافة الإحساس ، بين تقنيات الغرب وروح الشرق ، وهو فى هذا كله شديد المصرية مستوعب لكل الموروث الشعبى الذى زاد منه انغماسه فى ربوع مصر ريفها وحضرها بحثا هوية مصرية خالصة ميزت عروض فرقة رضا للفنون الشعبية التى كان على إسماعيل ثالث ثلاثة قاموا بتأسيسها مع الراحلين على ومحمود رضا .
وإذا كان الرجل قد بدأ مشواره مع موسيقى الأفلام متأخرا بعض الشىء ( البنات والصيف 1960 على الأرجح ) فإن بواكير إسهاماته الموسيقية السينمائية بتلحين أغنية الصيادين فى مقدمة فيلم " بنت الشاطئ " سنة 1952 كانت تنبئ بقدرة لافتة على ترجمة الصورة السينمائية ومشاعر شخوصها إلى معادل موسيقى ليس فقط قادرا على خلق الأجواء وإنما أيضا على التعليق على ما نراه على الشاشة .
والمدهش أنه كان بارعا فى كل الأجواء الدرامية وبيئاتها ، فى الأجواء الريفية المشحونة تجده مثلا فى " الخرساء " وفى الدراما العاطفية تجده فى "يوم من عمرى والشموع السوداء وأبى فوق الشجرة" ، وفى الدراما الاجتماعية هو حاضر فى "لا تطفئ الشمس والأيدى الناعمة" ، وفى الدراما الاجتماعية ذات البعد الوطنى والأجواء الشعبية لديه "بين القصرين وقصر الشوق" على سبيل المثال ، وفى الكوميديا له تميزه فى "أه من حواء وعروس النيل ومراتى مدير عام "، وفى الفيلم الاستعراضى حدث ولا حرج ، يكفيه أجازة نص السنة وغرام فى الكرنك ، وحتى الدراما التاريخية دينية كانت أو بدوية لا ننسى له "عنترة بن شداد وهجرة الرسول" .
أما عن درته الخالدة " الأرض " للمخرج يوسف شاهين " سنة 1970 فلا أبالغ إذا قلت أن جانبا كبيرا من الأثر الذى أحدثه هذا الفيلم والممتد حتى يومنا هذا مهما تعددت مرات مشاهدته يعود إلى موسيقى على إسماعيل وقدرته الفائقة على استلهام الروح الصرية فى ريف ثلاثينيات القرن الماضى وفى جمل شجية مؤثرة وموحية مع اختيار مؤفق لآلة الكولة كآلة أساسية فى لعب الجمل الموسيقية الرئيسية وكأننا نستمع إلى عازف " العفاطة " أو السلامية " وهو جالس على حافة إحدى ترع الريف المصرى يرثى لحاله وقلة حيلته وهوانه على الناس ، ثم ينتهى الأمر بصرخة نافذة إلى الوجدان " الأرض لو عطشانة " التى تعبر عن شموخ المنكسر أو روح المقاومة التى لا يتنازل عنها كل مستمسك بأرضه ووطنه .
ولولا أننا في مقال يتناول على إسماعيل سينمائيا لطال الحديث عن إسهاماته الأخرى فى التلحين الغنائى والموسيقى البحتة وموسيقى الرقصات والتوزيع الموسيقى وقيادة الأوركسترا إلى آخر إسهامات هذا العبقرى الفذ ، لكن يكفى التأكيد على أنه فى كل تلك الإسهامات كان مصريا أصيلا استوعب تقنيات الكتابة الموسيقية فصاغها بروح ضاربة فى جذورنا رغم طزاجتها الدائمة والمتجددة .