السبت 4 مايو 2024

الأعمال التاريخية بين الحقيقة والخيال

كيرة و الجن

5-11-2022 | 15:33

موسى صبرى

 

«السينما التاريخية»، مصطلح مهم فى عالم صناعة الفن السابع، وهى تلك الأعمال السينمائية التى تلعب مواضيعها على أمانة الحدث التاريخى، مع قدر من الإمتاع الفنى والدرامى وإسقاط الماضى على الحاضر أو العكس حسب رؤية صناع الأفلام دون تحريف للوثائق، وتستمد تلك السينما مشروعيتها من نصوص أدبية أو صور ووقائع تاريخية، لكن قد تختلط الأمور لدى المتلقى، حول تلك الموضوعات التاريخية التى تقدم على الشاشة بين الحقيقة التاريخية والخيال الذى يضيفه المؤلف إلى الأحداث التاريخية، وهو الأمر الذى يجعلها أحياناً عرضة للهجوم والنقد اللاذع، خاصة من المتخصصين فى التاريخ القديم والحديث، فيرمونها بسهام نقدهم، ويطالبون بمنع عرض هذه الأعمال.

«الكواكب» فتحت هذا الملف مع بعض مؤلفى هذه الأعمال الفنية التى تتعرض للتاريخ، وعدد من الأساتذة المتخصصين فى التاريخ، والنقاد للوقوف على الحقائق، وما هو المسموح به فى تناول الأحداث والوقائع التاريخية...

في البداية يقول الكاتب أحمد مراد: من الطبيعى أن تكون الأحداث التاريخية التى يتناولها المؤلف مبنية على الحقيقة والأمانة التاريخية فى سرد تلك الأحداث، ولكن الخيال يتحكم فى الدراما نوعاً ما، فإذا لم يضف الكاتب للعمل شيئاً من الخيال إلى سياق الأحداث فلن يحقق الفيلم أى مكسب تجارى، وهو ما حدث فى فيلمى «كيرة والجن»، حيث حافظت على الحقيقة التاريخية فى سرد الأحداث وفى كل لحظة حدثت فى تاريخ مصر، لكنى أضفت بعض الخيال على الشخصيات حتى لا يمل الجمهور.

ويضيف مراد: فيلم «كيرة والجن» ليس وثيقة تاريخية كما يردد البعض، ولكنه عمل فنى مغلف بأحداث تاريخية، فضلاً عن أن الفيلم تمت مراجعته تاريخياً حتى يتم التوازن بين الحقيقة التاريخية وخيال المؤلف.

ويشير المؤلف وليد يوسف، قائلاً: الكاتب قد يلجأ إلى خياله فى بعض الأحيان فى تقديم الشخصيات التاريخية، خاصة أن بعض المؤرخين مثل الجبرتى والمقريزى يصفون الأشخاص ويستعرضون تاريخهم بقليل من الإسهاب، دون أن يوفروا للمؤلف ما يحتاجه، فيضطر الأخير إلى أن يضيف من وحى خياله بما يتناسب ويتماشى مع هذه الشخصيات، خاصة أننا نجد صعوبة كبيرة فى استخراج المعلومات التاريخية من الكتب والمراجع، فبعض الأحداث والشخصيات التاريخية معروفة وبعضها غير معروف، فينسج الكاتب أكثر من شخصية ويربطها ببعض، ويحافظ على الثوابت التاريخية، ومن هنا تكمن المشكلة التى يواجهها كل مؤلف؛ لأنه يحافظ على الأمانة التاريخية.

ويضيف: عندما كتبت مسلسلاً تاريخياً عن شخصية «مصطفى محمود» فالتاريخ هنا يعود إلى عام ١٩٢١ حتى ١٩٨٦، وكنت أرى فى سيرته قصصاً وخيالات كثيرة ومتداخلة، منها ما هو مترابط، ومنها ما تضطر الدراما إلى تقديم الخيال فيه لتتلاحم الشخصيات ببعضها، لذلك فمن الصعوبة تناول العمل التاريخى وسرده فنياً كما هو، فلابد من إضفاء عامل الإبداع والتشويق فى الأحداث مع الحفاظ على الثوابت التاريخية، خاصة أن العمل الفنى ذا الطابع التاريخى قد يؤثر فى الناس أكثر من الكتب، فالأغلبية العظمى من الناس تشاهد ولا تقرأ.

ويجيب د. محمد عبدالوهاب، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة عين شمس، بالقول: فى الحقيقة إننى من أنصار الأعمال الفنية التى تحمل حقائق تاريخية، بشرط عدم تشويه التاريخ، فالمؤلف فى هذه الأعمال يخدم أفكاره، من خلال إطار يريد ملأه بشكل وطريقة تناسبه وتتماشى مع أفكاره، ولكن عليه أن يتوخى الحذر فى المراجعة، والحفاظ على الحقيقة التاريخية، لاسيما أن الأعمال التاريخية تحقق رواجاً أكثر من الكتب التاريخية، وهنا تكمن الخطورة، فالمعلومة التى تقدم على الشاشة ترسخ فى ذهن المشاهد أكثر من غيرها.

ويضيف د. محمد عبدالوهاب: على المؤلف أن يلتزم بالنص التاريخى دون تهويل أو مبالغة، وأن يبعد عن الميول والاتجاهات التى ينتمى إليها، خاصة أن فى يده أداة لتشويه العمل التاريخى، خاصة أن الجمهور ليس لديه خلفية تاريخية أو ثقافية مثل المؤلف أو المؤرخ، ولا غضاضة فى وجود خيال تربطه حركة فى الأعمال الفنية التاريخية، فالتاريخ يجمع بين العلم والفن.

ويستكمل: لابد أن يكون المؤلف صاحب شخصية وفكر، فلا يصح أن يتعامل بلغة العصر الذى يكتب فيه، فعندما أخرج يوسف شاهين «الناصر صلاح الدين» حافظ على روح العصر الذى يعبر عنه، وحافظ على الحقيقة التاريخية فى أحداث الفيلم، وكذلك فيلم «رد قلبى» الذى بيَّن الظلم فى عهد الملكية، ومسلسل «الجماعة» للكاتب وحيد حامد الذى التزم بالسياق التاريخى، وأبرز صورة سليمة عن هذا العصر وأفكارهم.

ويقول د.عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة حلوان: العمل الفنى لا يؤرخ لحادثة تاريخية، لكنه يخدم لفكر المؤلف، فمؤلف الدراما ليست له علاقة بالعلم؛ لأن العلم مستقل بذاته عن السياسة والدين والفن، وكاتب الدراما يخطئ فى المعلومات التاريخية كثيراً، فهو يبحث فى المراجع والكتب عن المعلومات التى تخدم أفكاره.

ويردف: مسموح للكاتب بالإبداع والخيال فى سرد الشخصيات والأحداث، ولكن يشترط أن يكتب الحقيقة التاريخية دون تزييف، فالكاتب ليس باحثاً فى التاريخ، حيث إن هناك فارقاً بين الكاتب والباحث التاريخى، فالمؤلف لا يصدر أحكاماً، بينما الباحث يأتى بنتائج وأحكام، ودراسته تعتمد على المصادر التاريخية الحقيقية، في حين يعتمد المؤلف على الخيال.. فعلى المؤلف أن يكون موضوعياً ويبحث عن مراجعة تلك النصوص التاريخية قبل عرضها، فهو ليس باحثاً فى التاريخ كى يعرض الأحداث التاريخية كما هى، خاصة أن هناك بعض الأعمال الفنية التى تعرض عليّ لمراجعتها فأجد بها كمية أخطاء كثيرة ومشاكل فى العرض التاريخى للأحداث وأحياناً المبالغة.

ويقول د. إبراهيم مهران، أستاذ التاريخ القديم ومصر والشرق الأدنى بكلية الآداب جامعة عين شمس: للأسف الشديد أحياناً يضع المؤلف التاريخى فى الأعمال الفنية بعض الإضافات والمعلومات المغلوطة والخاطئة التى لا تمت للحقيقة التاريخية بأى صلة، خاصة أننا كمؤرخين فى التاريخ القديم نعتمد على المصادر، ومصدرنا هو النقوش، وقد يضع المؤلف نفسه فى ورطة عندما يستشف معلومات خاطئة كما حدث فى فيلم «الكنز»، ووضع المؤلف معلومات تاريخية عن الملكة حتشبسوت مع كبير موظفيها «سن موت»، وأضاف خيالات ليست موجودة فى كتب التاريخ، وبالغ فى الأحاسيس بينهما.

ويضيف: المؤلف لا يريد الموضوعات التاريخية التقليدية، هو يلعب على «الفورم التجارى» ويركز على الأحاسيس والمشاعر، لذلك لابد من مراجعة النصوص التاريخية قبل عرضها على الشاشة حتى لا تخل بسياق الحدث التاريخى، خاصة أنه يحدث نوعاً من المبالغة كما حدث فى فيلم «عروس النيل» الذى يحوى عدداً من الأخطاء التاريخية، وأيضاً مسلسل «الملك» للفنان عمرو يوسف الذى احتوى على أخطاء تاريخية، حيث ظهر الملك أحمس بذقن فى البرومو الخاص بالمسلسل، مع العلم أن المصرى القديم لا يظهر بذقن إلا عند الضرورة.. ولكن لا مانع أن تجمع القصة الأدبية معها القصة التاريخية بشرط ألا تضلل القارئ، وتبقى على النص التاريخى كما هو.

ويقول الناقد طارق الشناوى: فى الحقيقة، لابد أن يكون المؤلف على تعاقد ضمنى مع المتلقى فيما يدور حول الموضوعات التاريخية، فلا يخترق وثيقة ولا يقدم إلا الثوابت والوقائع التاريخية الثابتة، ويسمح للخيال تحت سقف الوثيقة التاريخية، ولا يخترقها كما حدث فى فيلم «كيرة والجن»، الذى حافظ على تلك الثوابت، وكذلك فيلم «ناصر ٥٦» وغيرهما من الأعمال التاريخية الجادة.

وتقول الناقدة ماجدة موريس: هناك فرق كبير بين الفيلم الوثائقى الذى يعبر عن واقعة تاريخية مثل حرب أكتوبر أو ثورة ١٩٥٢، فهذا يصنف «عملاً تاريخياً».. أما إذا قدم جزء من الحدث التاريخى برؤية ووجهات نظر مختلفة، وأتى المؤلف أو الكاتب بآراء متباينة تعتمد على الاجتهاد الذاتى حول الموضوع أو استعرض رواية تاريخية مثلاً فهذا يسمى «عملاً فنياً» لأنه يغلف بحكايات وقصص بعضها حقيقية وبعضها غير حقيقية.

وتضيف: السيناريو والحوار القائم على إعادة تفسير الحقائق التاريخية يمثل فناً وليس توثيقاً للحدث التاريخى، وعلى المتلقى التأنى قبل الخلط بين الحقيقة التاريخية وخيال المؤلف، وينتبه جيداً فيما يقدم من موضوعات تاريخية، فقد تختلط الأمور عنده، وأتمنى أن ينوه أصحاب الأعمال التاريخية إلى ماهية العمل وإيضاح الحقيقى والخيالى منه، حتى يفهم الجمهور هذا الرصد التاريخى فى العمل.