فى الأول من ديسمبر عام 1994 رحلت عن عالمنا «فراشة السينما المصرية»، الفنانة المصرية سامية جمال، بعدما أثرت الفن المصرى بموهبتها المتفردة سواء فى الرقص أو التمثيل، حجزت لنفسها مكانة خاصة جداً بين نجمات جيلها، فلم تعتمد فقط على رشاقتها وموهبتها الاستعراضية للمشاركة فى الأفلام السينمائية كراقصة، بل أصرت على أن تثبت أن الموهبة شىء أساسى، فكانت موهبتها فى التمثيل والتقمص لا تقل أبداً عن موهبتها فى الرقص، والتى لم يضاهيها فيها أحد.
اسمها الحقيقى زينب خليل إبراهيم محفوظ، وُلدت فى قرية ونا بمركز الواسطى بمحافظة بنى سويف، فى 5 مارس 1924، وتوفيت فى 1 ديسمبر 1994 فى مستشفى مصر الدولى بالقاهرة.
عاشت سامية جمال 70 عاماً فى صعود وهبوط، وشهرة وثراء وفقر، فلاقت فى حياتها شتى التناقضات.
لقبت سامية جمال بلقب «الراقصة الحافية»، وذلك بعد موقف أدى إلى إطلاق هذا اللقب عليها، حين كانت فرصتها الأولى فى الوقوف لترقص على مسرح بديعة مصابنى، وتواجه الجمهور للمرة الأولى فى حياتها، ولكنها تسمرت فى مكانها دون حراك من شدة الرهبة، والسبب الأكثر قوة هو ارتداؤها حذاءً ذا كعب عالٍ، فسقطت وكانت الكارثة، فهددتها بديعة بفصلها؛ بسبب ما أحدثته من هرج فى الصالة.
ولكن، ولأنها عنيدة ولا تستسلم، ظلت تحاول مع بديعة حتى أعطتها فرصة أخيرة، وبمجرد ظهورها على المسرح خلعت حذاءها وأدت رقصة كانت هى بوابة دخولها لعالم النجومية، وكتبت اسمها كراقصة مصر الأولى آنذاك.
كانت سامية جمال، الفلاحة البسيطة، الحب الكبير للفنان فريد الأطرش الذى لم تقابله فى حياتها، ولم تره إلا على صفحات المجلات وشاشة التلفزيون فى بادئ الأمر، وذات يوم وخلال جلوسها على إحدى ترابيزات كازينو بديعة مصابنى، وأثناء تصفحها إحدى المجلات وقع نظرها على صورة فريد الأطرش، ذلك الشاب والنجم الوسيم، فظلت تحدق بها إعجاباً، فسألها أحد الأشخاص: «بتبصى فى صورة مين بالشكل دا؟»، ولكنها لم ترد، وإذا بيد توضع على كتفها، ويقول صاحبها: «أقولك أنا دى صورة مين.. دى تبقى صورتى أنا».
الأمير.. والفلاحة.. والملك
كان فريد دائم التغزل بها بعد مشاهدة وصلة الرقص اليومية التى تؤديها، وبرفقته بنات العائلات الأرستقراطية، ولكنه لم يفصح يوماً لها عن أنه يكن لها أى مشاعر، ولكن الأمل ظل معها ولم يفارقها، حتى بعدما وصلت للنجومية وشعرت بأن الفلاحة لم تعد فلاحة، بل تساوت الرؤوس، قرأت ذات يوم مقالاً عنوانه: «الأمير فريد الأطرش لن يتزوج فلاحة».
مزجت سامية فى رقصاتها بين الرقص الشرقى والرقص الغربى، وكانت تحمل مواصفات النجمة العالمية، وشاركت بالرقص فى فيلمين عالميين هما: «وادى الملوك»، والفيلم الفرنسى «على بابا والأربعين حرامى»، كما اشتهرت بمشاركتها بالرقص فى الحفلات العامة التى يحضرها كبار رجال الدولة، ولأنها كانت تقدم عروضها بالأوبرج مكان السهرات الدائم للملك فاروق، أعجب بها وعشق رقصها بعد أن كانت راقصته المفضلة تحية كاريوكا .
فى كتابه «ليالى فاروق» يحكى الكاتب الصحفى مصطفى أمين أن الملك فاروق، قرر ضم سامية جمال إلى حاشيته كيداً وعنداً فى المطرب فريد الأطرش الذى كان يغار منه بشدة لما يحظى به فريد بعدد من المعجبات، وكان الملك معروفاً بحب التملك .
وساعد على ذلك أن سامية جمال قبلت لعب هذا الدور وأن تنضم إلى البلاط الملكى رداً على إهانة فريد الأطرش لها برفضه الزواج منها لأسباب طبقية، كونه أميراً ولا يليق به أن يتزوج بفلاحة مثلها.
وأضاف مصطفى أمين أن العلاقة بدأت بأن دعاها فاروق للرقص أمامه وحده فى القصر ووافقت سامية جمال، وذاع الخبر فى الصحف حتى أطلقت عليها الصحف لقب «راقصة القصر»، مما أثار غضب فريد الأطرش لتمر العلاقة بفترات قطيعة بينهما.
شخصيتها القوية
كانت سامية جمال تتمتع بشخصية قوية، وهو ما جعلها تتحمل الكثير من حب عمرها الدنجوان رشدى أباظة وعلاقاته النسائية، بل وكانت تحتوى الأمر وتتعامل معه بعقلانية، وعلى مدار فترة زواجهما التى امتدت على مدار 17 عاماً، تأرجحت العلاقة بينهما بين الاستمرار والانفصال، لكنهما انفصلا فجأة فى عام 1977، وترددت الأقاويل بأن زيجة رشدى أباظة من صباح كانت هى سبب هذا الانفصال.
كانت بداية قصة الحب بين سامية ورشدى فى فيلم «الرجل الثاني»، الذى تشاركا بطولته، وفى أحد مشاهد العمل، صرخت سامية جمال فى وجهه قائلةً: «بنتك ماتت»، فكان هذا المشهد بمثابة صفعة على وجه الدنجوان الذى كان يشعر دائماً بالذنب تجاه ابنته الوحيدة «قسمت»، بسبب غيابه المستمر عنها وتركها مع أم أمريكية غير مسؤولة وغير مهتمة بها.
بكى رشدى بعد تصوير المشهد بشكل هستيرى وتخيل الجميع أن ذلك البكاء من شدة إتقانه للدور، إلا أن سامية كانت الوحيدة التى تعلم حقيقة بكائه، فقالت له بعد المشهد: «أحزانك صنعت صدقك فى الأداء يا رشدي».
بعدها اقتربا من بعضهما وشعر كل منهما بأنه وجد راحته مع الآخر، فقررا الزواج بعد انفصال رشدى عن بربرا، زوجته الأمريكية، وبعد الكثير من الشائعات التى طالتهما، تركت سامية الفن وأصبحت ربة منزل ترعاه وترعى ابنته قسمت.
لكنها عادت جمال للفن مرة أخرى بفيلم كان البطل أمامها فيه هو رشدى أباظة، ولكن بعد رحيل صديق عمره المخرج عز الدين ذو الفقار أصبح رشدى عصبياً بشكل كبير، وزادت المشكلات بينهما، حتى طلبت الانفصال وتركت المنزل، وحاول رشدى الانتحار بسبب رفضها العودة إليه فعادت مرة أخرى.
ولكونه لم يقوَ على ترك الشرب والسهر، كما وعدها كى تعود إليه، تحجج برقصة أدتها سامية فى مهرجان القاهرة السينمائى، وقال إنه وافق على أن ترقص فقط فى مشاهد الأفلام وليس أمام الجمهور، وهنا حدث الانفصال النهائى.
وفى جنازة رشدى أباظة ولكون حبه لم يبرح قلبها، حضرت سامية جمال متخفيةً عن أعين الكاميرات لتودع حبيب العمر، وقالت: «كان نفسى تموت فى حضنى يا رشدى.. أنت اللى اخترت تموت بعيد عني».
فيما كشفت مشيرة أباظة، ابنة شقيق الراحل رشدى أباظة، بعض الأسرار لـ«الكواكب» عن حياة سامية جمال مع عمها، فقالت: «سامية جمال هى حب عمره الذى لم يستطع نسيانه طوال حياته، لم أقل لم يحب غيرها، ولكنها كانت الحب الحقيقى فى حياته، وبعد انفصالهما تمنى أن يعود إليها وحاول كثيراً، ولم تكن زيجته من صباح هى السبب لأنه انفصل عن سامية بعد قصة صباح بفترة، ولكنها التراكمات والمشكلات التى لم تكن تأخذ حقها فى العلاج ليتم غلقها بلا جراح».
وأضافت: ما لا يعرفه أحد وسأقوله لـ«الكواكب» أن عمى تمنى العودة إليها كثيراً، وهى التى رفضت أن تعود برغم كونه رشدى أباظة وحب عمرها، إلا أنها تألمت كثيراً ورفضت رفضاً تاماً العودة إليه مرة أخرى، وأيضاً ما لا يعرفه أحد أنه كى يستطيع نسيانها فى أيامه الأخيرة كتب كتابه على إحدى بنات العائلة الأباظية، ولكن القدر لم يمهله فرصة لإتمام الزواج ورحل.
عاشت سامية جمال حياةً مليئة بالفن والحب والعذاب، غيرت خلالها نظرة المجتمع للرقص وأبعدته عن إثارة الغرائز، وشكلت ثنائياً استعراضياً مع فريد الأطرش، وقدمت معه العديد من الاستعراضات الراقية والمبهرة، وتميزت بخفة ظلها.
قصة عودتها للرقص
ورغم اعتزالها الرقص لفترة طويلة، نجح سمير صبرى فى إقناع سامية جمال، بالعودة للعمل فى فرقته الاستعراضية، رغم بلوغها وقتها 60 عاماً، وعن كواليس عودتها قال سمير صبرى فى حوار سابق له قبل رحيله: «كانت سامية زوجة جميلة وطيبة وراقية، وكنت أزور رشدى أباظة خلال فترة زواجهما، وهنا بدأت صداقتى بها، وظلت 17 عاماً تقول أنا مدام رشدى أباظة، وبعد طلاقها منه ووفاته غرقت شقتها بسبب انفجار ماسورة مياه، وكانت حالتها المادية متعثرة، خاصة أنها كانت متكفلة بشقيقتها وأبناء شقيقتها الخمسة، وفكرت وقتها فى إعادتها للرقص مع فرقتى الاستعراضية».
وأضاف: اعترضت فى البداية على العودة للرقص، وقالت: «هيقولوا ست كبيرة وبترقص»، فقلت لها: «انتى زى الفراشة وممكن تلبسى توب وتطلعى ترقصى ربع ساعة لوحدك، وأنا أطلع أغنى وبعدين تغيرى، ثم أغنى مع فريد الأطرش وترقصي».
وتابع : حققنا نجاحاً كبيراً جداً وقتها، وكان الجمهور يأتى من كل أنحاء العالم، ومن مختلف الدول العربية، وسافرنا إلى إنجلترا وأمريكا وإيطاليا لتقديم العروض، وسددت سامية ديونها، وأصلحت شقتها ودفعت الضرائب المتأخرة، وبعد عام من تقديم العروض الناجحة قالت لى: كفاية يا سمير أنا رقصت علشان أسدد ما على من التزامات، وحاولت إقناعها بالاستمرار، ولكنها أصرت على الاعتزال، وتوفيت بعدها بعدة أشهر قليلة.
كانت سامية جمال تعانى من قيادة السيارات، وأوضحت فى حوارات سابقة أنها اعتادت أن تذهب إلى مدرسة الرقص يومياً مشياً على الأقدام بعد أن تترك سيارتها التى استعانت بسائق ليقودها فى مكان بعيد عن مبنى المدرسة، مشيرة إلى أنه تصادف أن كان فى نفس المبنى مدرسة لتعليم قيادة السيارات، ففكرت الفراشة أن تنتهز الفرصة لتتعلم القيادة لتقود سيارتها بنفسها بدلاً من الاستعانة بسائق.
وتابعت أنها تغلبت على خوفها ودخلت مدرسة القيادة كى تتفق على الحصص اللازمة لتتعلم فيها، ولكنها فى نفس اللحظة سمعت أصوات صراخ فى الشارع، ورأت الناس يتجمهرون حول مكان الصراخ، ليكتشفوا أن سيدة كانت تقود سيارة وصدمت سيارة أخرى وأصابت من فيها.
وأشارت الفراشة إلى أنها شعرت بأن هذا الحادث رسالة كى تعدل عن فكرة تعلم القيادة فتراجعت عن الفكرة.
الغريب أنها أكدت أنها فى كل مرة تنوى فيها التغلب على مخاوفها وتتعلم القيادة تصادف أن ترى حادث تصادم بطلته سيدة حتى عدلت عن الفكرة بشكل نهائى، وظلت تستعين بسائق ولا تجرؤ على الجلوس أمام عجلة القيادة.
نهاية حياة الفراشة
كانت سامية جمال دائمة الحرص على رشاقتها، مما جعلها تتجنب تناول الكثير من الطعام، وتكتفى بالخضروات والزبادى، الأمر الذى أسفر عن إصابتها بأنيميا شديدة، تسببت فى تعرضها لهبوط حاد فى نسبة الهيموجلوبين بالدم، ونصحها الأطباء بالابتعاد عن النظام الغذائى القاسى الذى تتبعه، ولكنها رفضت، إلى أن أصيبت بجلطة فى الوريد المغذى للأمعاء، تسببت فى إصابة جزء كبيرة منها بالغرغرينا، فخضعت لعملية جراحية لاستئصال الأمعاء، ولم تتحسن حالتها وبدأت تفقد الوعى تدريجياً حتى توفيت، فى الأول من ديسمبر عام 1994، عن عمر ناهز السبعين عاماً.