الجمعة 10 مايو 2024

بين الشهرة والمجد والألم والوجع حياة عبدالحليم.. من البداية إلى النهاية

عبد الحليم حافظ

7-1-2023 | 14:07

تفتحت عيناه على حكايات خالته التى تولت العناية به طفلاً بعد أن ماتت أمه فى ظروف عصيبة، وكانت عيناه تدمع كلما استمع إلى ذكرى أمه.. أمه التى لم يرها ولم يعرف حنانها، فقد ماتت بعد ولادته بأيام، وكانت الظاهرة التى لفتت أنظار نساء الأسرة أن الطفل الوليد كان يبكى بكاءً متواصلاً على غير عادة كل طفل حديث الولادة.

 بعد وفاة أمه بأسبوعين.. مات أبوه الذى لم يحتمل خبر وفاة زوجته التى كان يحمل لها حباً عظيماً.

 انتقل الأبناء الأربعة، إسماعيل شبانة الشقيق الأكبر.. ومحمد شبانه.. وعبدالحليم.. وأختهم الوحيدة علية، ليعيشوا فى بيت خالهم الموظف ببنك التسليف بالزقازيق، وكان عمر عبدالحليم فى ذلك الوقت ثلاثة أشهر.

وكان الطفل الوليد موضع عطف جميع أفراد الأسرة والجيران.. وكان أشد ما يثير اهتمامهم أن هذا الطفل يبكى بكاءً متواصلاً، لا يكف عن البكاء إلا عندما ينبعث صوت محمد عبدالوهاب من «الفوتوغراف»، حيث كان يسكت عندما يسمع هذا الصوت - وهكذا عرفت سيدات الأسرة كيف يسكت الطفل الوليد، فلا يكاد يبكى حتى تسرع إحداهن بوضع الأسطوانة على «الفوتوغراف» فيكف الطفل عبدالحليم عن البكاء لمجرد سماعه صوت عبدالوهاب يغنى.

 عندما بلغ الخامسة من عمره أرسله خاله إلى أحد «الكتاتيب» فى الزقازيق، ليتلقى مبادئ القراءة الأولية ويحفظ القرآن الكريم، وكان هذا هو المعتاد دائماً بالنسبة للتعليم فى هذه الأيام.. وفى «الكُتـَّاب» كان عبدالحليم منطوياً، منعزلاً، يشعر برهبة شديدة كلما رأى «العريف»، أى المدرس، يعاقب تلاميذه فى قسوة ويضربهم بلا رحمة أو شفقة، وقد استبد به الخوف فهرب ذات يوم من «الكُتـَّاب».. بل من البلدة كلها حتى لا يعيده خاله إلى «الكُتـَّاب» مرة أخرى!

 ولكن خاله استطاع أن يعيده إلى البيت ويستعين بمدرس خاص يعلمه القراءة والكتـابة وقواعد الحساب، ثم ألحقه فى سن السادسة بإحدى المدارس الابتدائية.. وخلال مرحلة الدراسة الابتدائية وقع له حادث كاد يفقد ساقه بسببه، فقد سقط عليه باب خشبى كبير لبيت مهجور، ونقل إلى المستشفى ليقضى أياماً عصيبة ووضعوا له ساقه المكسورة فى «الجبس» ونام أكثر من ستة أشهر فى المستشفى.

وفى أول يوم غادر فيه المستشفى سمع أن أحد أثرياء الزقازيق استقدم «مطرب الملوك والأمراء»، محمد عبدالوهاب، لإحياء حفل زفاف إحدى بناته.. وذهب عبدالحليم إلى قصر هذا الثرى ووقف بين الصبية خارج السرادق الكبير المقام فى حديقة البيت وحاول أن «يتسلل» إلى داخل السرادق، ولكن رجال البوليس الذين استعان بهم رجال الفرح منعوه من الدخول كما منعوا غيره من الأطفال والصبية.. لكن عبدالحليم بكى بشدة، فقد كان يريد أن يرى عبدالوهاب شخصياً بعد أن شغف بأغانيه وحفظ أكثرها عن ظهر قلب، واكتفى يومها بأن سمع صوت عبدالوهاب يأتى من داخل السرادق، وكان يبكى ويهتز طرباً وهو يصاحب عبدالوهاب فى الغناء بين الصبية الذين كان يقف وسطهم.

 خلال الدراسة الابتدائية أظهر عبدالحليم تفوقاً فى جميع المواد، فضلاً عن أنه جذب انتباه مدرس الموسيقى بالمدرسة واسمه «محمود حنفي» الذى أعجبه صوته فاختاره رئيساً لفرقة الأناشيد، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يعطيه دروساً خصوصية فى «ملجأ الأيتام» الذى كان محمود حنفى يدرس فيه الموسيقى أيضاً إلى جانب عمله كمدرس للموسيقى فى المدرسة الابتدائية.

حصل   عبدالحليم على الشهاد الابتدائية، وبدأ خاله يعد العدة لإلحاقه بإحدى المدارس الثانوية، لكن عبدالحليم أعلن أنه لن يواصل الدراسة، بل قرر أن يصبح موسيقياً مثل شقيقه الكبير إسماعيل شبانة الذى كان طالباً بمعهد الموسيقي، ووافق خاله، وسافر عبدالحليم مع شقيقه إسماعيل إلى القاهرة، حيث قدم أوراقه لمعهد الموسيقى، لكن المعهد أعاد إليه الأوراق لأنه دون السن القانونية للالتحاق بالمعهد.

وعكف عبدالحليم عن استكمال دراسته الأولية والتحق فى العام التالى بالدراسة بمعهد الموسيقي، ولما انتهت دراسته بالمعهد التحق بمعهد الموسيقى المسرحية، وتخصص فى دراسة آلة «الأبوا» فجمع بين دراسة الصوت من جانب، ودراسة الآلات الموسيقية من جانب آخر، وهذا النوع من التحصيل لم يتوافر لمطرب غيره.

 تخرج فى معهد الموسيقى المسرحية، ورشح لبعثة دراسية فى إيطاليا ولكن اسمه شطب فى آخر لحظة لسبب لم يعرفه وعين مدرساً للموسيقى فى مدرسة البنات بطنطا. وبقدر فرحته بالتحاقه بوظيفة ثابتة، بقدر ما استولى عليه الضيق لأن عمله هذا سيبعده عن القاهرة مركز النشاط الفنى.

 سافر عبدالحليم إلى طنطا، حيث مقر عمله، وصادف عبدالحليم صعوبات كثيرة فى ممارسة مهنة التدريس، خاصة فى مدرسة البنات، ولكن عبدالحليم استطاع أن يفرض شخصيته على الفتيات ويوجههن إلى دروس الموسيقى وكان ينتهى من دروسه فى الصباح ليعود إلى القاهرة فى وسط النهار.. حتى وفق فى أن ينتقل كمدرس فى إحدى المدارس بالقاهرة.

فى هذه الأيام تعرف بالملحن كمال الطويل - وكان يومئذٍ يدرس الغناء ليصبح مطرباً، وكانت كمال الطويل يتمتع بصوت جميل، وكان عبدالحليم يطرب جداً لسماعه، وكان الاثنان ينفردان فى إحدى قاعات معهد الموسيقى ويتبادلان الغناء منفردين.

 وتوطدت صداقته بكمال الطويل، وأصبح الاثنان لا يفترقان، وسافر كمال وعبدالحليم إلى الإسكندرية لقضاء جانب من فصل الصيف، وانطلقا يمرحان حتى نفدت نقودهما فى أقل من أسبوع وضاق كمال الطويل من هذه المفاجأة، وأوحت حالة «الفلس» والمفاجأة التى يعانيها الاثنان إلى كمال الطويل بتأليف الزجل التالي:

يا إسكندرية صبرك عليا

راحت فلوسى وضاعت الماهية

ووقعت فى ورطة قوية.. يا إسكندرية

راحت فلوسى فى جمعة

وفاضل تلات جمعات

راح أعمل إيه يا إخواتي

والناس بتقول هات

يا إسكندرية صبرك عليا

استطاع عبدالحليم أن يوفق إلى العمل كعازف «أبوا» فى فرقة موسيقى الإذاعة، وهيأ له عمله الجديد أن يدرس عن كثب طريقة كل مطرب وطريقة كل مطربة من المطربين الذين سجلوا أغانيهم مع فرقة الإذاعة الموسيقية.

وعندما اختير كمال الطويل مراقباً للموسيقى بالإذاعة اقترح على عبدالحليم أن يقدم طلباً إلى الإذاعة ليشتغل مطرباً، فضحك عبدالحليم وأعتقد أن كمال الطويل يسخر منه، لكن كمال أقنعه بأن اقتراحه جد لا هزل، فكتب عبدالحليم الطلب وتقدم للامتحان فى قسم الأصوات واجتاز الامتحان بنجاح ورشح ليغنى فى برنامج اسمه «مختارات الإذاعة».

 وتقدم عبدالحليم إلى لجنة النصوص بأغنية من تأليف الشاعر صلاح عبدالصبور اسمها «لقاء» ولما أُجيزت أعطاها لكمال الطويل ليلحنها واختار اسماً جديداً هو عبدالحليم حافظ.

وكان محمد حسن الشجاعى أحد أعلام الموسيقى العربية يعجب بمواهب عبدالحليم، وكان يشجعه على استكمال دراسته الموسيقية، كما كان يغنى لملحنين غير كمال الطويل هم عبدالرءوف عيسى وخليل المصرى وعبدالحليم على وأحمد صبرة وحسين جنيد.

 فى هذه الأيام التقى بالملحن محمد الموجى الذى كان يقدم للإذاعة ألحاناً من تلحينه، وكان عبدالحليم يعجب باتجاهات الموجى نحو الموسيقى الحديثة، وكذلك استغلال شخصيته الفنية، فهو لم يقلد أحداً من الملحنين القدامى، وبدأ التعاون بينهما فى أغنية «ظالم».

كان عبدالوهاب شديد الإعجاب بالمطرب الجديد عبدالحليم حافظ، وطلب من حافظ عبدالوهاب أن يقوم بمهمة التعارف بينهما وقد وصف عبدالحليم أول لقاء له مع عبدالوهاب شخصياً فقال:

كنت أشعر وأنا أضغط على يد عبدالوهاب بخفقان فى قلبى، حيث اللقاء الذى انتظرته من زمان، والآن أقف أمام مثلى الأعلى.

وغنى عبدالحليم أمام عبدالوهاب «على إيه بتلومنى» وغنى «جبل التوباد» والأغنيتان لعبدالوهاب كما هو معروف.

وتعاقد عبدالوهاب مع عبدالحليم على أن يقوم ببطولة فيلم من إنتاجه، وأن يسجل لحساب شركة «بيضافون» عشر أسطوانات، ولم ينفذ هذا العقد.. وانتهت مدته، بين عبدالوهاب وعبدالحليم، وجاء المخرج إبراهيم عمارة وعرض على عبدالحليم بطولة فيلم من إنتاجه وإخراجه هو «لحن الوفاء» أمام المطربة شادية، ووقع عبدالحليم العقد ولما بدأ العمل، ثار عبدالوهاب وغضب وهدد برفع الأمر للقضاء لكن عبدالحليم رد عليه بإنذار قضائى بانتهاء العقد، واتفق مع المخرج حلمى حليم على فيلمه الثانى «أيامنا الحلوة» أمام فاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد رمزى.

فى الليلة الأولى لعرض فيلم «لحن الوفاء» استقبلت الجماهير المطرب عبدالحليم حافظ استقبالاً رائعاً، وإذا به ينهار باكياً من شدة الفرحة، فقد عاد بذاكرته إلى يوم أن وقف يغنى فى الإسكندرية «ظالم» وهى من الاتجاه الجديد فى الموسيقى، ولكن الجمهور لم يعجب بهذا اللون، وغضب متعهد الحفلات المعلم صديق أحمد، الذى كان قد تعاقد مع عبدالحليم على الغناء، وقال له: «إيه يا أستاذ الكلام الفارغ ده؟، ده عامل زى أيها الراقدون تحت التراب، غنى حاجة جديدة لعبدالوهاب أحسن لك».. ويومها تأثر عبدالحليم من هذا الكلام وصاح فى صديق أحمد قائلاً: «أنا لا أغنى إلا ألحانى الخاصة».

فقال له صديق أحمد: «اسمع يا ابنى بالطريقة دى مش هتنفع معانا».

كان مولد شهرة عبدالحليم حافظ عندما أُقيمت الاحتفالات الكبيرة بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام ثورة يوليو 1952 فى أرض المعرض، فقد صادف عبدالحليم فى هذه الحفلات نجاحاً كبيراً جداً.

بعد نجاح فيلم «لحن الوفاء» انتشرت إشاعة قوية بأن عبدالحليم تزوج من شادية سراً، بالرغم من أن شادية كانت متزوجة من عماد حمدى وقتئذٍ. ونشر عبدالحليم تكذيبات كثيرة فى الصحف والمجلات، واضطرت شادية أن تقيم حفلاً كبيراً فى منزلها هى وعماد حمدى، وتلتقط لهما صور كثيرة لتكذيب إشاعة زواجها من عبدالحليم.. ثم تعرض بعد ذلك لإشاعة أخرى هى أنه تزوج من «إش إش» بنت عبدالوهاب؟ والطريف أن «إش إش» كانت وقتئذٍ لا تتجاوز الحادية عشرة من عمرها.

ومضى عبدالحليم حافظ فى طريقه ينتقل من مجد إلى مجد، حتى بلغ شهرة واسعة، ليس فى مصر فقط أو العالم العربى فحسب، بل فى جميع أنحاء العالم... وكان رغم هذه الشهرة الواسعة يعانى من قسوة المرض، الذى حال بينه وبين متعة الحياة، أو أن يستمتع بشبابه الذى ضاع فى علاج المرض.. حتى شاء القدر أن يرحل عن عالمنا بعد 25 عاماً قضاها بين المجد والشهرة، وبين آلام المرض وقسوته.