الجمعة 22 نوفمبر 2024

المواقف المأساوية فى حياة إسماعيل يس

إسماعيل يس

2-2-2023 | 12:10

خالد فؤاد

ولد بعض نجوم الزمن الجميل فى حياة رغدة وتمردوا عليها ليعملوا فى الفن، ومنهم يوسف وهبى وبهيجة حافظ وزكى رستم، لكن على الجانب الآخر كانت هناك حياة بائسة يملؤها الفقر والقهر عاشها بعض النجوم الآخرين فى طفولتهم وصباهم وامتدت حتى الشباب، ومنهم تحية كاريوكا وسامية جمال وزينات صدقى وإسماعيل يس.. وشخصيات هؤلاء المعذبون تدعو للدهشة من مقدرتهم العجيبة على تخطى الصعاب، فلو استسلم كل منهم للواقع الأليم الذى عاشه كان الفن سيخسر الكثير، فقد تمكنوا جميعًا من الوصول إلى قمة المجد الفنى وتربعوا عليه وأصبحوا فى سجل الخالدين.

دعونا اليوم نلقى الضوء على المآسى التى واجهت إسماعيل يس نجم الكوميديا فى الوطن العربى الذى استطاع أن يترجم دموعه وآلامه إلى كلمات وإيماءات تسعد القلوب وتنتزع الضحكات من الجمهور.
طفولة بائسة
فى مقدمة قصة حياته التى رواها إسماعيل يس بصوته فى الإذاعة، أكد أنه ولد لأب مستهتر، يملأ حياته بالسهر فى البارات، وشغلته حياة اللهو عن زوجته وابنه الوحيد إسماعيل، فقد كانت حياة والدة الطفل إسماعيل مشتتة بسبب عدم اهتمام زوجها ببيته وابنهما، وحاولت مرارًا إصلاح حاله لكن حياة الملذات أسكرته، حتى جاءت اللحظة الأصعب فى حياة إسماعيل الطفل، فقد سقطت والدته لتلفظ أنفاسها الأخيرة بعد مناقشة حادة مع الوالد، كانت تدعوه خلالها للبعد عن حياة السكر والسهر، لكنه نهرها ودفعها بيده ليبعدها عن طريقه لتسقط على الأرض، فعاد الرجل ليطمئن عليها  ليجدها تصارع الموت وتكون آخر كلماتها إسماعيل.. إسماعيل.
تؤكد تلك البداية حياة القهر التى عاشها إسماعيل فى طفولته، فبعد فقدان الأم زادت المآسى فى حياته، ودعونا نؤكد أن والد إسماعيل كان ثريًا، فقد كان يملك محلاً لتصنيع وبيع المشغولات الذهبية ورثه عن والده، الذى كافح ليصبح من الأثرياء ويعلم ولده ياسين صنعته، وبالفعل ورث ياسين ما تركه والده وكان ماهراً فى تصنيع وبيع الذهب والفضة، لكن كان هناك سببان لإفلاس الرجل، أولهما التبذير على حياة السهر والمراقص والأمر الثانى كان حالة الركود التى خلفتها الحرب العالمية الأولى مما دعا ياسين لإهمال محله وتقليل العمالة فيه ليصل إلى مرحلة الإفلاس.
يتم مبكر
رحلت الأم وتركت إسماعيل فى رعاية الأب الحزين الذى بدأ العمل عند أحد أصحابه، وبدأ يترك إسماعيل يلهو مع الصغار فى الشارع طوال اليوم، حتى يقبل الليل فيعود الطفل إلى البيت المظلم وينزوى به حتى تطرق الباب إحدى الجيران لتضئ له لمبة الجاز وتطعمه أو تأخذه يجلس مع أولادها حتى يعود الأب، وكان الوالد يشعر بنظرات إسماعيل وهو يعيش اليتم والقهر، فكان أحيانًا يأخذه معه فى عمله ويعود به آخر اليوم.. وبدأ الرجل فى استرداد مكانته فى صنعته فاشترى مشغولات ذهبية بالأجل وابتسمت له الحياة وعادت النقود إلى يديه لتغريه بأن يفكر فى الزواج .
عذاب زوجة الأب والجدة
شعر إسماعيل باليتم فعلاً بعدما تزوج والده من امرأة متسلطة رفضت أن يستكمل إسماعيل تعليمه، وكانت تعامله بطريقة سيئة حيث يقضى لها حاجيات البيت، وفى آخر الليل يسمعها تشكو منه لوالده، حتى قرر الوالد أن يرسله إلى جدته لأمه ليعيش معها، وكانت الجدة تشعر بأن ياسين كان سبب موت ابنتها فقررت الانتقام منه فى شخص إسماعيل ابنه، وكان إسماعيل يأمل أن يجد الحنان والرعاية من جدته، لكنه وجد إهمالاً شديداً وقسوة فى المعاملة، وتعددت المواقف القاسية فى حياته عند جدته، وكان ينتهز أى فرصة تغيب فيها عن البيت ليخرج إلى الشارع ويجلس بجوار المقهى القريب ليستمع إلى الفونوغراف الذى يخرج أصواتاً أبهرت إسماعيل الطفل ذا الثمانية أعوام، فقد سحره صوت المطربين عبد اللطيف البنا وزكى مراد وسيد درويش وصالح عبد الحى والمطرب الجديد محمد عبد الوهاب، ومع ازدياد الفرص له فى الاستماع حفظ إسماعيل كل تلك الأدوار الطربية وبدأ يغنيها لأقرانه الصغار الذين استحسنوا صوته ووصفوه بـ«الصييت»، ولم يكتفِ إسماعيل بذلك البصيص الذى أنار جزءًا من حياته وهو الغناء والطرب، بل سعى الطفل إلى حلقات الذكر وتلاوة القرآن ليسعد بأصوات المنشدين والقراء ليحفظ إسماعيل كل ذلك ويعيده كل يوم على مسامع الأطفال ويسعد بإلحاحهم فى إعادة الغناء حتى تخيل إسماعيل نفسه مطربًا، وتمنى أن يسير على هذا النهج ليصبح أحد كبار المطربين، لكن أمنياته انهارت مع رفض الجدة للغناء وقررت عدم استكماله الدراسة وطلبت منه أن يبحث عن عمل، فعمل منادياً لمحلات بيع الأقمشة ليحفز المارة على الشراء.
من الجحيم إلى الجحيم
قرر إسماعيل أن يهجر بيت جدته القاسية وكان على أعتاب الشباب، ليلتقى مع والده بالصدفة فى أحد الأفراح ويعود ليعيش معه، لكنه وجد مفاجأة أشد قسوة من معاملة الجدة، فقد وجد والده يقوم بتقليد وتزييف بعض القطع المعدنية من النقود، وبلهجة آمرة كان يطلب من ابنه إسماعيل ترويج تلك النقود واستبدالها بنقود حقيقية، وذلك من خلال التجول فى كل الأحياء وشراء شىء بسيط من أحد التجار ليحصل منه على الباقى بعد أن يعطيه القطعة المزيفة.. فتأكد لإسماعيل بعد مجاراة والده وتوزيع بعض العملات أن ذلك الطريق نهايته السجن.. وبدأ فى التفكير للخروج من ذلك المأزق بأن يستمع لنصيحة أصدقائه بأن يترك السويس كلها ويذهب إلى القاهرة ليدرس الموسيقى ويحقق حلمه كى يصبح مطربًا، ففكر فى مواجهة والده بالأمر لكنه شعر بأن والده لن يوافق على ذلك، فاتخذ إسماعيل قراره بالسفر إلى القاهرة، وكان يلزمه عدة جنيهات للسفر ولتعينه أيامًا فى القاهرة حتى يجد عملاً، فذهب إلى جدته ولم يجدها بالبيت وظل ينتظرها طويلاً لتأتى ويطلب منها الجنيهات كقرض أو سلف، لكن مع تأخرها فتح إسماعيل مرتبة السرير، وهو المكان الذى كانت تخفى فيه أموالها، وأخذ منه فقط ستة جنيهات ليبدأ بها حياته فى القاهرة.
 عذابات القاهرة
مع قدوم إسماعيل إلى القاهرة فوجئ بأن معهد الموسيقى فى إجازته لمدة أربعة أشهر، فقرر الانتظار وبدأ المبيت فى إحدى اللوكاندات الرخيصة والقريبة من المعهد حتى أنفق الستة جنيهات وذهب إلى أقارب له فى القاهرة لكن زوج ابنة خاله نهره وطرده عندما علم أنه سيلتحق بمعهد الموسيقى، ولم يجد إسماعيل مأوى غير جامع السيدة زينب ليبيت فيه كل ليلة بعد أن يؤدى صلاة العشاء ويذهب لينزوى فى أحد الأركان بعيدًا عن أعين خادم الجامع، أما طعامه فقد كان يقتسمه مع «مجاذيب السيدة» الذين يجلسون أمام الجامع لتلقى بعض الطعام أو النذور، وما لبث أن طرد خادم الجامع إسماعيل بعد أن اكتشف أنه ينام يومياً فيه، فقرر أن يتجول بالنهار ليبحث عن لقيمات تسد جوعه ثم ينام فى أى مدخل من مداخل عمارات منطقة لاظوغلى، ومع تجوله فى منطقة السيدة زينب ذهب إلى جامع فى شارع مارسينا ليبيت فيه، ومع أذان الفجر اكتشفه خادم الجامع أيضًا وطلب منه المغادرة، ومع وجود بعض القادمين للصلاة أشار أحدهم بأن إسماعيل سارق لأحد أطقم الشاى، ونفى إسماعيل عنه التهمة مع بكائه المنهمر فلان قلب شيخ المسجد واستمعوا إلى قصة معاناة إسماعيل، فأعطاه الرجل جنيهًا وطلب منه العودة إلى السويس.
نافذة السعادة
عاد إسماعيل إلى السويس وحكى لأصدقائه ما لاقاه من عذاب فى القاهرة، وقرر أن يعمل مغنياً فى أفراح السويس، وبعد أن غنى وأسعد الجميع فى بيت أحد أثرياء بلدته حتى تقدم منه شاب وسيم وحياه على إجادته للغناء ووجد فيه شيئاً جديدًا طريفاً، وأعطاه الشاب عنوانه ليزور عائلته فى القاهرة، وكان من عائلة قدرى باشاً المهتمين بالطرب والغناء، وبعد أن جمع له الأصدقاء مبلغًا من المال عاد إسماعيل إلى القاهرة ليبدأ فى صحبة الثرى فى كل مكان يذهب إليه، سواء فى المسارح أو الملاهى والحفلات الخاصة، ومن هنا تعرف إسماعيل على كبار فنانى المونولوج ومنهم سيد سليمان وحسين المليجى، وكان عليه أن يحفظ منولوجاتهم ليؤديها عند عائلة قدرى باشا التى احتضنته، لكن إسماعيل قرر بعد فترة أن يترك الأسرة الثرية ليعمل عند أحد المحامين، ثم بدأ غناء المنولوجات فى الإذاعات الأهلية، ومع افتتاح الإذاعة المصرية تقدم ونجح فى الالتحاق بها كمنولوجست، ثم التحق بالعمل فى فرقة يوسف عز الدين ومنها إلى عدة فرق إلى أن وصل إلى فرقة بديعة مصابنى ليعمل بها ويصبح صديقًا لأستاذه سيد سليمان .
رحلة المجد
من صالة بديعة بدأ إسماعيل يس شهرته وإجادته لفن المنولوج، وأدخل عليه لوناً جديدًا وهو فاصل النكت بين كل منولوج وآخر، لكن ذكاء إسماعيل حذره من نهايات فنانى المنولوج، فدائماً ما تتوارى عنهم الأضواء مع الكبر ويصبحون فى طى النسيان، فكان عليه فى تلك الفترة أن يثبت نفسه فى عالم الفن، ومع براعته بدأت الفرق الفنية تتخاطفه ومنها فرقة أمين عطا الله وفرقة تحية محمود وعلى الكسار، حتى بدأ رحلته فى عالم السينما ليخرج من دائرة فنان المنولوج ليبدأ فى عالم التمثيل، وبعد الكثير من الأدوار الثانية ودور صديق البطل حتى أصبح أسماعيل بطلاً للعديد من الأفلام وأصبح نجم شباك يتخاطفه المنتجون والمخرجون لترويج ونجاح أفلامهم..
ويعد إسماعيل يس من النجوم القلائل الذين سميت الأفلام بأسمائهم، وربما كان هو كذلك والفنانة ليلى مراد فقط، حتى أن أسلوبه ونجاحه شجع الرئيس جمال عبد الناصر على طلب مجموعة أفلام يقوم إسماعيل ببطولتها تظهر أهمية الجيش وتنمى الانتماء عند الشباب للالتحاق بالجيش وأسلحته المختلفة، فكانت أفلام إسماعيل يس فى الجيش والأسطول والطيران والبوليس، وبذلك أظهر إسماعيل فى قمة مجده مدى حبه ودعمه للوطن، ولم يكتفِ بذلك هو ورفيق عمره وصانع أسطورته الكاتب أبو السعود الإبيارى، بل قدما معًا مساعدة مادية لتسليح الجيش بلغت 2000 جنيه عام 1956.
مأساة النهاية
كون إسماعيل يس فرقة مسرحية ضم إليها كبار نجوم الفن ليعملوا معه بجانب تألقه السينمائى، وكان تزوج وأنجب ابنه الوحيد ياسين الذى أغدق عليه والده بكل وسائل الترفيه والتسلية ليمنح إسماعيل يس ابنه كل ما حرم منه فى طفولته، بل تمنى أن يعيش طفولة ابنه الرغدة، فقد كان طفلًا مدللًا يعيش فى حنان أبوين ويلقى منهما رعاية وحنانًا حرم الأب منه.
وفى منتصف الستينيات بدأت المشاكل تواجه إسماعيل يس، حيث أوشكت فرقته على الإفلاس وبدأ المنتجون والمخرجون يعزفون عنه فى تصرف غريب، فى حين كان الرجل فى قمة التألق والنشاط، ورغم سنه إلا أن إبداعه لم ينضب، ففى عام 1965 قام بالبطولة لآخر مرة فى فيلم ملون وهو «العقل والمال»، ليجد بعد ذلك أكبر مشكلة تواجهه وهى مطالبة الضرائب له بقيمة الرسوم عن كل أفلامه السابقة، وعندما هم بتسديد ما عليه وجد مغالاة وزيادة غير طبيعية فى عدد الأفلام، فقد كانت هناك عدة أفلام تحمل اسماً معيناً عند البدء فى تصويرها، ثم يقرر المخرج أو المنتج تغيير الاسم قبل العرض فى السينما، بل وأيضًا بعد طبع الأفيش للفيلم، ومنها فيلم «إسماعيل يس فى الجيش» فقد كان اسمه «إسماعيل يس دُفعة» و«إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة» كان فى الأصل «إسماعيل يس فى بيت ريا وسكينة» وفيلم «محدش واخد منها حاجة» ليصبح «السعد وعد» وغيرها من الأفلام التى احتسبتها الضرائب مرتين، وذلك حسب ما أعلنه إسماعيل يس فى تسجيل إذاعى له.
ومع عزوف السينما عنه وتسديده الضرائب المطلوبة منه بدأ إسماعيل فى البحث عن عمل بعد أعلن أنه عاطل عن العمل فى العديد من الأحاديث الصحفية لمجلة «الكواكب»، وتساءل الرجل: من حكم عليَّ بالإعدام الفنى؟ وفى تحقيق صحفى أيضًا لـ«الكواكب» أجراه الكاتب الصحفى حسين عثمان، أكد إسماعيل يس أنه سيفتح محلاً للكشرى بدلًا من دق الأبواب لطلب العمل.
تشويه تاريخ الرجل
كانت المشاركات الأخيرة لإسماعيل يس فى السينما مثل البداية تمامًا، فقد ظهر فى عدة أدوار ثانوية فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وهى إنتاج لبنانى منها «فرسان الغرام» و«عصابة النساء» و«طريق الخطايا»، وفى نفس الوقت كان قد أغلق مسرحه وتلاشت فرقته ليعود للعمل كمنولوجست فى مسرح صديقه محمود شكوكو، وبعض الملاهى الليلية الأخرى، لتكون النهاية حزينة ومأساوية، لتشبه بدايته الفنية تمامًا.. ورغم أن ما فعله إسماعيل يس يعد إعجازاً بشريًا، وأصبح أكبر وأشهر نجوم الكوميديا فى مصر والوطن العربى، بل وفاق أيضًا أساتذته نجاحًا وشهرة، فقد ظهر تقرير مسموم فى إحدى القنوات غير المصرية ليصف الرجل بأنه كان مقامرًا وأنه أضاع نقوده وأفلس بسبب القمار، لذا دأبنا فى «الكواكب» وكل إصداراتنا على إنصاف الرجل والتأكيد على تاريخه الفنى البديع ودوره الكبير فى إثراء السينما والمسرح بأدوار أصبحت من علامات السينما والفن المصرى.