الأحد 28 ابريل 2024

نور الشريف .. و175 فيلما ترصد تاريخ المجتمع المصري

9-12-2023 | 14:04

المتحدث عن نور الشريف كنجم سينمائي وتليفزيوني ومسرحي من طراز فريد لا يحتاج الى وقت ميلاد او وفاة للحديث عن نجم بقامته وثراؤه الفني والشخصي ، فنان له تجربته العريضة التي اشاد بها النقاد والجماهير على حد سواء ، وبرغم موهبته القوية منذ البداية إلا انه استطاع ان يصقلها بالدراسة المتخصصة في المعهد العالي للفنون المسرحية والذي تخرج منه سنة 1967 بتقدير امتياز، وكان ترتيبه الأوَّل على دفعته.. فنان مثقف جدا ملم بكل مناحي الحياة وخاصة السياسيةمنها ، فنان ترك ارثا فنيا كبيرا وترك بصمة مهمة في تاريخ السينما المصرية .. إلا إن أي مراجعة فنية لسينما نور الشريف، وأي مرور على ملامح البطل الذي قدمه في أفلامه التي تقارب 175 فيلما، إنما هي أيضا مراجعة للتاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع المصري خلال أكثر من أربعة عقود حين بدا أولى خطواته السينمائية في العام 1967، وهي في جزء كبير منها مراجعة أيضا للتاريخ السياسي والاجتماعي للحياة بشكل عام. ففي فيلم "السراب" لعب نور الشريف أول بطولة مطلقة حيث جسد شخصية كامل، البطل الشاب الذي دللته أمه كثيرا، وحولته من شدة حبها وتدليلها له إلى إنسان بلا إرادة، غير قادر على التصرف. وفي "زوجتي والكلب" أدى نور الشريف دورا يحسب له، وتميز أداؤه بالصدق والبساطة والإقناع. فحركته وطريقة أدائه للحوار والتعبيرات الصامتة كانت انعكاسا صادقا لشخصية الفتى المراهق الذي يعاني الوحدة والكبت. وكان عام 1975 واحدا من أغزر أعوام نور الشريف على الإطلاق، فقد قام ببطولة 12 فيلما من أهمها فيلم "الكرنك" من إخراج علي بدرخان وبطولة سعاد حسني وكمال الشناوي وفريد شوقي، والفيلم يمثل انتقادا . وفي عام 1979 قدم فيلم "مع سبق الإصرار"، وجسدت فيه شخصية مدرس اكتشف خيانة صديق له تخلى عن إنسانيته. واستطاع أن يعبر عن المعاناة الداخلية للمدرس بشكل لافت، فالدور مركب وعامر بالأحاسيس، وأداه نور بشكل سلس وأعطاه قلبه ونبضه وأعصابه. ويعتبر فيلم "حبيبي دائما" إنتاج عام 1980 واحدا من أهم الأفلام الرومانسية في السينما العربية، وعلى رغم نسجه على منوال الفيلم الأميركي "قصة حب" أنجز الفيلم بصياغة مصرية، قد نراها فيمن حولنا من محبين ونسمعها عمن حولنا من قصص وحكايات. أنها تنويعة مختلفة من الشخصيات التي حرص نور الشريف خلال مسيرته السينمائية على تجسيدها. وفي العام ذاته قدم نور الشريف فيلم "ضربة شمس" وغامر بتقديم محمد خان كمخرج جديد سيكون له شأن بعد ذلك. غامر نور بماله الخاص في سوق لا يحتمل المغامرات، وكانت بداية دور سيلعبه فيما بعد كمنتج واع وممثل نظيف يحمل بعض القيم والمثاليات، وبعض الطموحات الفنية التي لم يعد احد يجرؤ عليها. خاض نور الشريف مجال الإنتاج ليعمل ما يحبه ويرتضيه ويتمناه، وليكون قادرا على الاختيار. اختيار ملامح البطل الذي سوف يكون بعيدا عن قوالب المنتجين واختيارات السوق التي لا تعبر في أغلب الأحوال عن واقع الحياة. وفي عام 1981 قدم نور الشريف فيلم "أهل القمة" عن قصة الكاتب نجيب محفوظ وسيناريو مصطفى محرم. و"أهل القمة" هنا هم الذين استفادوا من قوانين الانفتاح الاقتصادي. ويمكن اعتبار "أهل القمة" وثيقة مهمة . وفي عام 1983 عرض فيلم "سواق الأتوبيس" قصة محمد خان وسيناريو بشير الديك وإخراج عاطف الطيب. ويقدم الفيلم محاولة الابن حسن سلطان "نور الشريف" إنقاذ ورشة الأخشاب التي يملكها والده "عماد حمدي"، وتمثل له حياة الأب وكفاحه وإصراره. ولكن لتراكم الديون تعرض الورشة للبيع في المزاد. وفيلم "سواق الأتوبيس" يتسم برحابة الرؤية ودقة تحليل الواقع، يتابع عاطف الطيب رحلة الوعي عند بطله، ويرصد الفيلم مراحل التغير والتحول من المراقبة والتأمل حتى لحظة المواجهة والكشف عن التغيرات التي حدثت في بنية المجتمع المصري في السبعينات وما صاحبها من تغيرات. وفي عام 1984 قدم نور الشريف فيلم "آخر الرجال المحترمين" عن الأستاذ فرجاني المدرس الذي يعتبر أطفال المدرسة مسؤوليته الخاصة على كل المستويات الشخصية والعامة. وهو مرب فاضل مهمته بناء عقل الإنسان ووجدانه بكل الصدق والحب، ولا يستطيع تصور وجود عوامل أخرى تهدم ذلك البناء. وفي "الصعاليك" عام 1985 ومن خلال متابعة اثنين من الصعاليك إلى القمة حاول الفيلم من خلال أبطاله الصعاليك أن يقدم تحليلا لأساليب الصعود غير المشروع لدى البعض بوعي فني واجتماعي واقتصادي وسياسي. لقد حاول المخرج داود عبد السيد البحث عن المنطق النفسي والاجتماعي في تصرفات شخصياته، كما استطاع الكشف عن ما يعتمل في داخلها من الحب والندم والخيانة والجشع، كل ذلك من خلال عرض واقعي صادق للحياة. وفي فيلم "الزمار" عام 1985 قدم لنا نور الشريف جانبا من حياة الزمار حسن، الشاب المطارد والمتنقل من قرية إلى قرية من قرى الصعيد بحثا عن الأمان والاستقرار. وفي زمن "حاتم زهران" 1988جسد شخصية الشاب الانتهازي الذي يسافر إلى أمريكا. وهو على النقيض من أخيه يحيى الشهم الوطني الذي يستشهد في حرب 73، في الفيلم . وعن رواية للكاتب نجيب محفوظ قدم نور الشريف عام 1990 فيلم "قلب الليل"، وفيه معالجة لقضية فلسفية مهمة أتعبت الفكر الإنساني كثيرا، هي قضية الاختيار مرورا بالأشواق التي تعتمل في روح الشخصيات فتنطلق لتحطم النواهي والممنوعات. وفي "البحث عن سيد مرزوق" عام 1991 خاض نور الشريف تجربة مختلفة وفريدة عندما تجاوز داود عبد السيد مؤلف ومخرج الفيلم حدود الواقعية الصارمة وقرر أن يقفز فوق التفاصيل والعلاقات المرتبطة بالواقع ليخلق عالما مختلفا يرتكز على معطيات الواقع، لكنه يقوم على منطق خاص يمزج بين الحلم والواقع من دون تحديد لما بينهما من حدود ، وفي عام 1992 جسد نور في فيلم "دماء عل الاسفلت" شخصية الدكتور ثناء الذي يعمل في إحدى المنظمات الدولية، وعندما يعود بعد غياب يفاجأ بأن الانحلال أصاب أسرته. وفي عام 1996 قدم "ليلة ساخنة"، ومع عاطف الطيب قام باستخراج أحشاء القاهرة في ليلة رأس السنة، وأشار البطل إلى تنامي التعصب والتشدد وغياب الوعي في الملذات الصغيرة. كان "ليلة ساخنة" تنويعة جديدة على "سواق الأتوبيس"، لكن من خلال سائق تاكسي هذه المرة يستكشف ويكشف عن قاهرة التسعينات . وفي "المصير" الذي عرض عام 1997 برع نور الشريف في تجسيد شخصية ابن رشد، وصرخ في احد المشاهد بإحساس المثقف المهموم بإيصال فكره وعمله للناس. وتوالت أعمال نور الشريف ممثلا ومنتجا أحيانا كما في فيلم " العاشقان " الذي أعاد فيه الرومانسية لزوج وزوجة في خريف العمر ونجح الفيلم فنيا إلا انه لم يحقق العائد المرجو للشريف كمنتج فأعلن الشريف انسحابه من السينما كمنتج واقترب إليها في حذر من خلال أعمال كبيرة مثل "عمارة يعقوبيان " و"ليلة البيبي دول" ليقدم أدوارا غير تقليدية كللت بالنجاح الفني مع مجموعة نجوم " يعقوبيان"إلا إن" ليلة البيبي دول" لم ينجح جماهيريا وانتقد الفيلم على اعتبار انه يفتقد الخلطة السرية في الحبكة الدرامية رغم انه كان لشيخ كتاب السيناريو الراحل عبد الحي أديب، ولم يشفع له إنتاجه الضخم وتعرض الشريف ذاته لانتقاد لاذع في بعض المشاهد كما لم يحقق فيلمه " دم الغزال " النجاح الجماهيري برغم انه كان فيلما على مستو عال من التكنيك الدرامي والإخراجي، وكان للشريف أعمالا مهمة وشهيرة مثل " الحفيد " و " الدموع الساخنة " و ألحقونا " و " العار " و " الوحل " وعشرات الأفلام الأخرى من الصعب سردها أو الحديث عنها في هذه المساحة برغم أهميتها . وفي النهاية فان نور الشريف مشروع البطل السينمائي الذي أتقن لعبة السينما باقتدار عبر عشرات الأفلام الكبيرة التي نال عنها تكريمات كثيرة وبسببها شارك كعضو أو رئيس للجان التحكيم المختلفة للكثير من المهرجانات السينمائية المصرية والعربية فانه كان ظاهرة سينمائية تستحق الدراسة والاهتمام لكونه فنان له بصمة وله تاريخ ، قّدم سينما جريئة في مضمونها وشكلها الخارجي . ولا احد يستطيع أن يغفل أعماله الدرامية في التليفزيون ، فما بين احمد بن شبيب في مسلسل "مارد الجبل " والرحايا " أكثر من 20 عاما بين دورين لبس فيهما الشريف عباءة الرجل الصعيدي في الأول كان مطاردا وفي الثاني صاحب عزوة وعائلة كبيرة هو كبيرها ، ونجح الشريف نجاحا مذهلا في العملين ، و بينهما كانت له بصمات واضحة في الدراما التليفزيونية كان أبرزها جملة أعماله التاريخية والدينية مثل "عمرو ابن العاص" و"هارون الرشيد" و "عمر ابن عبد العزيز" وأيضا المسلسلات الاجتماعية التي تألق فيها كثيرا مثل " لن أعيش في جلباب أبي " و " حضرة المحترم أبي " والأعمال ذات المسحة الكوميدية مثل "العطار والسبع بنات "و"الحاج متولي" و"عيش أيامك" و الأعمال التي لمس فيها على ارض الواقع السياسي بطريقة غير مباشرة في "الدالي" و "ماتخافوش " . نور الشريف الفنان الشامل الذي قدم للمسرح أعمالا ذات أهمية كبيرة مثل "كاليجولا" و "المليم بأربعة" وغيرها لم يكن يوما فنانا سطحيا باهتا بل فنانا رصينا يملك ناصية الإبداع كمثقف كبير مثل قاريء نهم في مختلف المجالات وليس الفن فقط ، خاض تجارب الإخراج والإنتاج وأضاف الكثير من فكره على أدواره التي قدمها ، وساهم في خلق جيل سينمائي معروف اشتهر عنه بسينما الواقعية حين قدم وعمل مع محمد خان وداود عبد السيد وعاطف الطيب ومحمد النجار من بعد.. فنان صاحب مشروع فني متكامل لأنه دارس وخريج للمعهد العالي للفنون المسرحية ، وفنان بقامته ومثله يجب أن نفخر به ونعتز به ونكرمه في كل تظاهراتنا الفنية والثقافية. ومحمد جابر محمد عبد الله المعروف باسم نور الشريف (28 أبريل 1946 – 11 أغسطس 2015)، هو ممثل، ومنتج، ومخرج مصري يعتبر واحدا من أبرز الممثلين في تاريخ السينما المصرية الحديثة، وأهم من جسد الشخصية المصرية بِكُل أشكالها الاجتماعيَّة على شاشة السينما. قدَّم خلال مشواره الفني الطويل العديد من الأعمال الهامة في تاريخ السينما، والتلفزيون، والمسرح، وحصل على العديد من الجوائز حتَّى لقِّب بـ"صائد الجوائز". كما لهُ سبعة أفلام في قائمة أفضل مئة فيلم مصري حسب استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي في الذكرىالمئوية لميلاد السينما المصرية ،وشارك في الاستفتاء العديد من النُقاد المصريين سنة 1996. وولد نور الشريف في حي السيِدة زينب بِمدينة القاهرة، ورحل والده بعد مولده بأقل من سنة واحدة، وتزوج الشريف من الفنانة بوسي سنة 1972، وانفصلا سنة 2006، ثم عادا مرة أخرى سنة 2015 أثناء مرضه، وله ابنتان هما سارة، ومي.و توفي نور الشريف في يوم الثلاثاء الموافق 11 أغسطس 2015، بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 69 سنة.