الجمعة 24 يناير 2025

ذكرى ميلاد الضاحك الباكي.. عبقرى الكوميديا نجيب الريحانى

نجيب الريحاني

24-1-2025 | 13:29

نانيس جنيدي
حلت منذ أيام ذكرى ميلاد عبقرى الكوميديا، نجيب الريحانى، الذى وُلد فى 21 يناير من عام 1889 وحفر اسمه وإبداعاته بحروف من نور، من خلال الشخصيات التى قدمها على مدار مشواره، ولعل أبرزها شخصية «كشكش بيه» التى ابتكرها واعتبرها السبب الرئيسى فى نجاحه، وقد تمكن من التعبير عن المواطن العادى واهتماماته وقضاياه الاجتماعية بشكل كوميدى ساخر. يقول نجيب الريحانى فى مذكراته، التى نقلتها صحافة زمان: «فى مايو 1916، ما زلت أذكر هذا التاريخ تماماً.. هجرت فرقة الكوميدى العربى دون أن أفكر فى العمل الذى أعيش منه، وظللت شهراً أقدح زناد الفكر وأعرض على بساط البحث، اقتراحات كثيرة بمشروعات أعمال واسعة النطاق، النجاح فيها مضمون 24 قيراط، ولكن أخ يا خسارة مفيش فلوس». وتابع: «فى الساعة الواحدة ظهر أول يونيو عام 1916 كنت جالساً فى بوفيه، مفلس كالعادة.. وإذا بى أرى شخصاً يهبط عليّ فى سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض، وخاتم يلعب شعاعه بالنواظر.. فلما جلس بجانبى أخرج من جيبه علبة سجائر فاخرة من الفضة وفى حركة أرستقراطية فخمة.. ناولنى سيجارة!! أتدرى يا عزيزى القارئ من هو هذا الوارث العظيم الذى وصفته.. إنه إستيفان روستى صديق العناء والشقاء، إستيفان اللى كان زى حالاتى يشتهى سيجارة!. سألته: إيه يا ولد النعمة اللى ظهرت دى ومنين العز ده كله!، تكونش سطيت على خزنة.. ولا قتلت واحد!، وبكل برود هز إستيفان رأسه وقال: (لا هذا ولا ذاك.. المهم إن ربنا فرجها علينا والسلام).. وبعد مناقشات لاستطلاع سر هذا الثراء المفاجئ ذكر لى إستيفان أن هناك ملهى يطلقون عليه إسم (أبيه دى روز) وأنه وجد هناك عملاً يتقاضى عليه 60 قرشاً فى كل مساء». وأخيراً مددت يدى إلى إستيفان وقلت: مفيش عندكم شغلة لواحد زيي؟ ويكمل الريحانى فى مذكراته: فى المساء تلاقينا أمام بيت «أبيه دى روز»، فقادنى إلى صاحب التياترو، وكان اسمه الخواجة روزاتى وكان إسكتش خيال الظل المزمع إخراجه فى تلك الليلة يحتاج إلى ممثل، واتفق معى على أن أجرى سيكون 40 قرشاً يومياً، وأشفقت على نفسى خوفاً من أن يكون هذا الرقم هو الراتب الشهرى وليس اليومى، وحين زالت معالم الدهشة من نفسى، هنأنى إستيفان وقادنى إلى مديرة المسرح. حكاية كشكش بيه وفى إحدى الليالى ولست أدرى كنت نائماً أم مستيقظاً.. وإنما الذى أؤكده أننى رأيت خيالاً كالشيخ يرتدى الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت فى نفسى ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد روايتنا. يكمل: أيقظت أخى الأصغر، وكان لى خير عون وساعد ورحت أملى عليه الموضوع الذى صممت على إخراجه وكان عبارة عن عمدة من الريف وفد إلى القاهرة، يحمل الكثير من المال، فالتف حوله فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته، وعندما قارب الخواجة روزاتى صاحب التياترو على الإفلاس، وكاد يغلق التياترو، تقدمت إليه أرجوه تأجيل النطق بالحكم بضعة أيام حتى أضع رواية تكون الدواء الشافى، وقبل الرجل ما اقترحت عليه، ووضعت أولى رواياتى «كشكش بيه» وكانت عبارة عن اسكتش فكاهى يستغرق 20دقيقة. وفى يوم الافتتاح كنا نجرى البروفة النهائية وقد أحسست حين ذاك أن روايتى هذه تعتبر مثلاً أعلى للسخافة، وأننى لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعنى إلا أن ألعن المؤلف، والمؤلف بالطبع هو أنا والملحن هو أنا، أيضاً فقلت: آه يا وقعتى يا أنا، وقبضت على قلبى بيدى من هذه اللحظة حتى المساء. يتابع حديثه: وانتهى العرض، ولا أدرى على أى حال انتهى، وهل نجحت الرواية أم سقطت؟، رأيت أن أرجئ الاستفسار عن هذا كله إلى اليوم التالى، لبست معطفى ورفعت ياقته أخفى بها أطراف وجهى عن الأعين، وتسللت على مهل متخذاً طريقى إلى الخارج دون المرور على الخزينة على غير العادة، وفى اللحظة التى كدت أسلم فيها ساقى للريح عند الباب الخارجى لمحتنى وكيلة التياترو، فصرخت تنادينى، وقفت فى مكانى دون حراك «أخ جالك الموت يا تارك التياترو». وجاءت إليّ الفتاة تهنئنى بحرارة وتحدثنى أعذب حديث وتبتسم ابتسامة الانشراح وجذبتنى من يدى، فمشيت خلفها متثاقلاً إلى أن وجدتنى وجهاً لوجه أمام الخواجة الذى استقبلنى متهللاً، وصافحنى قائلاً «مكنتش أعرف إنك ممثل عظيم بالشكل ده، إنت هايل قوى. مبروك مبروك»، ووضع الرجل يده فى جيبه وأخرج 60 قرشاً وهو يقول: «دى ماهيتك من النهارده». ومن هنا كانت الانطلاقة لتتوالى نجاحات الريحانى فى رواياته وروائعه، إلى أن توفى متأثراً بمرض التيفويد عام 1949، تاركاً تاريخه الطويل من الإبداع. نساء فى حياته برزت في حياة الراحل نجيب الريحانى عدة أسماء نسائية كانت مؤثرة فيها بدرجة كبيرة. فنجده أحب الممثلة الفرنسية لوسى دى فرناى، وهنا قابل حبه الأول، كانت وقتها تقدم أدواراً ثانوية فى فرقة فرنسية على مسرح كازينو «دى بارى»، وهنا قرر الريحانى إنشاء مسرح خاص به، واستغرق الأمر شهوراً طويلة استنفد فيها كل ما معه من مال، فقاسمته لوسى مالها ولكن علاقتهما انتهت وجمعت ملابسها ورحلت عائدةً إلى باريس. كذلك وقع الريحانى فى حب فتاة صغيرة تتميز بصوت عذب وعرفته بنفسها وهى بديعة مصابنى، وعملا معاً حتى اشتهرا وقررا الزواج، وقتها نشرت الصحف خبر زواجهما، وقد حمل عقد الزواج توقيع الريحانى باللغة العربية، بينما وقعت العروس بالحروف اللاتينية، وقال عنها الريحانى فى مذكراته: «الحب والغيرة من المعجبين هما اللذان دفعانى للزواج من بديعة، ولكن الواقع ليس كذلك، فزواجى منها نوع من العناد والتورط والرغبة فى الانتصار». كما أحبته الفنانة زالاتا، ولكنه لم يكن يحبها ولم يحتمل أن يكمل حياته معها، بينما ضم الريحانى الفنانة الجميلة كيتى إلى فرقته عام 1930، وكانت تجيد الحديث باللهجة العامية، ونالت شهرة واسعة فتعلق بها وأخبرها بحبه، ولكنها كانت تبعده عنها، فازداد تعلقه بها وظلت علاقتهما بهذا الشكل حتى تزوجت من منتج يونانى وسافرت إلى إسطنبول. وفى تصريح سابق لـ«الكواكب» من ابنته جينا الريحانى، قالت خلاله إن والدها برغم كل تلك الأسماء عاش وحيداً، لم يرعه أحد، مضيفة أنها لم تعرفه إلا لثلاث سنوات فقط من عمرها ولم تعش معه سوى أيام قليلة. ورغم أن الريحانى رحل منذ أكثر من 76 عاماً، إلا أن أعماله ما زالت قادرة على جذب الجمهور، وكأنها العرض الأول. كان الريحانى منحازاً بشكل أكبر إلى المسرح، كان هو بيته وملاذه وعندما قرر الاتجاه إلى السينما كان فى ثلاثينيات القرن الماضى ولم يقدم عدداً كبيراً من الأفلام بل حوالى 6 أفلام فقط، أبرزها : «أحمر شفايف»، «ياقوت»، «سى عمر»، «أبو حلموس»، «لعبة الست». رحيل نجيب الرحانى لم يشاهد الريحانى آخر أعماله، ففى عام 1949 كان آخر أفلامه وهو الفيلم الشهير «غزل البنات» مع ليلى مراد ويوسف وهبى وأنور وجدى وسليمان نجيب والذى رحل الريحانى قبل عرضه بشهرين، ويعد أشهر أفلامه، حيث أبهر الجميع بمشهد بكائه فى الكواليس، وحتى أن ليلى مراد تحدثت عن براعته وبكت بسببه. من المفارقات فى حياة الريحانى أنه كتب نعيه بنفسه قبل رحيله وكان رثاؤه لنفسه قبل موته بـ15 يوماً بمثابة تنبؤ بقرب أجله، وقال فى الرثاء: «مات نجيب.. مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذى لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب.. مات الرجل الذى لا يعرف إلا الصراحة فى زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبوحة فى زمن البخل والشح.. مات الريحانى.. فى 60 ألف سلامة».