11-10-2025 | 13:29
شيماء رحيم
فى عالم سريع الإيقاع، تتبدل فيه الأذواق كما تتبدل المواسم، وتسطع فيه نجوم لتختفى أخرى فى لمح البصر، تظل هناك أصوات تعلو فوق تقلبات الزمن، تحتفظ ببريقها مهما تغير كل شىء من حولها، لا يخفت حضورها، وفى القلب من بين تلك الأصوات، الهضبة عمرو دياب، الذي يحتفل اليوم بعيد ميلاده ومعه نعيش هذه الرحلة الفنية.
بينما نحتفل بعيد ميلاد النجم الكبير فى الحادى عشر من أكتوبر، نجد أنفسنا أمام تجربة فنية استثنائية يصعب تكرارها؛ فعلى الرغم من أن رحلته الفنية بدأت فى مطلع الثمانينيات، فإنه لا يزال يحتل الصدارة، ينتج، ويبتكر، ويصنع جمهوراً جديداً فى كل مرحلة من حياته، أكثر من أربعون عاماً من النجومية لم تزده إلا توهجاً، وكأن الزمن يمر من حوله دون أن يمسه، وكأن صوته اختار أن يظل شاباً إلى الأبد.
هكذا ترسخت أسطورة عمرو دياب بصوت يعرف كيف يواكب الزمن، دون أن يفقد ملامح القلب الأول.
تجديد ذكى.. وثورة فنية
من بين الأسرار التى جعلت عمرو دياب يتربع على عرش الغناء العربى عقوداً طويلة، قدرته الفريدة على المزج الخلاق بين الشرق والغرب، بين الجذور والأفق المفتوح، فى توليفة موسيقية لا تشبه سواه. فالهضبة لم يكن يوماً أسيراً لقالب واحد، بل ظل صانعاً لهوية موسيقية مرنة قادرة على التطور دون أن تفقد أصالتها.
منذ بداياته، أدرك أن الموسيقى لا تعرف الحدود، وأن سر الاستمرار هو التجديد الذكى، لا التغيير الجذري. لذلك، ظل يبحث عن النغمة التى ترضى الذائقة العربية وتواكب الإيقاع العالمى فى الوقت ذاته، ولعل ألبوم «نور العين» عام 1996 يمثل اللحظة الفارقة فى هذا المسار، إذ قدم من خلاله تجربة موسيقية عبرت الحدود الجغرافية، ليصل صدى صوته إلى أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا، محققاً ما يشبه الثورة فى شكل الأغنية العربية الحديثة.
ثم جاء النجاح الطاغى لأغنية «تملى معاك» عام 2000 ليؤكد أنه لم يكن نجاحاً عابراً، بل مشروعاً فنياً متكاملاً، ففى هذه الأغنية تتجسد فلسفته فى لحن شرقى رقيق ينبض بالحنين، يرافقه توزيع عصرى قريب من الذوق العالمى، ولهذا لم يكن غريباً أن تغنى بلغات مختلفة، وتصبح واحدة من أكثر الأغنيات العربية تداولاً عالمياً.
لقد بنى عمرو دياب عبر هذه الرؤية جسراً موسيقياً بين الأصالة والمعاصرة، استطاع أن يعبر به من جيل إلى جيل، فمهما تغيرت الأساليب وتبدلت الصيحات، فهو لا يركض خلف الموضة، بل يعيد صياغتها بطريقته الخاصة، لتصبح هى مَن تسير فى فلكه لا العكس.
العناية بالتفاصيل
من يظن أن نجاح عمرو دياب وليد الصدفة، لا يعرف كم من الانضباط والدقة يقفان خلف كل عمل يقدمه، فالهضبة لا يترك أى تفصيلة مهما بدت بسيطة دون أن تمر عبر عينه النقدية وذائقته الرفيعة.
يبدأ الأمر من اختيار الألحان، حيث يُعرَف عنه أنه لا يكتفى بالبحث عن الأغنية الجميلة، بل عن اللحن الذى يحمل روح التجديد، ويصل إلى القلب والعقل فى آن واحد. أما فى التوزيع الموسيقى، فهو دائم الحرص على التعاون مع أفضل الموزعين الذين يفهمون رؤيته ويترجمونها إلى موسيقى تواكب التطورات التقنية من دون أن تفقد دفئها الإنساني.
ولعل مثال ذلك يبرز بوضوح فى فيديو كليب «تملى معاك» الذى صوره خارج مصر، بإخراج احترافى مبدع، وهو ما منح الأغنية بعداً بصرياً عالمياً، فكان هذا العمل بمثابة بطاقة عبور فنية جعلت الأغنية تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية.
ولم يكن هذا النجاح استثناءً، بل نهجاً ثابتاً اتبعه عبر مسيرته، من خلال التعاون مع كبار صناع الموسيقى فى العالم العربى مثل حميد الشاعرى الذى أسس معه ثنائية ناجحة غيرت شكل الأغنية الحديثة، مروراً بطارق مدكور الذى أضفى على موسيقاه روحاً جديدة فى التسعينيات، وصولاً إلى عمرو مصطفى الذى شكل مع دياب جسراً فنياً بين جيلين من المبدعين.
بهذا الوعى الإنتاجى الرفيع، استطاع دياب أن يجعل من كل ألبوم مشروعاً متكاملاً صوتاً وصورة، ينافس عالمياً فى عصر الفيديو كليب واليوتيوب.
تواصل الأجيال
أن تعيش نجومية طويلة أمر صعب، لكن أن تحافظ على حضورك فى وجدان كل جيل جديد هو التحدى الأصعب، وقد نجح عمرو دياب فى تجاوزه ببراعة لا يملكها سوى القليل من الفنانين فى العالم. فالهضبة لم يكتفِ بأن يكون أيقونة لجيل الثمانينيات والتسعينات، بل استطاع أن يصبح الصوت المألوف أيضاً لأبناء الألفية الجديدة وما بعدها، دون أن يفقد صدقه أو خصوصيته الفنية.
لا يكمن سر هذا الامتداد فى مجرد مجاراة الموضة، بل فى القدرة على التكيف الواعى مع روح العصر، فلم يسعَ إلى تقليد الشباب، بل جعلهم جزءاً من مشروعه الفنى، فبرزت لديه استراتيجيات واضحة للتقارب مع الفئات الجديدة من الجمهور، من خلال توظيف اللغة، والإيقاع، والتقنيات الحديثة فى التعبير الموسيقي، فقد أدخل الإنجليزية فى بعض مقاطع أغانيه، وفتح باب التعاون مع مطربين أجانب، مثل أغنيته الشهيرة «أهى أهي» مع النجمة اليونانية إيرينى بابادوبلو عام 2020، بعد تجربة سابقة مع المطربة أنجيلا ديميتريو فى أغنيتى «بحبك أكتر» و«حبيب قلبى» عام 1999، كما كان له تعاون مميز مع الموسيقار العالمى دى جى مارشميلو عام 2018، ليؤكد مجدداً أنه حاضر فى قلب المشهد العالمى، وليس على هامشه.
ولم يتوقف تجديده عند الموسيقى فقط، بل امتد إلى الحضور الإنسانى والعائلى الذى أضاف إلى صورته دفئاً وقرباً من جمهوره. ففى ألبومه الأخير شاركته الغناء ابنته جنا فى أغنية «خطفونى»، بينما قدم ابنه عبدالله معه دويتو «يلا» من ألبوم «ابتدينا»، وهى تجربة فنية نادرة جمعت بين الأب والابن فى عمل واحد باللغتين العربية والإنجليزية، وأُتبعت بظهور مشترك فى إعلان تلفزيونى وعدة حفلات حية، هذه اللمسات الإنسانية جعلت الجمهور يشعر بأن «الهضبة» ليس بعيداً، بل يعيش تفاصيل الزمن نفسه معهم، بلغة عائلية صادقة وبحضور يشبههم.
إيقاع مستمر
لم يعرف عمرو دياب معنى التوقف يوماً؛ فحياته الفنية تشبه نهراً لا ينضب، يتدفق بإبداع متجدد عاماً بعد عام، فمنذ بداياته وحتى اليوم، لم يعرف جمهوره فترة غياب طويلة أو انقطاعاً عن الساحة. على العكس، حافظ «الهضبة» على عادة طرح ألبوم جديد بصورة شبه سنوية، ليبقى حاضراً دائماً فى الوجدان والذاكرة.
وعلى مدار العقود، انتقل عمرو دياب بسلاسة من شرائط الكاسيت إلى الأسطوانات المدمجة، ومنهما إلى المنصات الرقمية مواكباً كل تطور تكنولوجى دون أن يفقد هويته الأصلية، كما حافظ على علاقاته الواسعة مع أبرز الشعراء والملحنين والموزعين، مستثمراً فى طاقات جديدة تُمكنه من البقاء على قمة المنافسة.
الأرقام القياسية التى يحققها على المنصات الرقمية ليست مجرد نجاحات عابرة، بل دليل على قدرة فنان تجاوز الأجيال على أن يظل معاصراً دائماً، فإنتاجه المتواصل يغذى ذاكرة الجمهور، ويُبقى اسمه حاضراً فى الوعى الجمعي.
هوية خالدة
لا يمكن اختصار مسيرة عمرو دياب فى كونه مطرباً شهيراً، بل تحول إلى حالة متكاملة من الحضور والرمزية، إلى «علامة» تحمل اسمه وتشع بمعانى الاستمرارية والأناقة والتجدد، فالهضبة لا يصنع الأغانى فقط، بل يبنى حولها عالماً متكاملاً من الصورة والإبهار والتواصل الذكي، حفلاته الضخمة التى تملأ المسارح والساحات كل عام، وإطلالاته المدروسة على الجمهور، وصوره التى تنتشر بعناية على المنصات، كلها تفاصيل تدار بدقة عالية، حتى أصبح اسم «عمرو دياب» فى حد ذاته رمزاً تجارياً فنياً من الطراز الأول.
تلك المعادلة الصعبة بين الغموض والجاذبية هى أحد أسرار بقائه، فهو حاضر دائماً لكن دون إفراط، قريب من جمهوره من دون أن يفقده حضوره هالته الخاصة، يختار بعناية متى يظهر، ومتى يتحدث، ومتى يصمت، هذه الإستراتيجية الدقيقة لا تأتى من العفوية وحدها، بل من منظومة متكاملة تديرها مؤسسة إنتاجية وإعلامية واعية، تعرف كيف تحافظ على بريق النجم دون أن تستهلكه، فهذا التنظيم الدقيق حوله من مجرد فنان ناجح إلى ظاهرة مؤسسية ينبغى دراستها.
تتويج عالمى
لم يكن نجاح عمرو دياب حكراً على الجمهور العربى فقط، بل تخطى الحدود ليصبح اسماً عالمياً يتداول فى المحافل الموسيقية الدولية، فالاعتراف العالمى الذى ناله عبر العقود لم يكن مجرد مجاملة أو صدفة، بل نتيجة مسيرة متقنة من العمل والالتزام والتجديد.
حصل عمرو دياب على عدد من جوائز «World Music Awards المرموقة»، وهى من أرفع الجوائز الموسيقية فى العالم، تقديراً لتربعه المستمر على عرش المبيعات فى الشرق الأوسط، كما سُجل اسمه فى موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية لكونه الفنان العربى الأكثر حصولاً على جوائز «أفضل مطرب مبيعاً فى الشرق الأوسط» فى أعوام 1996 و 2001 و2007 و 2013، وهو إنجاز غير مسبوق فى تاريخ الغناء العربى.
هذه الجوائز لم تضف إلى رصيده فقط بريقاً إعلامياً، بل منحت مشروعه الفنى شرعية دولية ومصداقية تسويقية قوية، جعلت اسمه علامة معترفاً بها فى الأسواق العالمية، فحين يذكر عمرو دياب فى المنصات الأجنبية، يشار إليه كـ«رمز للبوب العربى»، وهى صفة لم ينلها بسهولة، بل بجهد متواصل فى تطوير موسيقاه وإيصالها إلى مستمع عالمى دون أن يفقد جوهره الشرقي.
لقد أثبت عمرو دياب أن العالمية لا تتحقق بالهجرة من الجذور، بل بالقدرة على تمثيل الهوية فى أرقى صورها، وأن الفن الحقيقى حين يتقَن يصبح لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة.