السبت 27 ديسمبر 2025

مهرجان التحطيب.. أيقونة هوية

27-12-2025 | 14:15

يُعد التحطيب أحد أقدم الفنون الشعبية في مصر، وهو فن عريق تعود جذوره إلى الحضارة المصرية القديمة، حيث استخدم المصريون القدماء العصا في المبارزة والتدريب على القتال، وظهرت مشاهد التحطيب منقوشة بوضوح على جدران المعابد والمقابر، بما يؤكد أنه لم يكن مجرد لعبة، بل نظامًا تدريبيًا متكاملاً يجمع بين القوة والانضباط والمهارة. وقد شكّل التحطيب طقسًا يوميًا لدى المصري القديم والحديث، يعمل على تعزيز اللياقة البدنية، وترسيخ قيم الشجاعة والشرف، واستمرت هذه اللعبة عبر العصور المتعاقبة دون انقطاع، محافظًه على روحها رغم تغير الأزمنة. ومع مرور الزمن، انتقل التحطيب من ساحات التدريب إلى فضاءات الحياة الشعبية، ليصبح في العصر الحديث أحد أبرز مظاهر التراث الشعبي وبخاصة في صعيد مصر ، حيث يُقدَّم في الموالد والأفراح والمواسم داخل بعض المناطق، بوصفه عرضًا احتفاليًا يجمع بين الفن واللعب، ويعكس ملامح الهوية الثقافية. ويمثل التحطيب اليوم رمزًا أصيلًا للثقافة الصعيدية، وأحد أهم ركائز القرية المصرية في الجنوب، لما يحمله من قيم الرجولة والاحترام والتنافس الشريف، كما يتميز هذا الفن بدقة الأداء، وجماليات الحركة، وخفة الجسد، والحبكة الاستعراضية، إلى جانب التزام اللاعبين بأساسيات وقواعد صارمة لا يمكن الحياد عنها، ما يمنحه طابعًا فنيًا وإنسانيًا فريدًا. ولا يمكن الحديث عن الحفاظ على هذا التراث دون الإشارة إلى الدور الكبير الذي تقوم به الهيئة العامة لقصور الثقافة ، برئاسة اللواء خالد اللبان، في نشر الثقافة والفنون بكافة ربوع مصر، وسعيها الجاد لحماية التراث المصري غير المادي. ويتجلى هذا الدور بوضوح من خلال اقامة المهرجان القومي للتحطيب الذي يُقام سنويًا بمحافظة الأقصر، والذي يُعد واحدًا من أهم المهرجانات المعنية بالحفاظ على الألعاب الشعبية المصرية. ولولا هذه الجهود المؤسسية، لكانت لعبة التحطيب مهددة بالاندثار، شأنها شأن بعض الفنون الشعبية والألعاب التراثية التي لم تسجل، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. كما لا يمكن إغفال الدور الرائد للفنان الكبير الراحل عبد الرحمن الشافعي ، مؤسس مهرجان التحطيب، الذي استشعر مبكرًا ضرورة الحفاظ على هذا الفن من الاندثار ، فكرّس جهده لإقامة مهرجان يعيد له حضوره ويضمن استمراريته، ويواصل نجله الفنان الكبير أحمد الشافعي ، هذه المسيرة اليوم، مؤكدًا وعيًا عميقًا بأهمية التحطيب بوصفه تراثًا ممتدًا من أيام المصريين القدماء وحتى عصرنا الحديث. وقد ظل التحطيب حاضرًا في الذاكرة ، ليس فقط عبر الممارسة الشعبية، بل أيضًا من خلال السينما المصرية، حيث تناولته العديد من الأفلام التي استعرضت طقوسه وشخصياته، وكان من أبرزها فيلم " صراع في النيل" ، الذي قدّم التحطيب كجزء أصيل من البيئة الصعيدية. وانطلاقًا من ذلك، يصبح توجيه الشكر للهيئة العامة لقصور الثقافة واجبًا تقديرًا لهذا الاهتمام، ولتنظيم مهرجان دوري يضمن استمرارية هذه اللعبة العريقة. ومع ذلك تظل الحاجة قائمة إلى " تطوير المهرجان" من خلال توسيع نطاق إقامته ليشمل أكثر من محافظة، وتنظيمه أكثر من مرة على مدار العام، إلى جانب إنشاء ورش تدريبية متخصصة تُعرّف الأجيال الجديدة بالتحطيب وتدربهم على ممارسته وفق أصوله الصحيحة، بما يضمن نقله من جيل إلى جيل، ويحميه من الاندثار. فيجب علينا جميعا ان ندرك ان التحطيب ليس مجرد لعبة… بل ذاكرة وطن، وهوية متجذرة في وجدان الجنوب المصري .