رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ضبط إيقاع المجتمع

29-10-2021 | 19:40


عبد الرازق توفيق,

لا أجامل إذا قلت إن الدولة امتلكت الرؤية والخيال والواقع والتنفيذ لإحداث التوازن فى المجتمع.. فهى التى توفر سُبُل الحياة الكريمة للفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً، التى تضررت من العقود الماضية بالتهميش والإهمال.. وهى أيضاً من تخلق الفرص للجميع بعدالة ومساواة .. والقيادة السياسية تولى قضية بناء الإنسان المصرى اهتماماً غير مسبوق، وتجعله فى صدر أولوياتها..  لكن الدراما والسينما والفن والإعلام غائبة عن ضبط إيقاع المجتمع..  فالتناول غير متوازن .. يتناول طبقة الأثرياء ورجال الأعمال ومجتمع النجوم..  أو يتناول فقط الفئات الأكثر احتياجاً .. ويتجاهل طبقة «أولاد البلد» عصب وقلب وعقل المجتمع المصري .. فهذه الطبقة التى يطلقون عليها «المتوسطة» تحمل هموم وقيم وتطلعات وأحلام الوطن.. وتمثل ركيزة وجوده..  وهى التى كانت ومازالت وقود الثورات الوطنية  ضد الاستعمار والاحتلال وأيضاً ضد الخونة من الإخوان،  وتبقى 30 يونيو هى النموذج..  لذلك علينا أن نعيد أعمال «أولاد البلد» وقصص الشرف والكفاح والنجاح إلى الفن والثقافة والإعلام المصرى.

 

الدولة أصبحت نموذجًا فى الوعى بهذه القضية والعمل على تحقيقها، ونجحت بشكل كبير،  لكن يظل دور الفن والإعلام والثقافة غائبًا عن تحقيق هذا التوازن.

 

الحقيقة الواضحة التى يمكن أن نقرأها بين سطور دفتر عمل وجهود الدولة على مدار الـ7 سنوات الماضية أن الدولة المصرية، أصبحت الأكثر ضبطاً لإيقاع المجتمع.. وإحداث التوازن بين جميع فئاته وطبقاته.. وحتى لا تكون السطور والمعانى مجرد كلام.. دعونا نأخذ بعض النماذج من الكثير..

لا ينكر أحد كيف تتفانى الدولة، وتسابق الزمن فى انتشال الفئات المهمشة والأكثر احتياجاً والأولى بالرعاية ورفعها إلى الطبقة المتوسطة أو توفير حد العيش الكريم.. فإذا أخذنا مثالاً لجهود الدولة فى القضاء على المناطق غير الآمنة.. فنحن أمام ملحمة حقيقية نموذجية وإنسانية ترسخ المعنى الحقيقي.. والمفهوم الشامل لحقوق الإنسان فى السكن والعيش الكريم.. والإقامة فى مناطق حضارية راقية تتوفر فيها المعايير الإنسانية والصحية والرياضية والاجتماعية.. فانتقال أهالينا من سكان هذه المناطق إلى سكن كريم ولائق ومجهز بالأثاث والأجهزة الكهربائية.. وأيضاً فى عمارات هى النموذج فى مناطق منظمة ومخططة تحوى مناطق ومساحات خضراء واسعة وكافة الاحتياجات والأنشطة التى يحتاجها الإنسان.. ومن هنا فإن جهود الدولة واضحة للعيان فى إحداث نوع من ضبط الإيقاع بين فئات المجتمع ليتوفر للجميع العيش والحياة الكريمة، ولا تبخل الدولة بمئات المليارات للإنفاق على هذا الملف الذى أشادت به المنظمات الدولية.. وهو عنوان فخر للدولة الحديثة «مصرــ السيسي».

أيضاً نموذج آخر من حرص الدولة على ضبط إيقاع المجتمع، هو تنمية وتطوير الريف «حياة كريمة».. وهو مشروع عالمى دولى تاريخي، ربما الأضخم فى العالم، الذى يستهدف حياة ما يقرب من 60 مليون مواطن مصرى وتحويلها إلى الحياة الكريمة فى أكثر من 4500 قرية مصرية، و30 ألف تابع، بميزانية 700 مليار جنيه، تستهدف أيضاً الارتقاء بكافة الخدمات وتوفيرالمناخ المثالى لحياة المواطن فى كافة المجالات والقطاعات، لتغيير حياة أهالينا فى الريف، لتصبح حياة بلا معاناة أو نقص.

نموذج ثالث لحرص الدولة على ضبط إيقاع المجتمع، وهو المشروع القومى للتأمين الصحى الشامل، الذى يتساوى فيه الغنى والفقير.. وتساهم الدولة فى رعاية الفئات الأكثر احتياجاً وتسدد الاشتراكات الخاصة بهم وتوفر لهم أرقى نوع من العلاج، وفى أفضل المستشفيات سواء الحكومية أو الخاصة لإزالة هم ومعاناة استمرت عقوداً طويلة لم يجد فيها قطاع من المصريين العلاج المناسب.. وتستطيع أن تضم لهذا الملف العديد من المبادرات الرئاسية فى مجال الصحة التى ساهمت فى ضبط إيقاع المجتمع، واستهدفت الفئات الأكثر احتياجاً، فلو تحدثنا عن القضاء على فيروس سى حيث كان تحدياً خطيراً هدد صحة وأرواح وحياة المصريين.. ناهيك عن القضاء على «قوائم الانتظار» التى أنهت معاناة وألم قطاع كبير من هذه الفئات.

النماذج المشرفة للدولة فى ضبط إيقاع المجتمع كثيرة ومتعددة.. وأنا هنا لا أجامل الدولة، فهى تستحق بجدارة وبالواقع.. فلا يمكن أن أتجاهل نموذجاً آخر مضيئاً فى ضبط إيقاع المجتمع، وهو برامج الحماية الاجتماعية وعلى رأسها برنامج «تكافل وكرامة» الذى يستهدف مساندة ودعم 3.9 مليون أسرة مصرية ليس فقط بمعاش نقدي، ولكن أيضاً من خلال برامج للتأهيل والتدريب والقدرة على كسب الرزق الحلال.. إنها إعادة صياغة للمجتمع.

بالأمس الأول كنا على موعد مع نموذج جديد لضبط الإيقاع المجتمعي، فالدولة تضع المواطن المصرى فى قلبها وعقلها إلى درجة أن الاهتمام والرعاية بالمواطن داخل المؤسسات العقابية، وتأكيد حق المواطن المصرى فى الحياة الكريمة.. لذلك جاء مركز الإصلاح والتأهيل بوادى النطرون، التابع لقطاع الحماية المجتمعية بوزارة الداخلية، نموذجاً لمفهوم حقوق الإنسان بالمعنى الشامل، وإيماناً بأن النزيل لا يمكن أن يعاقب مرتين، لذلك فإن عين الدولة وقلبها وصلا إلى المؤسسات العقابية.. وتوفرت لهذه الفئات كافة الاحتياجات ومقومات الحياة الكريمة وتصحيح مسار هذه الفئات بالإصلاح والتدريب والعلاج النفسى والمادى والرعاية الاجتماعية والتعليمية والصحية والثقافية والدينية والمهنية والحرفية، ليخرج إلى المجتمع إنساناً طبيعياً صالحاً، يفيد أسرته ومجتمعه، ويبتعد تماماً عن اقتراف السلوك الإجرامي.. فالمركز يضم كل شيء يحتاجه النزيل من مستشفيات عصرية، ومجمع للمحاكم، يوفر الجهد والمعاناة، وورش لتعليم المهن والحرف، ومسجد وكنيسة، ومصانع، وصوب زراعية، وإنتاج حيوانى وزراعى وصناعي.. هى منظومة إنسانية فى المقام الأول، تجسد صياغة جديدة لحياة إنسان اتجه نحو الجريمة.. وإعادة بناء على أسس علمية لمنحه شهادة ميلاد جديدة ليكون مواطناً صالحاً فى مجتمع آمن ومستقر.

أردت أن أتناول القليل من جهود الدولة الخلاقة والمبدعة لضبط إيقاع المجتمع.. حتى أصل إلى ما أريد وهو التأكيد أن الإعلام والفن والدراما غائبة عن ضبط إيقاع المجتمع.. وتعالوا نذكر بعض الأمثلة المهمة لحالة الغياب والتوازن للإبداع والفن والإعلام عن ضبط إيقاع المجتمع فى الدراما والسينما، وحتى الإعلانات.. نركز على أمرين فقط هما تجسيد حياة الأثرياء الذين يعيشون فى القصور والفيلات، ولهم نمط مجتمعى خاص بهم، وربما الإسراف فى تناول حياة هذه الفئات، ومدى الترف والبذخ والثراء الذى يعيشون فيه، مما يخلق تطلعات لدى الفئات الأخري، يصعب تحقيقها، وبالتالى تحدث حالة من الاحتقان وعدم الرضا.. وهنا أنا لا أطالب بتجاهل هذه الفئات، ولكن نوع من التوازن بينها وبين باقى الفئات الأخري.. وعدم الميل إلى تقديم هذه الفئات الثرية بهذا النمط المسىء وكأنهم لا يعرفون سوى الخمور والعرى وحالة الفخامة فى البيوت والصراعات والمنافسات.. بالطبع هناك جوانب إنسانية أخرى مثل الكفاح والتعليم والمسئولية الاجتماعية، ومساندة الفئات الأكثر احتياجاً.. أو هناك دور مجتمعى ووطنى.

الفئة الثانية التى يركز عليها الإعلام والدراما هى الفئات المهمشة أو الفقيرة وإبراز مظاهر القبح والسلبيات.. وربما كانت السينما فى العقدين الأخيرين لا ترى فى المجتمع المصرى إلا هذه الفئات.. وشاهدنا أفلاماً صُنعت خصيصاً لتشويه المجتمع المصري، بتناول غير أمين لهذه الفئات، وبالتالى الإساءة لمصر.

القضية التى أريد أن أتناولها هى طبقة «أولاد البلد» أو ربما نطلق عليها الطبقة المتوسطة، التى تشكل عصب وعموم المجتمع المصري.. فئة الموظفين والتجار البسطاء والكادحين.. أراهم غير ممثلين فى الأعمال الدرامية والفنية، ولم نعد نسمع حوارات وخطابات أبناء وأولاد البلد فى الأعمال الفنية، ومن خلالها يمكن ترسيخ القيم والفضائل والمبادئ التى تشكل قلب وعقل المجتمع المصري.. مثل الموظف الشريف أو البسيط الذى يربى أبناءه على الشرف وينجح فى أن يكونوا مواطنين صالحين، منهم الضابط والمهندس والطبيب والمحامى والتاجر والمقاول والموظف والشيخ والصحفي.

أين إبراز اللحمة المجتمعية والأسرية فى مجتمعنا؟.. أين لمة العيلة والحب والترابط فيما بينها؟.. أين «ليالى الحلمية وأرابيسك والمال والبنون وعائلة شلش.. وبابا عبده.. وأفواه وأرانب»؟.. جميعها تحمل هموم وحوارات وخطاب وإعلام وتطلعات «أولاد البلد» عمق المجتمع المصري، التى أصبحنا نفتقدها بشدة.. وخلقنا بأيدينا خطابات اغتراب عن أصل وجوهر وأحلام مجتمعنا.. فالفئات من الأثرياء أصبحوا فى حالة «جنوح مجتمعي».. والفئات الأكثر احتياجاً فى حالة اغتراب ما بين هذا وذاك.. وغابت فئات «ولاد البلد» بحكايات كفاحهم المشرف ووطنيتهم.. وتاريخ هذه الطبقة هو عنوان ملحمة وتاريخ النضال المصري.. فكانوا هم وقود الثورات ضد الاستعمار.. وأيضاً عصب الفدائيين المصريين ضد الاحتلال.. وهم الطبقة التى تحمل عصارة وهوية الدولة المصرية.. وانضمام الفئات الأكثر احتياجاً إلى الطبقة المتوسطة بعد جهود الدولة المشرفة والمبدعة خلال السنوات الماضية تضيف ثراءً كبيراً للمجتمع المصري.

طبقة «أولاد البلد».. أو المعلم زينهم، أو شخصية البطل الشعبي.. هى الطبقة التى تبغض وتكره المتطرفين والمتشددين دينياً أو «التفرنج» بعيداً عن القيم المصرية.. وتكره أيضاً الكارهين للدين والمهاجمين للأنبياء.. والمؤدلجين بثقافة الغرب، يشعرون بأنهم مسخ.. لذلك فهى الطبقة التى تحدث توازناً قوياً وجداراً راسخاً فى المجتمع، يحافظ على هوية ومنظومة القيم فيه.

إن إعادة خطابات طبقة «أولاد البلد» أو الطبقة المتوسطة إلى الدراما والسينما والفن هو أمر مهم للغاية لإحداث نوع من ضبط إيقاع المجتمع.. وعلى الإعلام أن يدخل فى كواليس هذه الفئات المضيئة فى مجتمعنا ليتناول همومها وتطلعاتها وأحلامها وكيف ترى هذا الوطن فى ظل أكبر ملحمة للبناء والتنمية فى تاريخه.

نموذج للأسف سييء.. لقد كانت الأغنية الشعبية التى حولوها إلى مهرجانات التدنى والتسطح والانحلال والركاكة، وابتعدت بلغة المجتمع المصرى عن القيم والأصالة والرجولة والشهامة والوطنية، إلى الابتذال والسوقية وثقافة «التوك توك».. فأصبحنا نسمع ألفاظاً مسيئة وجارحة، وأصبحنا نرى سلبية من بعض الناس لمواقف تحدث فى الشارع.. مثلاً.. عندما تتعرض فتاة لمضايقات، أو إنسان لموقف صعب، أو حتى تشابك.. ترى فى المقابل حالة لا مبالاة وسلبية، ولا أحد يتدخل ويكتفى بالمشاهدة.. وهذا أمر غريب.

نستطيع من خلال إنتاج أعمال درامية وسينمائية وثقافية وغنائية ومسرحية عن طبقة «أولاد البلد» أو «المتوسطة» تقديم الكثير من الرسائل.. وترسيخ قيم الشرف والكفاح والعمل والشهامة والوطنية وهموم الوطن وتحدياته.. وبالتالى نكسب شوطاً مهماً فى معركة بناء الوعي، ونحارب ثقافة الانحلال والتعرى التى نراها فى «المهرجانات» أو الإساءة للدولة المصرية بأعمال تشوه المجتمع وتلقى ترحيباً من مهرجانات غربية.

نحن الذين نقصر فى حق أنفسنا ونترك الساحة للمرضى النفسيين والحاقدين، ليقدموا أعمالاً تسيء إلينا وتشوه ما صنعناه من معجزة.. فلا يجب أن نقف مكتوفى الأيدى درامياً وسينمائياً وإعلامياً وثقافياً.. لابد أن نقدم أعمالاً تتناول إنجازاتنا ونجاحاتنا، وحياتنا الجديدة لنقاوم بها قُبح الماكرين والخبثاء والممولين والمدعومين من أعدائنا.

ضبط إيقاع المجتمع يحتاج رؤية وجهداً وتوازناً فى التناول لمختلف الطبقات والفئات وفى القلب منهم «أولاد البلد» المكافحون والناجحون بشرف.. وكل الفئات كذلك.. ولكن أقصد تجاهل طبقة «أولاد البلد» «مسمار» المجتمع ليس إيجابياً.

هل نحن فى حاجة إلى إعادة بعث أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن، ومحمد جلال عبدالقوي، وغيرهم؟.. هل نحن فى حاجة إلى إعلام يعى البوصلة جيداً ويمتلك الرؤية الصحيحة والثاقبة، وعينه مثل عين الدولة، تستهدف الفئات كلها.

نحن فى حاجة إلى ثقافة تدرك جوهر الخطاب والهوية المصرية.. فليس عيباً أن نتمسك بقيمنا وتقاليدنا مع إصرارنا على التمسك بها وبشدة مع مواكبة الحداثة والتطور والتكنولوجيا.. المهم ألا نفقد طريقنا الصحيح وأصالتنا هى أسهل طريق للعالمية.. واسألوا نجيب محفوظ.

 

تحيا مصر