٣٠ ورشة فقط ما تبقى من صناعتها: «الخيامية» فن مصرى يُقاوم للبقاء على قيد الحياة!
تحقيق: أشرف التعلبى
محمود أيوب- شريف البرامونى
«الخيامية» فن مصري أصيل، ويعني صناعة الأقمشة الملونة التي تستخدم في عمل الخيام، وتضرب جذور هذا الفن في عمق التاريخ؛ إلا أن هذه الصناعة الآن تُعاني من الإندثار، وتُقام للبقاء على قيد الحياة.. ويُشار إلى أن مصر كان لها شرف مسئولية كسوة الكعبة المشرفة، وكانت الزفة تجوب أزقة وحارات وشوارع قاهرة المعز، قبل أن تنطلق إلى الأراضى الحجازية المقدسة منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، مرورا بالعصر الفاطمى والمملوكى والعثمانى حتى توقفت عام ١٩٦٢ فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ونالت المملكة العربية السعودية شرف مسئولية كسوة الكعبة المشرفة بعد هذا التاريخ.. والكسوة كانت تُصنع بدار صناعة الكسوة بحى الخرنفش بالقاهرة، ومازالت الدار قائمة تحتفظ بآخر كسوة بطول ١٤ مترا وارتفاع ٤٧ مترا هو محيط الكعبة المشرفة.
«المصور» كانت هناك في شارع «الخيامية» لتتعرف على ما تبقى من هذه الصناعة المصرية الأصيلة.. فعلى بُعد ٥٠ مترا من بوابة المتولى، يقع شارع «الخيامية» وهو امتداد شارع المغربلين بحى الدرب الأحمر، وتعرف المنطقة بـ»تحت الربع»، ذلك الممر المسقوف الذى يصل إلى مسجد «صالح طلائع» وهو آخر المساجد التى بنيت فى العصر الفاطمي.. وعلى اليمين من جهة شارع المغربلين يقع مسجد ومدرسة السلطان «إينال اليوسفي» المعروف بالجامع الإبراهيمى بشارع «الخيامية» ترى الدكاكين أو الورش التى ظلت تعمل لقرون طويلة وحافظت على صناعة الخيام والسرادقات، يعود تأسيس الشارع إلى العصر الفاطمى وهو من طابقين، كان فى السابق يسكنه كبار التجار القادمون من الشام وبلاد فارس، حين كانوا يجلبون خيامهم من مصر إلى بلادهم فى طريق العودة، هؤلاء التجار كان يعملون على إصلاح وترميم خيامهم بذلك المكان والذى جاء منه تسمية المنطقة.
٣٠ ورشة هى ما تبقى من ذلك التراث الفنى العريق والذى احتضنته مصر لقرون، فى ظل التقدم التكنولوجى الذى لحق بصناعة الأقمشة فى العالم، ويواصل العشرات من أبناء وورثة الصناعة القديمة العمل في مهنتهم فى ظروف تكاد تكون هى الأصعب فى تاريخ تلك المهنة، خاصة مع ارتفاع أسعار الأقمشة بسبب ارتفاع أسعار الدولار.
هو الأمر الذى يؤكده محمد كمال الرجل الأربعيني، الجالس أعلى طاولة خشبية مستطيلة يعود عمرها إلى عشرات السنين، على متنها قصاصات من الأقمشة الملونة المحاكة يدوياً، بعد أن ورث المهنة أبا عن جد، ومازال محافظا عليها، عاملا بوصية أبيه.. «كمال» قال إن تلك الصناعة مصرية ١٠٠٪ بدءا من الخامات المستخدمة فى الصناعة حتى التنفيذ الأخير.
وعن الطريقة المستخدمة فى صناعة تلك الأقمشة، يقول «كمال» إنها تبدأ أولا بالتصميم على الورق، ثم يقوم بالرسم اليدوى للأشكال الهندسية وغيرها من الرسومات التى سوف يتم تنفيذها على الأقمشة، ثم بعد ذلك يقوم بتخريم تلك الرسومات باستخدام إبرة صغيرة حتى يتم تفريغ الرسم الذى تم تصميمه على الورقة.
مضيفاً: تأتى المرحلة الثالثة والتى يستخدم فيها تراب الفحم بعد صحنه - على حد قوله، ويتم وضع التصميم الذى تم تنفيذه باستخدام الورق على القماش، الذى يتم تصنيعه من خامات مختلفة أبرزها قماش قلاع المراكب ليأتى دور تراب الفحم، الذى يوضع على ورق التصميم فيتم طبع الرسومات على القماش، ثم تأتى المرحلة الأخيرة والخاصة بتحويل الطباعة التى تمت بتراب الفحم إلى شغل على القماش باستخدام الخيوط ذات الألوان المختلفة ليتم تحويل قطعة القماش ذات اللون الأبيض إلى تحفة فنية ذات ألوان متعددة تمت زخرفتها يدويا باستخدام الخيوط والإبر، لافتاً إلى أن أسعار الخيامية تبدأ من ٥٠ جنيها، وتصل إلى ٣٠٠ ألف جنيه.
دخل في الحديث شقيقة الأصغر، عاطف الشاب الثلاثيني، والحاصل على دبلوم ثانوى تجاري، قائلا: فن الخيامية فن رائع، وبدأ بأربعة ألوان، إلى أن تطور ووصل إلى عشرات الألوان، كما شغل الخيامية يدوى ولابد من الحفاظ عليه من الاندثار، مضيفا: تأثرت هذه المهنة بضعف حركة السياحة.. وكنا نعمل ٢٠ صنايعى، الآن أصبحت أعمل وأخى بالعافية، وكان كل صاحب محل خيامية يعلم أولاده، الآن أصبح مستحيلا.
مطالباً بأن يتم الاهتمام بشارع الخيامية وتحويله مثل شارع المعز؛ حيث أن الشارع ينقصه النظام، و»الزبون» العربى قليل جدا، والأجنبى هو من يعرف قيمة هذا الفن، ويدرك الشغل اليدوي.
من جهته، يقول ياسر عبد القادر صاحب محال خيام، إن تلك الصناعة تعبر عن ثقافة مصرية أصيلة، فعلى الرغم من أنها يتم تصنيعها يدويا ويمكن تصميم أى شكل على القماش، إلا أن تلك الصناعة تمتاز بتمسكها بالطراز الإسلامى فى التصميم الذى كان التراث الفرعونى الأشهر «زهرة اللوتس» وكذالك الرسومات الخاصة بالطيور.
وعن «زبائن» تلك الصناعة، يقول «ياسر» إن «زبون» صناعة الخيام كما يطلق عليها منذ عصور اختلف وتطور.. ففى الماضى كان يتم الاعتماد على السائح الأجنبى فصناعة الخيام جزء لا يتجزأ من السياحة فى مصر فكان من الضرورى أن يقوم السائح بزيارة منطقة الخيامية من أجل الحصول على قطعة من القماش التى تحمل هذا الفن المصرى الأصيل، ثم بعد أن تعرضت السياحة تلك الأزمة العنيفة أصبح المواطن المصرى هو زبون تلك الصناعة، فيأتى من اجل الحصول على هذا القماش الذى يتم استخدمه كجزء من أساس المنزل مثل مفارش الأسرة أو كلوحة فنية على جدار المنزل وغيرها من الاستخدامات المختلفة.
وحول أسعار القماش الذى يتم تصنيعه فى حى الخيامية، يقول صاحب المحال إن تلك الصناعة تتميز بأنها موروثة أبا عن جد، فالغالبية العظمى من العاملين فى تلك الصناعة أجدادهم كانوا صناعا مهرة، وانتقلت تلك المهارة من جيل إلى جيل، فمسألة الحصول على الربح ليس الهم الأكبر في تلك الصناعة.
موضحاً أن سعر القماش قبل تصنيعه كان يتراوح فى الماضى ما بين ١٠ إلى ٢٠ جنيها؛ لكن الآن بعد زيادة الأسعار أصبح يتجاوز ٥٠ جنيها للمتر الواحد قبل تصنيعه، مما أدى إلى ارتفاع ثمن القماش المصنع، مشددا أنه ليس هناك ثمن موحد لبيع القماش فالسعر يتم تحديده وفق الجهد المبذول به، فعلى سبيل المثال الأقمشة المصنعة التى يتم استخدامها فى الخيام او السرادقات يتجاوز الربح فى التوب الواحد أكثر من ٢٠ جنيها.
أما خالد إبراهيم أحد العاملين فى مجال صناعة الخيام، حذر من اندثار تلك المهنة، مشيرا إلى أنها تتعرض إلى الكثير من الأوضاع التى وصفها بالمزرية تساهم فى اندثارها، مشدداً على أن الأحوال التى تمر بها المهنة جعلته يتخذ قرارا بعدم تعليم أولاده سر تلك الصناعة.
مضيفاً: أن إهمال الدولة لمنطقة الخيامية يساهم فى ضياع تلك الصناعة، فالمنطقة تعيش حالة من الفوضى والعشوائية فهى مكتظة بالسيارات والزحام الشديد، مما جعلها غير مهيأة لاستقبال السائحين فلابد أن تتحول إلى ممشى مثل شارع المعز، حتى تكون قادرة على جذب السائحين الذين يمتازون بالتنظيم كجزء من طبيعتهم فالعشوائية الموجودة فى الحى أصبحت أحد الأسباب لطرد السائحين وليس جذبهم، أما الأمر الثانى الذى نوه إليه الصانع هى ضرورة الترويج لتلك الصناعة عبر إقامة المعارض المختلفة سواء داخل مصر أو خارجها، مشددا على أن معارض الأسر المنتجة ومعرض ديارنا الذى يُقام تحت رعاية وزارة التضامن الاجتماعى غير كافٍ إلى جانب الإجراءات المتبعة فى تلك المصانع لا يمكن أن تساهم فى رواج تلك الصناعة، موضحاً أنه يحصل على مساحة نصف متر داخل المعرض من أجل عرض منتجاته، مما يجعل الأمر مستحيلا.. وبالتالى لا يستفيد من المعرض لصعوبة عرض تلك المنتجات.
أما كريم محمود الباحث بجمعية حماية التراث بحى الجمالية، فيرى أن مصر تمتلك العديد من الصناعات التى تعد صناعات ذات طابع خاص يعبر عن الثقافة المصرية مثل الفن النوبى والفن البدوى فى سيناء وغيرها من الفنون ذات الطابع الصناعى، مشددا على أن صناعة الخيام من الفنون التى تعبر عن الروح المصرية بامتياز لأنها خليط من مجموعة عصور مختلفة العصر الفرعونى والقبطى والإسلامى والشعبى. مشدداً على أنه للأسف الشديد مصر إلى الآن لم تستطِع تكوين رؤية حقيقية حول الاهتمام بتلك الصناعات أو الاستفادة منها، موضحا أن هذا النوع من الصانعات له أبعاده الاجتماعية الثقافية وكذلك الاقتصادية.
فمن الناحية الاجتماعية والثقافية، يقول الباحث بجمعية حماية التراث إن الاهتمام بتلك الصناعات يخلق حالة من الارتباط بالثقافة المصرية بشكل واضح وكبير أولا من يمارس العمل فى تلك الصناعة وتوسيع الدوائر وزيادة العاملين بها، ثانيا المستخدم أو المتلقى لتلك الصناعات.. فالاثنان يحدث لهما تغيير جوهرى على مستوى الوعى والانتماء إلى جانب أن الاهتمام بتلك الصناعات ودعوة الشباب لها جزء من مواجهة الأفكار المتطرفة.
أما على المستوى الاقتصادى، فالباحث يرى أنه يجب الاعتراف بأن هناك أزمة مركبة داخل الاقتصاد المصرى أو غياب الصناعة من جانب وضعف القدرات المصرية فى التنافس داخل السوق العالمى خاصة فى الصناعات الحديثة والمرتبطة بالتكنولوجيا لذلك الاهتمام بهذه النوعية من الصناعات، الثقافة اليدوية تخلق للاقتصاد المصرى رواجا ليس فقط على المستوى المحلى ولكن أيضا على المستوى الدولى، مطالباً الدولة بضرورة وضع خطة استراتيجية لحماية تلك الصناعات من الاندثار عن طريقة الاستفادة من الخبرات الموجودة فى كل مجال وفتح ورش ومدارس خاصة لتعليم والتدريب على تلك الصناعات والترويج لها على المستوى الدولى، من خلال المشاركة فى المعارض المختلفة وعمل الأفلام الوثائقية الثقافية والترويج لها فى كافة المحافل الدولية.