منذ الضجة التى أحدثتها واقعة "سقوط" عدد من الأصوات فى امتحان نقابة المهن الموسيقية أمام لجنة مختصة من خارج مجلس النقابة أجمعت على عدم صلاحيتهم للغناء وافتقادهم الحد الأدنى لشروط مزاولة المهنة، فى حين نجح زملاء لهم يؤدون نفس النوع من الغناء المسمى بـ"المهرجانات"، وما صاحب هذا الإجراء من خلط غير مبرر حول قرار -لا لبس فيه- صدر من النقابة بموجب رأى لجنة استماع ضمت أسماء نزيهة وبعيدة كل البُعد عن الجمود الفكري، هم الموسيقار هانى شنودة والموسيقار سامى الحفناوى والموسيقار محمد ضياء، ولم يذكر القرار أن رفضهم جاء بسبب نوع الغناء الذى ينتمون إليه ولايجوز أن يكون، لأن النقابة قبلت زملاء لهم امتلكوا القدرة على الأداء السليم، بل إن النقابة أنشأت لهم شعبة، وهو ما يؤكد أن المشكلة ليست فى نوع الغناء وإنما فى عدم صلاحية الأصوات ورداءتها.
منذ هذه الضجة وذاك الخلط العبثي- لا أعرف لماذا - وجدت قصيدة شوقى "إلام الخلف بينكم إلاما؟" تقفز فى رأسى بعد أن عبث خيالى بكلمة "الخلف" ووضع مكانها كلمة "الخلط" وأخذت تطاردنى بصوت عبد الوهاب:
إلام الخلط بينكم إلاما
وهذى الضجة الكبرى علاما؟
وليسامحنى العظيمان شوقى وعبد الوهاب، فالعبث يولد العبث، خاصة عندما يجرى الإعلام كله وراء تهمة لم ترتكبها النقابة وسبب لم يذكر فى قرارها، إنما هى السخونة المبتغاة لتحقيق ملايين المشاهدات، بعدما دخل على الخط صاحب الملايين والمليارات "الباشمهندس ساويرس" مدافعا عن الابتذال ومصوراً لنفسه وللإعلام أنها "النفسنة" ومنع الحريات، وهو خلط مستغرب من رجل أعمال اشتهر بالدقة والوعى وتقدير المواهب والكفاءات الحقيقية، بل إنه فى كل مشروعاته لا يختار إلا الأكفأ والأميز، وخاصة فيمن يتعامل مع الجمهور.
إلا أنه فى ذات الوقت ينكر على نقابة تتعامل مباشرة مع وجدان الناس أن ترفض أصواتا لا تملك مجرد "أذن موسيقية" ولا تميز بين نغمة وأخرى، وهو ما يجعلنى أسأله: هل يمكن أن تقبل فى أحد مشروعاتك مهندس ديكور لا يعرف الفرق بين لون وآخر؟ أو يمكن أن تستعين بعامل نقاشة عنده "عمى ألوان"؟.. وهل استعنت يوماً فى شركة المحمول بموظفة "كول سنتر" لا تجيد الكلام؟.. أو استعنت فى قناتك الفضائية -التى كانت- بمذيعة لديها مشكلة فى حرف واحد من حروف الأبجدية الثمانية والعشرين؟.. بالطبع لا، لأنك كما قلت رجل مميز ولا تختار إلا المميز، وكنت أتمنى أن تدرك أن مشكلة مثل عدم التمييز بين نغمة وأخرى أو عدم القدرة على الانتقال بين درجة موسيقية وأخرى هى مشكلة لا تقل عما ذكرت من مشكلات، ولا تمكن صاحبها من التناغم مع الفرقة الموسيقية التى ستصاحبة، ولن تسفر إلا عن نشاز يتلوه نشاز، والأولى له أن ينتظر حتى يتغلب على هذه المشكلات أو تلك العيوب ثم يتقدم للإمتحان مرة أخري، أو يترك المهنة لمن وهبهم الله قدرات حقيقية لم يهبه إياها.
والشىء نفسه أقوله للإعلام الذى يتعامل باستهانة وسطحية فى هذه الأمور التى تمس الفن الأخطر تأثيراً والأسرع انتشاراً وهو فن الأغنية، وأستغرب أن تشارك برامج كبيرة ومذيعين كبارا فى هذا الخلط المرعب، وأن يشارك نقاد باستدلالات لا تصح، فعند الكلام عن تأثير التدنى فى الغناء على المجتمع لا يصح أن نقيسه بتأثير أفلام المقاولات، لأن أحدا لن يردد فيلماً سينمائياً وهو يمشى فى الشارع أو وهو يقود سيارته، ولن تجد نفسك تردد مسلسلاً وأنت فى مكتبك، ولن يحاصر أذنك منه سوى أغنية البداية والنهاية، والمسرح شأنه شأن السينما نحن نذهب إليه لنراه مرة واحدة، أما الأغنية فهى تأتى إلينا وتطاردنا فى الشارع وفى المواصلات وفى المقاهى وفى الملاهى وفى الشواطى وفى الكليبات، لذا فإن القياس هنا يكون غير صحيح وغير دقيق، وهكذا المساواة بين حرية الإبداع وحرية الإبتذال خاطئة، بعدما رأينا أحدهم على المسرح يغنى سبابا مثل "يا لوّاط يا ابن اللوّاط" ويرددها الجمهور وراءه على الملأ.
لذا كان منصفا- بعد أنا جانبكم الإنصاف- أن تأتى اللطمة سريعاً بشهادة شاهد من أهلها هو المطرب عمر كمال الذى اعترف فى برنامج الحكاية -فى أوج الأزمة- أن هناك مهرجانات بها ألفاظ خارجة تؤذيه وتجرح مشاعره، فيقفل الباب على كل المدافعين عن الابتذال بعد أن قدم نموذجاً جيداً لأغنية مهرجانات لا تخلو من طرب مع المطرب الشعبى الكبير عبد الباسط حمودة، إلى جانب أشكال أخرى من الغناء الشعبى الذى أراه الفن الوحيد الذى يستطيع أن يقف فى وجه هذه الهجمة إن وجد الاهتمام الذى يستحق، وهو ما بدا فى هذه السهرة التى كانت النقطة المضيئة الوحيدة فى التعامل مع الأزمة حين طرحت الوجه البديل وقدمت الدليل على أن الذوق العام لازال يميل للصوت الجيد والغناء الجيد فى سهرة كانت من أحلى سهرات البرنامج، إلى أن جاءت نقطة مضيئة أخرى فى موقف جمعية المؤلفين والملحنين وإعلان جهوزيتها لتشكيل حائط صد حقيقى مع النقابة والرقابة لمحاصرة الابتذال مع الحفاظ على حرية الإبداع ليزداد الدعم الشعبى لهذا الموقف.