حظيت شبكات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة بأهمية كبيرة نظراً لما حققته من انتشار عالمي واسع، خاصة في ظل ما تشهده صناعة الإعلام من تطورات تكنولوجية ضخمة، وتزايد عدد مستخدمي هذه الشبكات بشكل مطرد، وتحولها من مجرد وسيلة للترفيه وتبادل الصداقات بين الأفراد، إلى ساحة للصراعات والحروب الفكرية والأيدلوجية فيما أصبح يسمى بحروب الجيل الخامس Fifth Generation Wars .
تلك الحروب التي استبدلت فيها أدوات القتال والأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات والبوارج الحربية بوسائل أخرى ليست أقل خطورة منها تمثلت في الكلمة والصوت والصورة والصفحات والهاشتاجات وبرامج التجسس واختراق الخصوصية، والتي وظفت للسيطرة على عقول وأفكار النشء والشباب وتأليبهم على مجتمعاتهم.
ونتيجة لهذه التطورات ظهرت مصطلحات الجيوش الإلكترونية والذباب والنحل الإلكتروني والريبوتات والمقاتلين الإلكترونيين والتظاهرات الإلكترونية وحروب الهاشتاجات، وذلك فيما يمكن أن نطلق عليه تسليح مواقع التواصل الاجتماعي لمهاجمة الآخرين أو محاولات صد الهجوم والدفاع عن النفس، وبذلك تحول جانب كبير من النشاط الإلكتروني لهذه الشبكات من تحقيق التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب إلكترونية بين الدول وبعضها البعض أو بين الدول وبعض الجماعات والمنظمات الإرهابية التي سعت لتوظيف منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي لتحقيق أهدافها التخريبية.
ونتيجة لذلك، ظهر نوعان من الخطابات على صفحات التواصل الاجتماعي، أولهما: خطاب معادي يسعى للنيل من الدول واستهداف أمنها واستقرارها وله أبعاده ومآربه المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والمجتمعية، ثانيهما: الخطاب الذي تبنته الدول في مواجهة هذا الخطاب المعادي من خلال تفنيد الأكاذيب ودحض الشائعات وتقديم الحقائق للجمهور.
وبين هذا وذاك تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة لحروب التصورات Perceptions والمعلومات Information أو ما يطلق عليه حروب الجيل الخامس 5GW وذلك بعد أن تخطت مراحل الجيل الرابع من الحروب؛ بما تميّز به من خصائص مثل: تغيّر طبيعة الخصوم، والأهداف، والأسلحة، والفاعلين الرئيسيين في هذه الحرب؛ حيث لا تستهدف هذه الحرب تحقيق نصر عسكري بقدر تحقيق نصر سياسي معنوي، يستهدف كسر الإرادة، ورفع تكلفة الخصم باستمراره في صد هذه الهجمات.
وفي ظل الانتشار الكبير والمؤثر لهذه الشبكات في جميع دول العالم ومن بينها مصر والمملكة العربية السعودية، فإن هذه الدراسة تستهدف رصد وتحليل وتفسير اتجاهات النخبة المصرية والسعودية نحو آليات مواجهة الخطاب المعادي لمصر والمملكة العربية السعودية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال الوقوف على مدى تعرض النخبة للمحتوى المواجه للخطاب المعادي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ودوافع هذا التعرض، والصفحات التي تواجه هذا الخطاب في مصر والسعودية، والقضايا التي يركز عليها، ونوع الصراع الذي يرتكز عليه المحتوى المتعلق بالرد على الخطاب المعادي، وآليات واستراتيجيات الرد على الخطاب المعادي، وتقييم النخبة لمدى فعالية هذه الآليات، ومقترحاتهم لتطويرها، وذلك في إطار مفهوم حروب الجيل الخامس 5GW.
في هذا الإطار، جاءت الدراسة المهمة التي أجراها د. أيمن بريك أستاذ الصحافة المساعد بكلية الإعلام جامعة الأزهر ود. إيمان محمد مدرس الإعلام بجامعة الأزهر بعنوان: " اتجاهات النخبة نحو آليات مواجهة الخطاب المعادي لمصر والسعودية عبر شبكات التواصل الاجتماعي: دراسة تقييمية في إطار مفهوم حروب الجيل الخامس"، والتي استهدفت رصد وتحليل وتفسير اتجاهات النخبة المصرية والسعودية نحو آليات مواجهة الخطاب المعادي لمصر والمملكة العربية السعودية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال الوقوف على مدى تعرض النخبة للمحتوى المواجه للخطاب المعادي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ودوافع هذا التعرض، والصفحات التي تواجه هذا الخطاب في مصر والسعودية، والقضايا التي يركز عليها، ونوع الصراع الذي يرتكز عليه المحتوى المتعلق بالرد على الخطاب المعادي، وآليات واستراتيجيات الرد على الخطاب المعادي، وتقييم النخبة لمدى فعالية هذه الآليات، ومقترحاتهم لتطويرها، وذلك في إطار مفهوم حروب الجيل الخامس 5GW.
وترجع أهمية الدراسة إلى مجموعة من العوامل أهمها تصاعد موجة الهجمات الإعلامية التي تتعرض لها كل من مصر والمملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة، أهمية وخطورة مواقع التواصل الاجتماعي خاصة في إطار بروز ما يسمى بحروب الجيل الخامس، والجهود التي تبذلها الدول والمؤسسات الرسمية والشعبية في مصر والمملكة لمواجهة الخطابات المعادية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأهمية تقييم الآليات والاستراتيجيات الرسمية والشعبية لمواجهة للخطاب المعادي من قبل النخبة، والتعرف على مقترحاتهم لتطويرها.
وقد تمثل مجتمع الدراسة في النخبة الأكاديمية والصحفية المصرية والسعودية؛ حيث تم إجراء الدراسة على 100 مبحوثًا من النخبة المصرية والسعودية الأكاديمية والصحفية، والتي تم تقسيمها كالتالي: (50 مفردة من العاملين في المجال الصحفي، 50 مفردة من أساتذة الإعلام المتخصصين في مجال الصحافة الإلكترونية والإعلام الجديد من جامعات الأزهر والقاهرة والمنيا وطنطا في مصر، والإمام محمد بن سعود الإسلامية وجازان والملك عبد العزيز والملك فيصل بالمملكة العربية السعودية ) موزعة بالتساوي بين النخبة المصرية والسعودية.
أشارت نتائج الدراسة أن الاستخدام بشكل دائم جاء في المرتبة الأولى من حيث مستوى استخدام النخبة المصرية والسعودية عينة الدراسة لمواقع التواصل الاجتماعي وذلك بنسبة 83%، يليها أحياناً بنسبة 10%، وأخيراً نادرا بنسبة 7%، ولعل ارتفاع معدلات استخدام النخبة لمواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها وتنوعها ما بين مصرية وسعودية يشير بقوة إلى حجم الانتشار والاهتمام الكبير الذي أصبحت تحظى به مواقع التواصل الاجتماعي، وأن استخدام هذا الوسيط الإعلامي الجديد لا يقتصر على فئة الشباب أو المستخدمين العاديين فقط، بل أيضا أصبح أيضاً مصدراً مهماً بالنسبة للنخبة.
وأوضحت الدراسة أن "تويتر" جاء في مقدمة مواقع التواصل الاجتماعي التي يحرص النخبة على متابعتها وذلك بنسبة 83%، يليه يوتيوب بنسبة 79 %، ثم فيس بوك بنسبة 74 %، فإنستجرام بنسبة 68 %، يليه سناب شات بنسبة 56 %، ثم تليجرام بنسبة 38 %، فلينكد إن بنسبة 25 %، وأخيراً فئة أخرى بنسبة 13 % وشملت تطبيقات ومنصات أخرى مثل واتس آب وسيجنال وغيرها، ولعل ارتفاع معدلات استخدام منصات التواصل الاجتماعي بشكل عام يشير بقوة إلى مدى حرص النخبة على استخدام هذه المنصات، كما يؤكد بوضوح الأهمية التي أصبحت تحظى بها منصات التواصل الاجتماعي كمنصات للتواصل والتفاعل وكذلك كمنصات إعلامية لتبادل الأخبار والمعلومات.
ومن الواضح تقدم استخدام النخبة المصرية فيما يتعلق بفيس بوك والذي جاء استخدامه بنسبة 100 % وهو الموقع الأكثر استخدامًا في مصر، فيما تقدمت النخبة السعودية في استخدام مواقع تويتر وسناب شات ويوتيوب وإنستجرام وهي المنصات الأكثر استخداماً في المملكة العربية السعودية.
وذكرت الدراسة أنه يوجد إجماع من قبل النخبة المصرية والسعودية عينة الدراسة حول وجود خطابات معادية لكلٍ من مصر والسعودية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولعل هذا يشير إلى أي مدى أصبحت صفحات التواصل الاجتماعي منصة للخطابات المعادية والحروب والحروب المضادة، وهو ما أصبح يطلق عليه مصطلحات عدة مثل: التجييش الإلكتروني، وحروب الجيل الخامس، والحروب الهجينة، وحروب الهاشتاجات، وغيرها من المصطلحات التي أصبحت تصف ما أصبحت عليه مواقع التواصل الاجتماعي من ساحات للحروب الإلكترونية، ليس فقط بين الدول بعضها البعض، ولكن أيضًا بين الدول وبعض الجماعات، وكذلك بين الجماعات بعضها البعض.
وتشير النتائج السابقة إلى خطورة ما يمكن أن تشهده مواقع التواصل الاجتماعي من حروب إلكترونية، خاصةً وأن التقييم هنا جاء من قبل نخبة أكاديمية ومهنية إعلامية مختصة، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول ضرورة دراسة أساليب وتكتيكات هذه الحروب الإلكترونية وآليات مواجهتها، كما تشير النتيجة السابقة أيضاً إلى وعي النخبة بوجود مثل هذه الخطابات المعادية والتي يجب التصدي لها بكل قوة وحسم.
ونستكمل الأسبوع القادم استعراض نتائج هذه الدراسة المهمة.