د. هبة سعد الدين,
دوما كانت مقولة "الجمهور عايز كده" ذريعة لعرض كل قبيح ومنعدم الإبداع؛ وعادةً ما يرد الجمهور بصورة عملية بأرقام المشاهدة والأموال التى يحصدها العمل المميز، وكأنها الرسالة المباشرة التى تكذب تلك المقولة وتؤكد عطش الجمهور لكل جميل.
منذ سنوات كانت بعض الأعمال المقدمة لا ترقى بأى صورة لتمثل الفن المصري الذى سبق الأمم بآلاف السنين، ثم يظهر فيلم "الممر" لشريف عرفه الذى جاء بلحظة انكسار وهزيمة لم يستسلم لها الجيش الذى تعرض لذلك؛ ليحصد الملايين ويحدد إقامة الجمهور فى بيوتهم لحظة إذاعته فى إحدى القنوات التليفزيونية.
وهكذا جاء مسلسل "الاختيار" بجزئه الأول للكاتب باهر دويدار والمخرج بيتر ميمى؛ ليشهد ذات النجاح الجماهيرى رغم أن قصته بصورة ما غير جاذبة للمشاهدة منذ الوهلة الأولى، فالسير الذاتية بطبيعتها المعتادة ليست محل النجاح الجماهيرى، وليتوالى النجاح مع الاختيار الثانى للكاتب هانى سرحان والمخرج بيتر ميمى، رغم أننا هذه المرة على موعد مع واقع قريب عايشناه وتألمنا منه؛ لذلك من يريد موعداً يومياً مع واقع مؤلم؟.
ولكن ها هو الاختيار يصبح مطلباً جماهيرياً فى رمضان؛ نظراً لعامل الإتقان الذى قدمه كما فعل فيلم "الممر" وتبع تلك الأعمال أخرى راهنت على ذلك الجمهور؛ لتظهر حالة من المباريات الفنية التى يفوز فيها الجمهور.
ومنذ شهور قليلة كانت احتفالية "نقل المومياوات" التى تبعها منذ أيام احتفالية "طريق الكباش" لتخطف الآذان بكلمات غير مفهومة تعود لأجدادنا القدماء، وتعيد إلينا مشاهد العراقة المهيبة التى أبهرت الجميع.
المفارقة أن تلك الاحتفالية تأتى فى وقت تشهد فيه الساحة الفنية والسوشيالية حرباً ضروس يتبارى فيها طرفان؛ مابين منع من يطلق عليهم مطربو المهرجانات أو تركهم ليدمروا الذوق المصرى، وبين هذا وذاك اختلف الأسانيد؛ لتأتى السوشيال ميديا بحالات السخرية المعتادة وكان أكثرها ما جعل راكبى "المكروباص" يطلبون الاستماع إلى موسيقى موتزارت وتشايكوفسكي !.
تتعاظم السخرية والمسافة ما بين الميكروباص وتلك النوعية من الموسيقى؛ فالمكروباص "صورة" مصغرة ومركزة للقبح؛ ليس لسماع موسيقى المهرجانات بداخله؛ بل لأنه نموذج متكامل للانفلات السلوكى فى كل شيء واتباع مفهوم "افعل ما تريد" السائد فى شارعنا: قف وسط الطريق، اكسر الإشارات، تجاوز كافة قواعد القيادة إن كنت تعرفها، احصل على "الزبون" بأى ثمن، انت وحدك صاحب الطريق والحق ولا يوجد سواك!.
ولكن تلك "الخناقة" وسط إطلالة "الاحتفالية" ورصيد تلك الأعمال يطرح أن الحل "البديل" المصرى بكل ما تعنيه تلك الكلمة من بريق الجمال والرهان عليه والفوز كما حدث فى كل الأعمال التى كان الرهان عليها خاسراً !.
فمن ذا الذى يشاهد قصة حياة ضابط أو يعود بالذاكرة لفترات الألم القاتل فى تاريخ بلاده أو يستمتع بالات واستعراضات تعود لآلاف السنين وكلمات لا يعرف ماذا تعنى ؟.
ولكن كل تلك التحديات فازت بالرهان، وطرحت ببساطة الطريق لعودة الوعى والوصول إلى الجماهير والمواطنين الذين غابوا منذ الخمسينيات والستينيات فى الشوارع والحفلات، فهذا هو الحل بعيداً عن "خناقات" السوشيال ميديا التى لا تثمن ولا تغنى من جوع.