رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جيشنا وعبقرية الزمان: الثانية وخمس دقائق بعد الظهر

14-6-2017 | 12:32


من ذكرياتى عن السادس من أكتوبر ١٩٧٣ أننى كنت مجنداً بالقوات المسلحة. وعندما وصلنا إلى أكتوبر ١٩٧٣ كانت قد مرت سنوات على استبقائى بالخدمة. يوم الخميس الرابع من أكتوبر تم تسريح عدد من المستبقين – عرفت فيما بعد أن ذلك كان ضمن خطة الخداع الاستراتيجى الكبرى للتمويه على العدو – وتم استدعاء من سُرِحوا صباح الأحد ليستكملوا مهمتهم.

يوم السبت فوجئنا بالعبور العظيم. بعد أن كنا نعبر بالنظرات إلى أرضنا المحتلة. ذهبت إلى دار الهلال أريد المشاركة بأى شكل. أحضرت أرشيف جيشنا العظيم وجلست أقرأ. واستخرجت عبارات نشرناها يوم الخميس التالى كلها تتحدث عن بسالة المقاتل المصرى وتفرده بين المقاتلين فى الدنيا كلها.

فما هى حكاية المصريين مع الخمس دقائق الأولى بعد الثانية من بعد الظهر، حتى يتكرر هذا التاريخ أكثر من مرة؟ وفى كل مرة يسطر سطوراً مضيئة فى تاريخ هذا الوطن، وليس تاريخ قواتنا المسلحة فقط. وهل هناك أى فارق بين الوطن ومن يحمون الوطن؟ ومن يوفرون له الأمن والأمان؟ ومن يمكنون المدنيين من الإبداع اليومى وهم آمنون على حياتهم وممتلكاتهم ووجودهم؟ إنه جيشنا العظيم.

تكرر هذا التوقيت ثلاث مرات فى الفترة الأخيرة. مما استوقفنى وجعلنى أتمعن فى اختياره. لو أن الأمر تم مرة واحدة لاحتميت بصدف التاريخ وقلت إن الأمر لم يخرج عن كونه صدفة. ونحن نعرف جميعاً لأننا بشر لنا تاريخ نتمعن فيه كثيراً أن الصدفة جزء أساسى من حياتنا. سواء كانت صدفاً حسنة أو حتى صدفاً سيئة.

الصدفة التى تكررت مؤخراً حول الثانية بعد الظهر وخمس دقائق أو خمس دقائق بعد الثانية ظهراً. أن افتتاح قناة السويس الجديدة فى منطقة القناة تم فى هذا الوقت. وقبله حلَّقت طائرات الرافال الفرنسية فى سماء القاهرة ورأتها الجماهير وحيتها ومن كانوا يقودون الطائرات من نسور الجو المصريين رأوا الأهرامات والنيل ومعالم القاهرة الكبرى. تم هذا كله فى الثانية وخمس دقائق بعد الظهر.

بعد ذلك بأيام جاءت الطائرات الـ إف ١٦ من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حلَّقت فى تشكيلات أكبر عدداً من الرافال الفرنسية فى سماء القاهرة فى الثانية وخمس دقائق من بعد الظهر. وصوَّرتها الجماهير مستخدمة تصوير الموبايل الذى جعل من التصوير معجزة كل يوم وفى يد الجميع. وقامت الطائرات يقودها نسور الجو المصريون فى سماء القاهرة بتشكيلات جميلة وبديعة أكدت لنا صدق المقولة التى تقول إن مصر بلد الأمن والأمان. لأن لها جيشا يحميها. يحمى أرضها. يحمى سماءها. يحمى بحارها. يحمى استقرارها.

أعترف أننى احترت طويلاً فى اختيار هذا التوقيت والتصميم عليه. وبعد الحيرة الطويلة كان لا بد أن يهتدى الإنسان إلى ما ينهى حيرته. لقد توقفت أمام الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر سنة ١٩٧٣. الذى يوافق العاشر من رمضان من ذلك العام.

فى هذه اللحظة انطلق البيان رقم ١ من الإذاعة المصرية ليعلن بدء العمليات العسكرية التى قام بها الجيش المصرى رداً على ما يقوم به العدو الإسرائيلى من استفزازات ومناوشات وعمليات عسكرية.

كنا فى رمضان. وهذا الوقت كان ذروة الزحام. فمن يصومون فى رمضان يحرصون أن يكونوا فى بيوتهم قبل الإفطار بوقت كافٍ. سمعت البيان عندما كنت فى ميدان التحرير. وكان موقفاً للأتوبيسات حمراء اللون التى تنطلق بالركاب من الميدان إلى كل مكان فى القاهرة المترامية الأطراف.

ما زال يرن فى أذنى عبارات: الله أكبر، وما النصر إلا من عند الله، حفظ الله لمصر جيشها، نصر جيش مصر مؤكد لأننا ندافع عن حق ولا نعتدى على أحد ونطهر أراضينا من دنس الاحتلال الصهيونى. وهو واجب وطنى مفروض على كل من يحب وطنه ومن يحترم فكرة المواطنة ومن يعتبر أن الدفاع عن الوطن فريضة لا تقل أهمية عن الفرائض التى يفرضها الدين على كل مؤمن.

إذن هناك فلسفة فى الاختيار. والأمر يقف وراءه تفكير عميق. فالهدف من الاختيار تذكير المصريين بلحظة عز ومجد مضت من تاريخهم ويجب أن تظل حاضرة فى الوجدان المصرى حتى آخر لحظة فى تاريخ هذا الوطن. ومصر التى اخترعت الأبدية وأبدعت الأهرامات لتقاوم النسيان وتُذكِّر الجميع بأمجادها التى مضت باعتبار أن هذه الأمجاد يمكن أن تكون نواة تكرارها. فمن صنعوا المعجزات فى فجر التاريخ قادرون على أن يستمروا فى إبداعها ما دام فى عروقهم دم ينبض.

على أن ما يجمع بين الأمرين أكثر أهمية من هذا. كانت حرب السادس من أكتوبر إبداعاً مصرياً خالصاً. أثبت فيه الجندى المصرى - مع مساعدات من الأشقاء العرب – إثبات أن محاولات تصدير اليأس لنا من خصومنا لا يمكن أن تستمر. وأن تفرض قوانينها علينا لأن الشعب الذى اخترع الضمير وأهداه للبشرية لا يمكن أن يهان ولا يمكن أن تكسره أى قوة على الأرض.

كانت حرب السادس من أكتوبر بالتخطيط المحكم والدقيق وخطة الخداع الإستراتيجى التى لم تمكن أحداً – الأعداء قبل الأصدقاء – يستطيع أن يُخمِّن موعد الضربة الجوية الأولى ثم التفاف الشعب حول جيشه. لدرجة أن الدنيا كلها قالت إن المصريين يحاربون عدوهم. فى المقدمة جيش مصر الذى كان وسيبقى جزءاً من الوجدان المصرى. وحول جيش مصر الشعب المصرى كله.

لقد تحققت مقولة:

- عندما يصير الكل فى واحد.

لم يعد ثمة مصرى. ولكن جموع المصريين. لم يعد لدينا أفراد. ولكن الجماهير الغفيرة التى تدون تاريخها بحب وفداء وقدرة فريدة على نسيان الذات تجلت فى المصريين فى كل الأوقات الصعبة والعصيبة.

أما شق القناة الجديدة فى هذا الوقت القياسى. حيث اختصرت السنوات الخمس إلى سنوات ثلاث. ثم جرى اختصار الثلاث سنوات إلى سنة واحدة. ثم زحف المصريون إلى منطقة القناة. كل إنسان يريد أن يحصل على فرصة للمشاركة فى الحدث التاريخى العظيم.

وعندما تقرر أن يكون التمويل مصرياً مائة فى المائة. زحف المصريون إلى البنوك ليودعوا ٦٤ مليار جنيه مصرى – عداً ونقداً – فى أيام معدودة. خاصم المصريون اليأس والإحباط. ورمى كل واحد منهم وراء ظهره عبارة: وأنا مالى. ومرة أخرى ولن تكون الأخيرة أبداً قال كل واحد:

- عندما يصير الكل فى واحد.

ما من مشروع عظيم فى تاريخ هذا الوطن منذ ما قبل الميلاد وحتى الآن. إلا وكان لقوات مصر المسلحة دورٌ جوهرىٌ فيه. بل ربما كانت هى المبدع وهى الحالم بالمشروع. والمنفذ له. ثم والحامى لكل ذرة فيه بعد أن يخرج إلى الوجود.

لا أعرف سر اختيار الثانية وخمس دقائق من بعد الظهر. وسيظل هذا السر لدى الرئيس عبد الفتاح السيسى. القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولكن لدىَّ يقين أن كلمة السر أن هذه اللحظة شهدت ميلاد مصر الأول فى أكتوبر ١٩٧٣. وها هى تشهد ميلادا جديدا لمصر فى السادس من أغسطس سنة ٢٠١٥.

إن عبقرية هذا الجيش تجعلنا نفتش عما قاله عنه من حاربهم. وقديماً قالوا: والصدق ما شهدت به الأعداء.

جيشنا فى عيون أعدائه

عدت بعد كل هذه السنوات لنفس الفكرة. ورحت أقلب فى أوراقى وكتبى ومجلاتى بحثاً عما قيل عن الجيش المصرى. الجديد هذه المرة ما قاله الأعداء عن الأداء العظيم للجيش المصرى فى أكتوبر ١٩٧٣.

قال نابليون بونابرت بعد حضوره إلى مصر فى حملته الشهيرة. وفى أعقاب معاركه مع المقاتلين الذين دافعوا عن بلادهم ببسالة وشرف:

- لو كان عندي نصف هذا الجيش المصري لغزوت العالم.

قال الجنرال الإسرائيلىبوفر:

- يوم السبت السادس من أكتوبر ١٩٧٣م اتصلوا بى وطلبوا منى التوجه لقيادة شبيبة الطلائع المحاربة ففوجئت خاصة أنه تم تسريحى قبل أسبوع فقط، وفى المرحلة الأولى ساعدت المجندين، وعندما أدركوا أن هناك ضحايا ومئات المفقودين وأننا لا نسيطر على الأمور عينونى ضابط تتبع للمفقودين بالقيادة، وعملت لمدة أسبوع فى ذلك وكان أصعب أسبوع فى حياتى، وكان أصعب شئ عندما وجدت فى موقع تجميع القتلى زميلى بالدراسة قتيلاً فعدت إلى القيادة وقلت: إننى غير مستعد للاستمرار فى التتبع وأريد أن أكون فى المقدمة مع المقاتلين، وتقرر تشكيل كتيبة من طلائع الشبيبة وتطوعت لأكون مساعد قائد الكتيبة، وعلى ضفاف القناة ساعدت القائد وقابلت هناك عقيداً يبحث يائساً عن ابنه الذى كان داخل دبابة وسقطت فى المياه تجولت مع الأب لمدة ٤٨ ساعة ولم أستطع مساعدته، وقابلت كثيراً جداً من الرجال المذهولين، ورأيت قادة بوجوه هزيلة، وجنوداً فقدوا أبصارهم.

وقال الدكتور كلوت بك الطبيب الفرنسي الذى جاء مع الحملة الفرنسية إلى مصر ووقع فى غرام مصر واستمر بها. إنه مؤسس مستشفى قصر العينى. وكان موجوداً عندما قرر محمد على باشا تجنيد المصريين. فى النصف الأول من القرن التاسع عشر:

- ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خير الجنود لأنهم يمتازون بقوة الأجسام وتناسق الأعضاء والقناعة والقدرة علي العمل واحتمال المشقة ومن أخص صفاتهم العسكرية الامتثال للأوامر العسكرية والشجاعة والثبات عند الخطر والتذرع بالصبر في مواجهة الخطوب والمحن.

أما عساف ياجورى أشهر أسير فى حرب السادس من أكتوبر. قائد اللواء ١٩٠ مدرع الإسرائيلى، فقد قال:

- إن خط بارليف أصعب من خط ماجينو الفرنسى فكيف اخترقه المصريون. إن المصريين كانوا يركضون نحو دباباتنا دون وجل ، وكانوا يتسلقونها ويقتلون أطقمها بالقنابل اليدوية والصواريخ .

جريدة « نيويورك تايمز كتبت:

- معظم الحصون محاصرة وعليها أن تصمد بمفردها دون أى معاونة .. إنها يمكنها أن تتلقى بعض المعاونة من سلاح المدفعية أو نقاط الطائرات .. أصبحت الحصون نقاط ملاحظة وفقدت إدارة النيران ، وفى الليل أقام المصريون مزيداً من الكبارى .. إن أفراد سلاح المهندسين المصرى يقومون بعمل جيد للغاية ويستخدمون معدات سوفيتية ، وكذلك من الإنتاج المحلى ، وهناك مضخات من الإنتاج الإنجليزى وتمت إقامة عدد «١١ كوبرى» معظمها فى القطاع الأوسط والقطاع الجنوبى ، إن المصريين يصعبون المهمة على الطيارين الإسرائيليين بستائر الدخان التى يطلقونها كذلك يقيمون بعض الكبارى الوهمية ، ويستغل أفراد المهندسين المصريين فترات التوقف عن القصف ويلقون فى الماء المعديات الحديدية ويستبدلون الأجزاء التالفة من الكبارى ، وكلما زادت الإصابة يقومون بفك جزء من الكوبرى ليتم ربطه بالضفة الشرقية فيأتى الطيار الإسرائيلى فيصطاده الدفاع الجوى المصرى .. إنها حرب خاسرة .

العدو الإسرائيلى مناحم بيجين قال عن الجيش المصرى:

- لم يتصور أحد فى إسرائيل أن المصريين يمكنهم القيام بمثل هذه العملية العسكرية ، ولا يسعنا الآن سوى أن نصاب بالذهول والوجوم لأننا جميعاً وقعنا فى هذا الوهم الهش الذى كان بعيداً كل البعد عن الواقع .

أما العدو الصهيونى موشى ديان فقد قال يوم ١٤/١٠/١٩٧٣:

- إن حرب الشرق الأوسط حطمت أسطورة أن الجيش الإسرائيلى لا يمكن مقاومته ، وأن الأرض التى احتلتها إسرائيل عام ١٩٦٧م لم تعد تشكل ضماناً لأمنها .

والعدو الإسرائيلى إرييل شارون قال عن الجيش المصرى:

- برهن المصريون على مقدرة جنودهم على القتال وقدرة ضباطهم على القيادة وقدرتهم على استخدام أحدث الأسلحة.

لن نكتفى بالتاريخ القريب. فجيش مصر قادر على إبهار الدنيا بما يقوم به. ليس فى ميادين القتال فقط. وليس فى الحفاظ على مستوى قتالى عالٍ. ولا يقظته فى حراسة أرض الوطن. لكن قوات مصر المسلحة كانت جزءاً أصيلاً من تحديث الحياة وتطويرها. ولا يمكن أن تذهب لمكانٍ فى أرض مصر: شمالها، أو جنوبها، شرقها أو غربها. إلا وتجد مشروعات أقامتها القوات المسلحة فى كل مكان تذهب إليه. طرق، «كبارى»، مزارع، وأجهزة كثيرة تقدم الخدمات اليومية ليس للقوات المسلحة. ولكن لكل مصرى على أرض مصر.

فى يناير ٢٠١١ حمت القوات المسلحة بقيادة المشير محمد حسين طنطاوى ثورة مصر العظيمة. وأدارت أمور مصر فى مرحلة انتقالية حساسة وخطيرة. وخرجت منها عندما نفذت تعهداتها كاملة. وفى ٣٠/٦/٢٠١٣ تقدمت القوات المسلحة بقيادة المشير عبد الفتاح السيسى واستجابت لنداءات المصريين وطلباتهم. وقررت حماية الثورة. وفى الحالتين ٢٥ يناير ٢٠١١، و٣٠/٦/٢٠١٣ أكدت القوات المسلحة أنها جيش الشعب المصرى. تأتمر بأمره. وتنفذ مطالبه. وتقف معه فى الأوقات الصعبة والأزمنة العادية. عندما يأمر الشعب، لا يملك جيشه – جيش الشعب – سوى الامتثال والتنفيذ مهما كانت الصعاب ومهما كانت المشاق.

أبقى الله مصر.

وأبقى الله لمصر جيشها العظيم.