ومثلى كثير مفجوعين، لم أهضم مشهد الحائط القذر فى مسلسل «لا تطفئ الشمس»، ولم أرتح إلى تبريرات صناع العمل، ولم أستسغ حتى المونتاج العاجل وحذف اللقطة، كلها معالجات سطحية لسقطة مهنية قبل أن تكون سياسية، باعتبار حسن الظن مقدمًا على سوء الظن، رغم أن بعض سوء الظن من حسن الفطن.
وأعلم أن حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط، ويستحيل أن نكون على آخر العمر أعداء للفن، أو نصف صفا مع المعادين لحرية الإبداع، ولكن الاعتذار من شيم الكبار، ولطالما اعتذر صناع العمل وحذفوا اللقطة المشينة فلا جناح عليهم.
وعليه يجب أن نكف عن التفتيش فى النوايا، ولعلها تكون غلطة أخيرة، ورغم أن هناك لقطة أخرى فى مسلسل آخر، وحائط آخر قذر مكتوب عليه لفظ خارج وبذيء، ومشهد حوارى مزعج قال به الفنان «أحمد صيام» فى مسلسل «كلبش» لا داعى لتكراره.
شبح المصادرات، الذى يلوح فى الأفق تأسيسا على إسقاط سياسى فج أو حائط لا أخلاقى أو حوار فيه شطط لا يستحيل قيدا على أعمال درامية لونت الشاشة الصغيرة بأفكار مهمة، وتقنيات حديثة، ولوحات مجتمعية، وتحليقًا فى سماء مفتوحة، لا تزر وازرة وزر أخرى، وليس صحيحًا أن السيئة تعم، بل الحسنات يذهبن السيئات، أرجو تحكيم العقل فى حالة التيه، التى ندخلها بأقدامنا.
معلوم، الأخطاء تعلم الشطار، وأهل الفن فى مصر عند حسن الظن، شطار فى توقى استفزاز الجمهور سياسيا وأخلاقيا، يبدعون إبداعًا، واحة الغروب نموذج ومثال على رقى الفن، الفن الراق له صناعه، والحادبون عليه كثر، وهل من مزيد من لوحات فنية تشع بهجة وروعة وتألق، طوبى للمبدعين.
أخشى تمامًا أن تدور ماكينات الرقابة المجتمعية، الرقابة على المصنفات أرحم، وتنفر طواقم محاكم التفتيش الإلكترونية للتنقيب فى زوايا كل مشهد، عن لقطة، أو لفظ، أو صورة على الحائط، تجمد الصورة وتشييرها تشييرا للإدانة، ويقع المبدعين فى شراك البلاغات الجزافية، ويتحول المشاهدين إلى رقباء، الرقابة الشعبية على الفن مثل الميلشيات الشعبية على المعابر.
ألمح انتشارًا مكثفًا لجماعات الانكشارية الفيسبوكية على الفضائيات، تلوم هذا، وتعاقب ذاك، وتبلغ عن هذه، لتحصل على مكافأة المبلغ، قدرها ١٠ فى المئة من قيمة الغرامة، بحسب تسعيرة المجلس الأعلى للإعلام، وحصيلة المشاهدة الرمضانية من ١٨ مايو وحتى ٧ يونيه ٧٠ شكوى، وصلت على رقم الشكاوى فى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
أخشى أن يعلن المجلس لاحقًا فى إطار تطوير خطة العمل، التى تقوم على إعادة تأهيل المبدعين، يعلن عن خط ساخن للإبلاغ عن السقطات الأخلاقية أو الإسقاطات السياسية، أو التفلتات الدرامية على وقتها، فى التو واللحظة، فى ساعته وتاريخه، رقم الشكاوى المستحدث، للأسف وسيلة رخيصة لاتكلف كثيرا، ولا تبلغ غاية نبيلة، رقم يغوى ويغرى الذى فى قلبه مرض من عقورين ليطاردوا المبدعين فى غرف المونتاج!
خطير جدًا تفشى حالة المطاردة العقورة، التى تعد الأنفاس فى صدور المبدعين، هذا يعجز المبدع تمامًا عن إبداعه، ويتحسس رأسه دوما ودائمًا، وعلى طول الخط حتى يخرج العمل إلى النور، أخشى تعقيما قسريا للمسلسلات والأفلام والمسرحيات، هذا يضع المبدعين فى قفص الاتهام ابتداء، ويطرحهم كاللحم المكشوف على قارعة الطريق.
حتما سيتحول المبلغون سريعًا من الإسقاطات السياسية إلى السقطات اللفظية ثم يدلفون إلى السقطات الأخلاقية، وفيه كتف عريان، وفيه بنطلون ملزق، وفيه بنات شربات زى القمرات، وهذا عيب، ثم تتطور الحالة إلى هذا حرام والعياذ بالله، ارجموا السينما، إنها تحض على الفسوق، وتحرض على الرذيلة، وينشط سمير بلاغات الشهير بسمير صبرى، عندما يحاسبون الفن بمنظور الحلال والحرام، قل على الفن السلام، يوطئون لقدم جماعات المحتسبين الجدد مجددًا فى الساحة الفنية.
فاكرين موضة السينما النظيفة فى نهايات القرن الماضى، وكانت بدعة، غرفة النوم بلا سرير، وغرفة المعيشة يرتدون فيها ملابس الخروج، وبين الأزواج ممنوع القبل أمام المشاهدين، وإياك وعبارات الغزل الصريح، والحب ممنوع حتى +١٨، والحبيب يقبل حبيبته من جبينها حتى لا يؤذى مشاعر المسنين.
كانت هوجة وموجة، وخرج علينا طائفة من الممثلين يرفعون لافتات ترفض سينما القبل، وثومة كوكب الشرق هى من غنت وتغنت باستحسان القبلة، لا أعرف موقف هذه الأغنية الآن فى ميثاق المجلس الأعلى للإعلام، إنه كان ميثاقا غليظا يقيد الفن من رجله ويده ويلقيه فى يم المشاهدة تحسبا لأى خروج عن النص.
الفن لا يحاسب هكذا باللقطة، أو بالجملة، أو باللفظ، ولا يضار فنانا بفنه، والإبداع ماؤه الحرية، والحرية لا تعنى أبدا سقوط فى فخ الإنكشارية، ولكنها حرية الفن أن يجلى طاقاته وإبداعاته فى جو من الأكسجين بعيدا عن الغرف المعقمة، وكم من أعمال سينمائية ثورت مجتمعات بصدقها الفنى، وكم طورت أفلام مجتمعات برسالتها، وليس بعيدا عن الأذهان رائعة حسن شاه «أريد حلا»، التى غيرت بها الراحلة الرائعة فاتن حمامة القوانين لصالح المرأة المصرية.
المطلوب فتح مسام المجتمع على إبداعات المبدعين، ونموذج ما أتمناه للفن والإبداع، حلقة الجدل المعتبر حول مسلسل «الجماعة٢»، المبدع وحيد حامد يجسد إبداعه ويعرضه، والناقدون يتصدون بالرفض أو بالقبول، بالرفض المقبول، والقبول المشروط، ويرد على مقالاتهم المبدع، ويتبارزون فى إبراز الحقائق التاريخية، التى شوهها الكتمان طويلا.
فإذا ما جادت قريحة المبدع بما هو صادم، لا يطلب أحدهم مصادرته بل مناقشته، كما جرى فى طرح الدكتور يوسف زيدان عن شخصية صلاح الدين الأيوبى، قال قولته وتولاه قائلون، وحجة بحجة، ودليل بدليل، حتى ينبلج فجر الحقيقة، وما يمكث فى الأرض ينفع الناس.
الحالة الحوارية والجدلية هى ما نرجوه، وليس هناك من هو فوق النقد، ومن ألف مثل كمن أخرج، هو مستهدف بالضرورة، استهدفا حميدا، فلننح البلاغات والشكاوى جانبا ونتفرغ للحوار البناء، الحوار ليس الخوار، الحوار من سمات الإنسان، والخوار قصة أخرى، لماذا نعلى الخوار يصم الآذان على الحوار ينعش العقل.