انتحار هبة.. واغتيال الحلم
بقلم – إيمان رسلان
الباشمهندسة راحت، الباشمهندسة تذاكر الآن، الباشمهندسة هو حلم «هبة على عبدالرحيم»، منذ كانت طفلة، يبدو أن فيلم مراتى مدير عام، تأثرت به هبة ابنة المنوفية وشبين الكوم فاجتهدت فى دراستها جدًا فى الإعدادى، حتى تحصل على مجموع وتدخل الثانوى العام وتحقق حلمها البسيط فى لقب الباشمهندسة ..
هبة تحدت الظروف واجتهدت، حتى لا يكون مصيرها الحصول على الدبلوم الفنى والمكوث فى البيت، انتظارا للعريس وهو (سلو بلدنا) أى البنت تتعلم وتدخل المدرسة وتلتحق بالدبلوم وكفاية تنتظر عدلها، لأن فرص العمل قليلة للجميع، فما بالنا بالبنات.
ولكن هبة التى اقترب عمرها من الثامنة عشرة كان لديها حلم مختلف أن تتفوق وتدخل الجامعة ويمكن تعمل كمان بشهادتها، وأكيد فى السكة هتقابل ابن الحلال ويكونان بيتا سويا، ضغطت على نفسها فى المذاكرة بنفسها، لأن أسرتها «حالها على القد»، «يادوب مستورين بالأكل والشرب واللى جاى على قد اللى رايح، ويمكن كمان آخر الشهر يكملوه بالستر».
هبة التى كان يحلم أبوها أن تدخل ابنته الهندسة، ويصبح أبا للباشمهندسة ساعدها على «أد الأيد» وطبعا فى الريف ليس هناك ملك الفيزياء وإمبراطور الرياضة والحصة أم ١٠٠جنيه للسنتر والمدرسين.
هناك فى ريفنا مدرسون طيبون وفقراء وهم أيضاً، لأن الدولة رفعت يدها عن التعليم وتحسين أحوال المعلم. هؤلاء الطيبون المطحونون كانوا بيروحوا المدرسة المكتظة بالطالبات يشرحون نصف الوقت، لأنه لا بديل عن المجموعة والدرس والحياة تمشى، أليس ذلك هو ما يصدعنا المسئولون بالكلام ليل نهار عن التعليم بأنه سلعة يجب أن يدفع ثمنها إذن فليدفع الطلبة للمدرس ليكمل الشهر وهكذا..
هبة واحدة من ١٨٪ أسعدهم الحظ كما تقول إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء أن لديهم مدرسة ثانوية حكومية فى منطقتها السكنية، وهو ما سهل لها ولأسرتها فى الريف الموافقة على التحاقها بالثانوى العام، رغم معرفة الجميع بأن تكلفة دراسته أعلى من التعليم الفنى علشان الدروس، هبة بكت وأصرت على حلمها وأبوها وافق رغم ضيق ذات اليد.
هبة كانت تبذل مجهودا خرافيا مضاعفا للتحصيل وبالذات فى اللغة الإنجليزية، بتحاول تحفظ الكتاب وشكل الكلمات وقواعد اللغة من الكتاب الخارجى ونماذج الوزارة، وأحيانا امتحانات السنوات السابقة، وكان بيحاول يساعدها بعض المدرسين، يوم الخميس الماضى ذهبت هبة لامتحان اللغة الإنجليزية وهى تدعو الله أن يقف بجانبها، فهذه المادة تخشى منها، ليس لأنها طالبة غير مجتهدة ولكن لأن ظروفها أجبرتها على الالتحاق بالتعليم الحكومى وليس اللغات، كانت تعلم فى قرارة نفسها أن فرص طلاب اللغات أفضل، لأنهم بيدرسوا كل المواد باللغات من صغرهم وأن مادة الإنجليزى الحكومى هى مادة تحسين المجموع لهولاء الطلاب والطالبات وليس هناك أى تكافؤ فرص بينهما، استسلمت هبة للأمر الواقع ودخلت الامتحان ونظرت فى ورقة الأسئلة بالكاد عرفت أشياء منها حاولت وحاولت، ولكنها شعرت بالهزيمة الامتحان لا يقيس ما عرفته فى التعليم الحكومى، وإنما الامتحان لصالح طلاب اللغات، ده حتى الامتحان له ألغاز وأسئلة مثل الموجودة فى برامج المسابقات الرمضانية ولا علاقة لها بتحصيل اللغة، هبة حاولت قدر استطاعتها الإجابة وفى قرارة نفسها تمنت أن يكون هناك شاومينج يساعدها، لأنها تشعر بعدم المساواة مع طلاب اللغات الذين وضع الامتحان لمصلحتهم.
هبة خرجت من الامتحان محبطة ولكن مازال حلمها بالهندسة مستمرا، عادت لتذاكر الفيزياء يمكن تعوض فارق الدرجات، خاصة أن وزارة التعليم أعلنت أنها اتخذت قرارا بعمل عينة تصحيح عشوائية فى الإنجليزى، وبناء عليه سيتخذ القرار.
وقبل أن تنام هبة يوم السبت الماضى عشية امتحان الرعب الفيزياء. أعلنت الوزارة أن نتيجة تصحيح العينة جاءت نسبتها أقل من السنوات السابقة يعنى ٧٩٪ فقط نجحوا طبعا قالت فى عقلها الباطن يا رب أكون منهم ولكنها قالت أكيد أغلبهم من مدارس اللغات يعنى ٥٠٪ وأقل من مدارس الحكومة هم فقط من الناجحين، استعاذت من الشيطان والوسواس، ودعت الله أن يقف معها ومع المطحونين فى التعليم الحكومى، وتسأل: لماذا لم يكن المسئولون على درجة من الإنسانية ويؤجلون إعلان نتائج تصحيح العينة لبعد انتهاء الامتحان، حتى لا يزيد توتر الطلاب وأسرهم، وهل هناك مسئول واحد لديه أبناء فى التعليم الحكومى حتى يشعروا بها؟!
ويوم الأحد الماضى ذهبت هبة إلى لجنة الامتحان وهى تحاول أن تتماسك وتدعو الله أن يكون الامتحان مفهوما على قدر مستوى التدريس بالمدارس، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن عاندها واضعو الامتحان، ووضعوا أسئلة تناسب المستوى العلمى لطلاب الماجستير والدكتوراه أو كما وصفه الطلاب امتحانًا انتقاميًا.
خرجت هبة من اللجنة وهى تكتم دموعها وعلى الباب وجدت المئات من الأمهات والآباء الثكالى يبكون جميعا ويدعون على التعليم والمسئولين وواضعى الامتحان وكل حاجة فى حياتهم.. لم تجد هبة والداها معهم، فهو لا يستطيع مغادرة عمله وإلا سيفقد وظيفته ولا يجدون قوت يومهم.
مشاعر اليأس والإحباط تملكتها ها هو حلمها يتبخر فى الحصول على لقب الباشمهندسة، وحتى دخول الجامعة نفسه أصبح بعيدا جدا بعد كل هذا التعب والمجهود وطبعا حلم الالتحاق بالمعاهد الخاصة صعب، لأن أسرتها على قد الحال، ظلت تسير لوقت لا تعلم مدته وعندما وصلت إلى بحر شبين كما يطلق عليه أهل المنوفية كانت قد اتخذت قرارها بدفن نفسها مع حلمها فى الالتحاق بالجامعة وغاصت فى النهر وهى تبتسم وترى نفسها ترتدى أحسن ما لديها، وشعرها يتطاير فى الهواء رغم أنها دائماً تخفيه بالإيشارب والجميع يودعها على أبواب الكلية وهى تحمل المسطرة وتجرى لحجز مكانها فى هندسة الآخرة.
إهداء لكل هبة من ضحايا التعليم المصرى الذين سطروا أسماءهم فى دفاتره بعيدا عن أوهام تعليم المرسيدس الذى يريده وزير التعليم المصرى.