بقلم – غالى محمد
صباح الأحد الماضى، ذهبت من التجمع الخامس إلى وسط البلد، مخترقاً بالتاكسى الأبيض الطريق الدائرى.
وعلى الميمنة والميسرة، إذا بالسور الخرسانى الذى تكلف الملايين، لفصل الطريق الدائرى عن المساكن القائمة عليه، قد تحول إلى صورة قبيحة.
صورة قبيحة بفعل الكتابات والشعارات والرسومات التى تمت كتابتها على هذا السور، ناهيك عن التدمير الذى لحق ببعض مواقع هذا السور، الذى لا نعرف أسباب إنشائه حتى الآن، وسبق أن كتبت عنه فى المصور.
لكن هذا ليس بيت القصيد؛ ولكن الكتابة على هذا السور جعلتنى أرصد وأنا فى طريقى إلى وسط البلد، مضمون كافة الكتابات على الجدران.
بل وعدت إلى الوراء فى محاولة للتوقف والتحليل عن ظاهرة الكتابة على الجدران.
والأمر المؤكد، أن الكتابة على الجدران، هى من عمر الحياة والبشر، وليس أدل على ذلك من الكتابة والرسوم على جدران المعابد.
كما أن الكتابة على الجدران، أياً كانت أهدافها ليست ظاهرة مصرية فقط؛ بل هى ظاهرة عالمية ترتبط بالحياة، وليس بالقبور، وإن كنا أحياناً ما نشهد الكتابة على جدران القبور، ولكنها كتابة من نوع آخر، ترتبط بتخليد الموتى سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وهذا لم يمنع من الكتابة على الأسوار التى تحيط بالقبور، للإعلان عن بيع قبور أو بناء قبور، أو عن مسئولى الدفن فى كل مقاطعة.
ورغم ذلك، فالكتابة الجدارية عن الموتى، ليست هدف هذا المقال، ولكن الكتابة الجدارية التى تجتاح كافة المناطق السكنية فى مصر هى موضوع هذا المقال.
فمن خلال ما سبق أن رأيت، وما رأيت بالأمس، فإن الكتابة الجدارية ترتكز بصفة أساسية خاصة الآن، على الأنشطة التجارية المختلفة، ويأتى فى مقدمتها الإعلان عن مراكز الدروس الخصوصية، ومراكز تعلم اللغات، التى تتواجد فى أى منطقة، فضلا عن الكتابة التجارية عن مدرسى التخصصات المختلفة، كل فى منطقته.
فضلاً عن إعلانات مراكز الصيانة وشركات رش المبيدات على الجدران المختلفة.
ورغم انتعاش الكتابة على الجدران لأهداف تجارية خلال العصور المختلفة، من جانب صغار الصناع وأصحاب المحلات التجارية غير القادرين على تحمل تكلفة أى إعلان فى الوسائل المختلفة، فالملاحظ أن الكتابة التجارية على الجدران، لم تختفِ مع تطور الوسائل التكنولوجية مثل الفيس بوك وخلافه، بل تتزايد خاصة فى المناطق الشعبية، وعلى الطرق التى تزيد عليها الكثافة المرورية، وهذا فى حد ذاته يعكس تأثير الكتابة الجدارية فى الترويج التجارى على المصريين.
وإذا كانت الكتابة الجدارية تسيطر عليها الآن الأهداف التجارية، فإذا عدنا إلى الوراء، فسنجد أن الكتابة الجدارية بها أهداف سياسية ودينية واجتماعية عبر العصور المختلفة.
وسأعود قليلاً إلى الوراء، فى فترة تصاعد الجماعات الإسلامية فى الحقب الأخيرة من القرن الماضى، كانت هناك كتابات جدارية تتحدث عن شعارات هذه الجماعات، كذلك كتابات تعكس أهداف جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك كتابات جدارية تعكس شعارات الأنظمة السياسية السائدة.
كما أن الكتابات الجدارية كانت تنتعش فى ظل أجواء الانتخابات البرلمانية سواء بالكتابة المباشرة أو بالملصقات التى توضع على الجدران، وكذلك انتعشت الكتابة الجدارية فى فترات الانتخابات الرئاسية التالية لثورتى ٢٥ يناير و ٣٠ يونيه.
ومن الثابت عبر العصور المختلفة، أن الكتابة الجدارية فى الشأن السياسى، كانت ترتبط كثيراً بالفصائل السياسية التى تعمل تحت سطح الأرض وبشكل غير شرعى أو كان يلجأ إليها البعض من الشباب مع ضيق الحريات.
وهذا كان واضحاً فى عصر مبارك ومن جانب الجماعات الإسلامية والإخوان.
وبعد ثورة ٢٥ يناير ظهرت بوضوح الكتابات الجدارية السياسية، ضد المجلس العسكرى من جانب جماعة الإخوان وبعض تيارات الشباب.
وبعد ثورة ٣٠ يونيه وسقوط الإخوان، عادت الكتابة الجدارية السياسية السوداء من جانب جماعات الإخوان، بقوة ضد الرئيس عبدالفتاح السيسى شخصياً.
بل وصل الأمر بهؤلاء إلى الكتابة على الأرصفة وعلى أرض الشوارع،
ووصلت حملة الكتابة الجدارية من جانب جماعة الإخوان إلى قمتها بشعارات ضد الرئيس السيسى وضد القوات المسلحة.
ورغم ذلك، ورغم تأثير الكتابة على الجدران بهذا الشكل الأسود، فإن الإخوان اضطروا صاغرين إلى التراجع عن ذلك، واللجوء إلى أساليب تشويه أخرى.
وقد وصل الأمر فى الكتابة على الجدران أنهم كانوا يفعلون ذلك فى جوف الليل وبشكل سرى، حتى إن الأجهزة الأمنية والحكومية فشلت فى الكشف عن الذين يكتبون على الجدران من جانب الإخوان وقامت بحملات طلاء وإزالة للكتابات الجدارية الإخوانية، لكن كان هذا الأمر مرهقاً ومكلفاً، ولايزال فى بعض المناطق الشعبية يوجد أثر لتلك الكتابات الإخوانية على الجدران.
ومع تولى الرئيس السيسى حكم البلاد وحتى الآن، يمكن أن نرصد اختفاء الكتابة ذات الأهداف السياسية على الجدران، بينما تتصاعد الأحداث، سواء فيما يتعلق بقضايا ارتفاع الأسعار، يمكن أن نرصد أنه لا توجد أية كتابة على الجدران حول هذه القضية، كما كان يحدث أيام السادات.
وقضايا أخرى تتعلق بالحريات وقضية مصرية تيران وصنافير، لا توجد أية كتابات على الجدران حول تلك القضايا وغيرها وغيرها، من القضايا السياسية، يمكن القول والجزم بأن الكتابة على الجدران بشأنها قد اختفت.
وهذا يجعلنا نسأل، هل يعكس ذلك أى درجة من الخوف من جانب الذين احترفوا الكتابة على الجدران ولكن كيف يكون ذلك خوفاً وهناك كتابات بأسماء علنية على الفيس بوك حول مختلف هذه القضايا الآن، أم أن الكتابات الإلكترونية للاتجاهات السياسية المختلفة أصبحت هى البديل عن الكتابة على الجدران باعتبار أن هذه وسيلة سياسية انتهت فاعليتها.
كما ينبغى أن نسأل أيضاً، هل اختفاء الكتابة السياسية من على الجدران يعكس درجة من الحريات، وبالتالى لا داعى لهذه الوسيلة باعتبارها عملا سريا؟
لا خلاف على أن الفيس بوك وخلافه قد جذب الكثير من الشعارات السياسية التى كان يمكن كتابتها على الجدران، ولكن بأسماء علنية أو مختفية.
أياً كان الذى رصدناه، من اختفاء الكتابة السياسية على الجدران فإنها يمكن أن تعود بقوة كعمل سرى، إذا ما تم اتخاذ أية إجراءات تحد من حرية الفيس بوك، أو أية إجراءات تهدد الحريات العامة.
فالتاريخ يقول والوقائع تؤكد، أن الكتابة على الجدران أياً كانت أهدافها، لن تختفى ما دامت هناك حياة، فها هى الكتابة التجارية على الجدران تنتعش وتنتعش.
وها هى الكتابة السياسية على الجدران اختفت حتى إشعار آخر، ترتبط بالأساس بترمومتر الحريات على مدى الزمن، ومدى تحسن أحوال الناس، وبالتحديد تحقيق العدالة الاجتماعية.