رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


بأمر الحكومة: "الشغلانة التانية".. اختيار إجباري

14-6-2017 | 16:41


 

"الشغلانة التانية" ليست "سيمًا" بين خارجين على القانون، أو عملًا غير مشروع، أو عملًا من الأعمال المنافية للآداب، وإنما هو عمل إضافي من أجل اللقمة الحلال، وكفاية الأسرة ذل النهار وهم الليل؛ إلا أنه بات أمرًا إجباريًا رغم خيارك فيه؛ حيث فرض على غالبية الشعب المصري؛ فلم تعد شغلانة واحدة تكفي حاجيات أي من الأسر الفقيرة، بل ومتوسطة الحال؛ جرّاء الغلاء الطاحن؛ والسياسات التقشفية القاسية التي تنتهجها الحكومة؛ ما دفع غالبية أرباب وربات البيوتات المصرية إلى الأعمال الإضافية لتوفير احتياجات أسرهم، والوفاء بمتطلباتهم الأساسية، والتضحية في سبيل ذلك بلذة الحياة في سعادة لم الشمل، والاستمتاع بدفء السكن؛ حيث باتت الأسرة في معزل عن الأب الذي يعمل طوال النهار، وحتى منتصف الليل؛ ليعود أدراجه للنوم، حتى يواصل مسيرة اليوم التالي، وهكذا..

هموم الناس

"الهلال اليوم" التقت عددًا من أرباب الأسر الذين يعملون في وظيفتين، ورصدت مدى معاناة هذه الأسر على المستوى الاجتماعي، والمادي أيضًا، وهو ما أكده أحمد حسن "موظف بشركة" بالقطاع الخاص، لديه أسرة مكونة من ثلاثة أبناء، أن دخل الشركة أصبح لا يكفي حتى ثلث الشهر؛ ما اضطره للتفكير في عمل آخر؛ حتر استقر به الأمر للعمل سائق تاكسي "وردية" تنتهي مع منتصف الليل، مضيفًا أنه لا يكاد يرى أطفاله، لكنه لم يجد حلاً بعد دخول طفلته الأولى المدرسة، وإضافة أعباء التعليم على المصروفات المعتادة.

أيضًا المهنة الثانية في الغالب لا يكون لها علاقة بالأولى؛ لأنها لا تحتاج تخصصا دقيقا؛ ما ساعد أشرف محمود "موظف" بشركة خاصة على العمل بأحد محلات الملابس الخاصة، على الرغم من أسرته البسيطة المكونة من زوجته، وطفل وحيد، مؤكدًا أن وظيفته الأولى لم تعد كافيه للإنفاق على أسرته الصغيرة؛ ما دفعه للبحث عن الشغلانة الثانية؛ بعد تراكم الديون عليه من شهر إلى آخر.

 

ولم تكن "ك.م" بأوفر حظًا من غيرها، حيث اضطرتها الظروف المادية للعمل ورديتين متواصلتين كل يوم لتوفير مطالبات أسرتها، خاصة أن ابنتها الكبرى بالمرحلة الثانوية؛ ما أرهق كاهلها بأعباء الدروس الخصوصية.

 

وفضّل كيرلس إسحاق "موظف" بأحد القطاعات الحكومية، أن يقضي الساعات المتبقية من يومه في مكتبته الصغيرة، التي بدأها بـ"جمعية" مع زملائه في العمل، ليكفي متطلبات أسرته؛ فالراتب أصبح لا يكفي بعد سداد فواتير الكهرباء، والمياه، والسلع الغذائية، لأفراد أسرته الأربعة، مقللًا من أهمية وجوده مع أسرته بعد منتصف يوم عمل، ومؤكدًا أهمية توفي احتياجات المعيشة من أكل وسكن وعلاج وتعليم، وغيره.

 

وآثر "أ.م" "طبيب بيطري"، اللقمة الحلال على الفساد والتربح من مهنته، بالعمل في محل جزراة؛ ليكفي احتياجات أسرته المكونة من طفلين وزوجة، عجز راتبه عن الوفاء بمتطلباتهم.

 

ووجد "عمر.أ" "خريج هندسة" ضالته في العمل بأحد محلات العطارة، المملوكة لخاله، لعدم حصوله على فرصة عمل مناسبة، قائلًا:"الحكومة مش حاسة بالناس"، ولا البرلمان عمل حاجة في حل أزمة البطالة".

عدد كبير ممن يعملون في شركات القطاع العام يمارسون نفس المهنة، بعد انتهاء مواعيد العمل؛ حيث كشف "ح.ع" أنه يعمل بشركة المياه والصرف الصحي، ويكمل الفترة الثانية في أعمال السباكة التي أجادها من خلال عمله بالشركة.

 

كوارث اجتماعية

أكد الدكتور جمال حماد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، أن الأسرة المصرية مضطرة إلى ذلك نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، التي تمر بها البلاد، منبهًا إلى أن المجتمع المصري تعوزه ثقافة حب العمل؛ وبالتالي فهو يعمل فترتين، أو في مهنتين لا يتقن هذه ولا تلك وهي كارثة بحق أخلاقية واقتصادية بأي مقياس.

 

وأوضح حماد، أن غياب الأب عن أسرته ينتج عنه العديد من المشكلات والأمراض الاجتماعية؛ على رأسها التفكك الأسري، وانحراف الزوجات؛ خاصة في ظل تراجع منظومة القيم والأخلاق عن المجتمع المصري، وكذلك يؤثر على تربية الأبناء، وأصابتهم بالعديد من الأمراض الاجتماعية جرّاء الغياب عنهم، وتركهم غنيمة باردة لأصدقاء السوء، ووسائل التكنولوجيا، والفضاءات الإلكترونية، مشيرًا إلى أن انعكاسات ذلك تتضح في أخلاقيات الأجيال الجديدة،  ومدى حرمانها من الأخلاق والتربية وافتقادها للتقاليد الرصينة؛ من غش في الامتحانات، وانحرافات سلوكية، عنوسة، نتيجة العزلة الاجتماعية، وغياب الروابط القائمة على المحبة والإيثار، والألفة، والتعاون والمنفعة، واصفًا العلاقات الأسرية بـ"النووية"؛ حيث  تقوم على المصلحة والانتهازية، لأنها لم تبن على أسس سليمة، وروابط اجتماعية وأخلاقية صحيحة.

 

من جانبها أوضحت الدكتورة هناء أبوشهدة، أستاذة الطب النفسي بجامعة الأزهر، أن ظاهرة ممارسة المهنتين، أو العمل لفترات طويلة ليست جديدة على المجتمع المصري، فالأسرة المصرية بصفة عامة مكافحة، من أجل النهوض بوضعها الاجتماعي، وأشارت إلى أن الظاهرة بالطبع لها أثر سلبي على تربية الأبناء وبنائهم النفسي، فقد تعرضت الأسرة المصرية لهذه الضغوط بطريقتين؛ الأولى كانت عند سفر الأب للعمل بالدول العربية، وترك الأبناء مع الزوجة، أو سفر الزوجة وترك الأب مع الأبناء، أو سفر الأب والأم وترك الأبناء مع آخرين، ومثلت هذه الظاهرة آثارًا سلبية نفسية وتربوية مدمرة على الأسرة في مرحلة ما، لافتة إلى أن ظاهرة عمل الأب طوال اليوم داخل بلده، وعودته حتى لو كان ذلك في وقت متأخر من الليل؛ أقل أثرًا على العطاء النفسي والتربوي؛ لأنه أفضل من الغياب الكلي عن البيت، فمجرد وجود الأب يقل التأثير الجانبي، للعطاء النفسي ويكون أفضل من ترك الأسرة دون رعاية أبوية، موضحة أنه يجب أن يفهم أن الأب يكافح من أجل الأسرة، وأن يقوم الإعلام بدوره في تعزيز ثقافة العمل، وأهميته لرفع مستوى الأسرة، وتوفير متطلبات الحياة؛ من مطعم، ومأكل، ومسكن، منبهة على دور الأم، وتمتعها بنفسية صحية؛ حيث يساهم ذلك في توعية الأبناء بكفاح الأب، وتصحيح مفهوم خروجه لدى أبنائها؛ بأنه ليس لمجرد الخروج أو الترفيه؛ وإنما لرفع مستوى الأسرة، وكسب الرزق بالحلال؛ حتى تعوض غياب الأب.

وحذرت "أبوشهدة" لمن مغبة نسيان الأب للأسرة، فعندما يعود إلى المنزل، يسأل عن أبنائه، ويغدق عليهم بالعطاء النفسي والتربوي، وكذلك الأم العاملة؛ عندما تعود إلى منزلها تترك وظيفتها مهما علا كعبها، وعظم قدرها على باب بيتها، لتصبح أمًّا فقط لأبنائها، وزوجة صالحة لزوجها، مؤكدة أن العطاء النفسي السخي من قبل الأب والأم مهما كان عملهما هو الذي يضبط إيقاع الأسرة، والبخل فيه يخلق جيلًا مغيبًا.