رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الإنسان من الطين إلى السيراميك

12-12-2021 | 13:46


أحمد فوزي حميده

أحمد فوزي حميده

الإنسان يتأثر بكل ما يحيط به، وتتشكل شخصيته وطبيعته من البيئة المحيطة به، لذا نجد من يعيش في الصحراء يغلب على طباعه عوامل الجفاء والقسوة في التعامل وحين تحول للحياة في القرى، لانت طباعه إلى حد كبير وتحول من حالة الغلظة في التعامل إلى شخصية اجتماعية أكثر ألفة وحميمية، ونجد في كتاب (ارتقاء الإنسان) تأليف/ ج. برونوفسكي وترجمة د. موفق شخاشيزو، يذكر أن أكبر خطوة في ارتقاء الإنسان تكمن في انتقاله من مرحلة البداوة إلى المرحلة الزراعية وتأسيس القرية، أما الآن أصبح علامة الارتقاء من القرية والطين إلى حياة الأسمنت المسلح والسيراميك.

فشكل الريف المصري الذي قرأنا عنه في روايات محمد حسين هيكل، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف إدريس، وعبد الوهاب الأسواني، وأحمد الشيخ، وخيري شلبي، وفاروق خورشيد، وشوقي عبد الحكيم، وشهدناه في العديد من الأفلام والمسلسلات، الآن لا نجد هذا الريف على أرض الواقع فقد تغيرت الحياة بشكل كبير بفعل التقليد الأعمى لحياة المدينة ومع تغير الحياة حدث تغيرًا لإنسان الريف شكلًا ومضمونًا.

عندما أذهب إلى الريف وأرى مدى مظاهر التغير التي أصابته أتذكر مشهد في فيلم دكان شحاتة، حين وجد "شحاتة" تزاحم أهل القرية على مخبز العيش ونشوب المعارك بين الأهالي، للحصول على أرغفة المخبز، قال لأحدهم:- هي الستات بطلت خبيز، فرد عليه القروي (الله يجازي الحكومة لا خلت الريف ريف ولا البندر بندر).

كان بناء المنزل الريفي بالطين دليل على مدى ارتباطه بالأرض والزراعة فهي عنصر أساسي في كل مفردات حياته، أما الآن فقد تحولت العلاقة إلى مجرد حياة اضطرارية ما إن يجد الفرصة للهروب منها لن يتخاذل دقيقة واحدة للتفكير بل يتركها خلفه ويهرب إلى الحياة التي يراها في الأفلام والمسلسلات، حيث النظافة بعيدًا عن الطين وروث البهائم والذباب والناموس والبراغيث وصوت الضفادع، حيث يهجر الشباب الريف بحثًا عن العمل في المدن ثم يعودون محملين بأفكار التمدن الشكلي ناقمين على حياة الريف وعاداته وتقاليده وطقوسه ومعيشته وبيته، فصارت البيوت تبنى بالأسمنت المسلح والطوب وتكسى الأرضية بالسيراميك، وبعد أن كان لكل ابن في العائلة غرفة يتزوج ويعيش فيها داخل الدوار الذي يضم العائلة كلها، صار لكل فرد شقة كاملة التشطيب، مثل الحال في أي مدينة وصار من النادر أن تجد بيتا ما زال على حاله بالطوب النيئ والطين وسقفه من الخشب والجريد، وانتشرت أجهزة التكييف التي لم تكن معروفة في الريف، لعدم الحاجة إليها مع تميز البيت المبني من الطين بالدفء شتاء والبرودة صيفًا حيث يمنع الرطوبة تماما.

تمرد الإنسان في الريف على مظاهر المعيشة أدى إلى تبدل شكل الحياة كلها حتى في نوعية الأطعمة والأشربة، حيث كانت المخبوزات تصنع في البيت وأبرزها البتاو والعيش المنطط والكشك وكان في كل بيت فرن سواء في مدخل الدار أو فوق السطح، حيث يتم طحن القمح والذرة الشامي في الطاحونة وتحمله النساء بعد أن تطحنه الطاحونة ويتحول إلى دقيق ويتم إضافة الحلبة والكمون إليه في أثناء العجن، ليس كل يوم بل لكل بيت يوم محدد، حيث تتجمع النساء سواء من العائلة أو الجيران للمساعدة في الخبيز، كما تشارك صاحبة الدار الأخريات في خبيزهن، وخلال فترة الخبيز تجلس النسوة كل واحدة منهن لها دور فهذه تعجن وهذه تفرد قطعة العجين بطريقة معينة وتلك تلقي بها إلى الفرن، بالإضافة إلى أن هذا اليوم يكون حافلا بالحكايات عن حال كل منهن مع زوجها وحالها وحياتها كما يقمن بترديد بعض الأغاني التراثية بطريقة تشبه ترانيم الكنائس ومعظم هذه الأغاني تدور حول غياب الأحبة والصبر على الحياة.

كانت الحياة جميلة رغم ما فيها من قلة الموارد المادية لكن كانت الحكايات والأغاني هي التسلية المفضلة لكل أفراد الريف الآن غزت المخابز القرية فتمرد الأهالي على أكل البتاو والمخبوزات المنزلية التي كانت سائدة في الريف حتى فترة التسعينيات من القرن الماضي، فقد كان عيبا أن يشتري الريفي عيش من الفرن وكان تجريس الناس يلاحق من يتم ضبطه وبحوزته عيش من المخبز أما الآن فقد تحول العيب والتجريس إلى من لا يعتمد على عيش المخابز في وجباته لدرجة أن الفلاح يخبز البتاو ولا يقربه هو أو أفراد أسرته حتى يتعفن من الركنة، وأظن أن اليوم الذي تختفي من الريف مخبوزاته المنزلية بات قريبًا جدًا، خاصة مع رفض الفتيات تعلم صناعة هذه المخبوزات، بالإضافة إلى اختفاء الفرن المنزلي بعد أن صار البناء بالأسمنت المسلح، حيث أن من يقوم بهدم بيته الطيني لبنائه من جديد بالطوب والأسمنت لا يفكر إطلاقا في بناء فرن للخبيز معتبرا إياه من مظاهر حياة الشقاء التي يبغي الهروب منها ونسيانها خاصة وأن الفرن المنزلي لا يتناسب مع حياة السيراميك والحمام الإفرنجي.

الإنسان في الريف قبل هذا التمدن الشكلي تميزت طباعه وأخلاقه بالكرم والطيبة مثل هذا الطين الذي ينتج منه الزراعات المختلفة ويبني به بيته ونظرا لهذا الارتباط التام بالأرض والطين فيما يشبه التوحد كانت الأخلاق والطباع لينة مثل عجينة الطين لكن مع التحول إلى تقليد المدينة خاصة في الناحية المعمارية صارت طباع الإنسان القروي جامدة مثل السيراميك.

فمع هذا التغير وهذه العلاقة بين الإنسان والطين تغيرت ملامح وطباع الإنسان.