حديث النفس.. قصة الأمس
ننظر من خلف النافذة.. من زاوية واحدة لا نريد أن نغادرها بها قصة مازلنا نحياها.. ذكرياتنا حبيسة سجن من زجاج.. نراها أمامنا حتى وإن غابت عنا.. تطاردنا، تملأ كياننا.. تلاحقنا فى كان وكان.
قد تكون صدفة لكننا تمسكنا بها فى ركن كم تمنينا فيه أشياء جميلة لكنها ماتت.. ننسحب داخل أنفسنا ثم نضيع ونتوه لنستيقظ على حاجز نحتاج معه لأن نفيق.. فجوة ما بين ما كان وما يحدث.. تحركنا وتمسك بتلابيب نفوسنا لنراها دائما من خلف نافذة نفوسنا.. هى قصة الأمس التى نحياها فى كل يوم.. قد تكون جرحا.. ذنبا.. شرخا.. فرحا، فى رحلة البحث عن الكمال لكنها حاجة نفتقدها فى قصة اليوم .
كم يحلو لنا أن نحيا بمخزون الماضى داخل نفوسنا.. هل بسبب أن معظمنا يعشق القوالب الجامدة وعمليات القياس عليها؟ أم لأن الماضى دائما صعب النسيان ؟ أم لأن فى الماضى ذكريات تشكل حاضرنا فنتبعه ونتبعه حتى ولو أخفينا هذه الأمور عمن حولنا ؟ نخدع أنفسنا محاولين نسخ الماضى فى صور متجددة !
قد نكون هكذا فعلا تنفيذا لقاعدة «اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش» فنؤثر السلامة والاحتياط والحذر.. فنركن لأنفسنا لتذكر تجارب مؤثرة فينا أو أشخاصا رحلوا عنا.. فنتوقف كأننا أمام نافذة مطلة على مكان ثابت لأحداث متحركة أو حتى نافذة لمركبة متحركة يظن من يتابع الرائى أنه يشاهد ما يحدث خارجها لكنه يتصور ما يخرج من نفسه ليسقطه على ما يدور حوله، خاصة لو كانت ترتبط بنفس الذكريات والأحداث أو كانت أماكن مشابهة سرعان ما يذهب صاحب القصة فى تذكر نفس المشاعر سواء كانت حزينة أو سعيدة، ففى الذكرى يكمن الحزن والعذاب.
لكننا نميل دائمًا لتذكر القصص الحزينة أكثر من المفرحة.. فتحركنا قصص الأمس فى وقتنا الحاضر فى رحلات من مشاعر الكره والحزن التى قد تدفعنا للانتقام اليوم أو نكتفى بالوجع على الرغم أن كل أمر يهون وكل قصة تموت، لكن تظل لسيطرة قصة الأمس قوة وتسلطا تمكنها من تشويه مشاعرنا وأحاسيسنا اليوم فتسيطر على أرواحنا ونبضات قلوبنا فى قصة اليوم على الرغم أنها لا تكرار لها.
وكأننا اخترنا أن نحيا أمواتًا فى قصص الماضي.. فالمفروض أن تكون صاحب قلب وتجربة جديدة بعيدة عن التنظير والجدال.. لتصبح أنت التجربة الجديدة التى تصنعها ولا تبالى سوى بحضورها المميز لكن عجز الإنسان عن النسيان أو حتى الغفران يجعله يكرر نفسه وقد يصل لدرجة عقيمة لا يدرك معها أنها تدفعه للفشل.. لدرجة أننا نذهب للنماذج المكررة لنسألهم عن منهجهم لنتبعهم ونقلدهم لنسير فى الطريق الأسلم لأننا نخشى الفشل إذا ما خرجنا عن المألوف.
وقد نعيش الحاضر بعقد الأمس التى قد لا يكون لنا يد فيها.. فقد تكون وليدة الصدفة وتجارب فرضت علينا.. ولكنها تركت آثارا غائرة فى نفوسنا وأبرزها فترات الطفولة.. فليس كلنا نحيا فترات طفولة سعيدة ولا أحد منا يختار كيف يولد وأين يعيش؟.. الصدفة وحدها من ترسم ملامحها فى هذه المرحلة الخطيرة من عمر الإنسان التى نتمتع فيها بذاكرة خصبة.. فلا نستطيع أن ننسى أى تشوهات تصيبنا فيها.. فقد تكون سعيدة ومرحة وقد تكون معقدة.. أيا كان فهى أول قصص الأمس التى تحملها ذاكرتنا . . ونسير للشباب محملين بها ونخطو بحماقات وغفوات تتراوح ما بين البراءة والسذاجة والشر.. نسقط ونعاود النهوض ولكن مع كل سقوط قسوة ومرارة أو أفراح.. لكن كله كعادة الأيام يتحول إلى قصص وحكايات لابد وأن تنتهى ترتفع أو تهبط معها أرواحنا وتسعد أو تحزن قلوبنا وهكذا.
ولكن كلما تقدم الإنسان فى العمر نضج وأصبح يميل للهدوء والاستقرار والتخلى عن الحركة الزائدة أو حتى عن العصبية والجدال يحلو له الجلوس خلف النافذة؛ ليرى دائما ما مر به من قصص ماضية.. وفى كل مرة تجده يتخلى عن جزء من حماقته التى يرى أنها بسبب جداله مع الآخرين الذى يفقده جزءًا من هدوئه وسكونه.. فأصبح يبحث عن الراحة فى كل شيء حتى فى خياله وفى التقليل من طموحاته وأحلامه.. فيبحث عن الحب وقد يكون محظوظا فيجده فى المحيطين به وعلى فكرة من يبحث عن الحب يجده متى شعر أن به تتحقق السعادة فالحب أغلى من المال.. وبالحب يكتمل نقاء روحه فتتصل بالذات الإلهية التى يشعر معها بالراحة والهدوء والسلام والطمأنينة .
وقد يحلو لنا تذكر أياما كنا نشعر فيها أننا متناغمون مع الكون حولنا أو وقت كنا من القوة والصحة ما يجعلنا نقدم لغيرنا السعادة التى تنعكس على أنفسنا بالرضا.. وقد نتذكر أياما قصرنا فيها فى حق أنفسنا أو حق من حولنا.. وقد تأخذنا القسوة بأنفسنا بأن نعذبها فيصبح لزاما علينا أن نسامح أنفسنا ونتجاوز عن أخطائنا وعن أخطاء غيرنا لأن الله يسامحنا فى كل وقت طالما تبنا، فلا يصح أن نعيش معذبين بعقدة الذنب، فمن منا لا يخطئ فى حق نفسه أو غيره سواء كان عامدا أو بدون قصد.. فيجب أن ندرب أنفسنا على التسامح حتى تسمو أرواحنا .
وقد نذهب بأنفسنا إلى الوحدة والعزلة التى نحاول فيها أن نوقظ مشاعرنا التى تناسيناها فنخرجها من قلوبنا.. لنعيش التعاسة التى هربنا منها فنحكم على أنفسنا بالعجز الذى يثقل كهولنا ويحطم حاضرنا.. التى للأسف ذهبنا إليها بإرادتنا فى لحظات ضعف يجب ألا تتملكنا بدافع أمور أو حوادث مشابهة بفعل ذاتنا التى تريد أن تؤنبنا باستمرار بحجة التطهر بدفع الثمن على الرغم أن الحاضر بعمل جديد يجعلها أكثر إشراقا وحيوية فيزيد من العمل النافع لها ولغيرها.
فنحن فى التعامل مع الخطأ نوعان، أحدنا يعذب نفسه دائما فى دفع الثمن فى الاتجاه الخاطئ.. والآخر يتناساه ويكابر ولا يتذكره حتى أنه يتمادى فيه بغرور وعناد.. ومابين هذا وذاك ننسى أنه يجب ألا نتعامل مع الأحداث بردود أفعاله قديمة قد نكون فشلنا فى الماضى بسببها فلا يجب أن نحمل أنفسنا فاتورة أخطاء الماضى التى دفعناها بالفعل.. فالقدر دائما يطالبنا بالجديد ليقدم لنا الجديد .
ففى قصص الأمس قد تكون من الحزن الذى يتملكك لفترة معينة فى قصص الخذلان والهجر والفقد والخيانة وغيرها .. ولكن ما عليك سوى أن تكتمل دورة حزنك.. وبعدها يجب أن تعود مع نفسك لتتجاوزها ومتى حدث ذلك فحتما ستصالحك الحياة بقصص جديدة قد يكون فيها العوض والنجاح بشرط أن تتجاوزها بشيء من المرونة الذى يليق بصدمة الحياة المتغيرة فنحن لا نعبد أشخاصا أو أشياء أو أماكن ولا نتملكها أيضا.. ولكننا نتعلم دائما أن نستسلم لكلمة القدر لفك الارتباط بيننا وبين هذه الأشياء لتعود لنا الحياة وتستمر .
وقد تكون عانيت فى قصة الأمس ومسّك الضر فعلا، لكن هذه المعاناة قد تدفعك لتغير قصتك مع الحياة. . فقد تواجه فيها حقيقتك وتعلم أنك محق وتسير على الطريق الصحيح أو يحتاج منك الأمر للتغيير فلا يجوز أن تحيا الحاضر بقصة منتهية الصلاحية.. فعليك أن تعيش الآن بقلب ومشاعر ووعى مناسب لحداثته.
وإذا ماعاندت فإنك حتما ستظل فى قصة الأمس التى يجب عليك أن تسعد بخروجك من تجربتك بوصولك لحالة جديدة من اليقين.. فنحن نحتاج دائما للانسجام بين روحنا وأجسادنا وقلوبنا لنكون صادقين لينسجم الكون معنا الذى سخره لنا الله لنحيا سعداء.. فالحياة ترفض المتصادم معها، وترحب بمن يتعاطى معها بنفس قوية مرنة فى مغامرة الحياة.
أعلم أننا لسنا كلنا على نفس الدرجة من التجاوب مع الحياة، ولكننا نتعلم وندعم بعضنا البعض فى رحلة تسيطر معتقداتنا علينا، فتنعكس على حياتنا بالشقاء أو السعادة التى قد تكون موروثا مجتمعيا فى معظمها ليس لنا يد فيه، ألهانا عن الالتفات لما يسعد أنفسنا.
وقد نحتاج لكى نستمر فى هذه الحياة للنسيان.. صحيح يحدث مع مرور الوقت لكن نار الذكريات تحرق قلوبنا، فتجعل قصة الأمس حاضرة نخشى أن يتكرر ما بها من أسى وحزن.. أو أن يعيش صاحبها على أمل أن يرد حقه إليه فتكون الذكرى وقودا للانتقام.. أو أن تكون ذكرى جميلة لن تعود بعدما رحل أطرافها.. فالأيام الماضية لا تعود.. فلا أمل فى قصة الأمس.. الأمل دائما فى قصة الحاضر الذى تعيشه بنسيان الأمس .
وهل نحتاج جميعنا للتعافى من الماضى الذى يكمن الشيطان فى تفاصيله؟.. فى الحقيقة إننا فعلا جميعا فى حاجة لهذا التعافى حتى ولو تظاهرنا بالقوة التى جعلتنا نتجاوز.. فنحن دائما ما نشعر بمرارة انهزامات ماضية حتى ولو تجاوزناها بمصالحات فى انتصارات القدر، فيندم الإنسان على تفويت فرصة انتصاره فى الماضى، ويتمنى أن يعود ظنا منه أنه حتما سيتدارك خطأه وينتصر.. فيعيش قصة اليوم بالأمس.. ميتًا حيًا أو حيا ميتًا معذب النفس.