رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


غيوم فرنسية.. حين ترسم المرأة خريطة طريق نحو الحرية 3-3

19-12-2021 | 16:22


د.سيد ضيف الله

د.سيد ضيف الله

لا يعني انتقال شخص من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أن ثمة تحولاً جوهريًا في الشخصية، فالغالب على هذه النوعية من الانتقالات أنها تعكس الملمح الأساس لهذه النوعية من الشخوص، وهو أنها تجد ذاتها متحققة فقط حين تسكن الأطراف بغض النظر عن طبيعة كل طرف. فالطرفية موقع تتمتع فيه الذات بانسجام مع رؤيتها لنفسها باعتبارها ذاتًا مأزومة و مغتربة عن المساحات الوسيطة التي تتميز بأنها موقع أغلبية الناس. ومن هنا نعتبر تحول فرانسواز من هذا النوع من التحولات التي تعكس أزمة في رؤيتها لذاتها ساكنةً في طرفٍ ما، بغض النظر عن أن يكون هذا الطرف موقع المتصوفة الكاثوليك، أو موقع الذات المقدِّسة للجسد، باعتباره الهوية الحقّة، التي يجب من أجلها أن نضرب بالعالم من حولنا عرض الحائط.

فرانسواز بهذا الانتقال من أقصى تمحور حول الجسد إلى أقصى تمحور حول الروح تمثل نموذجًا لرفض الشخصية المتطرفة لعمليات التفاوض المطروحة عليها يوميًا، وهنا تجدر المقارنة بين فرانسواز وأم فضل الله. فالصراع داخل الأنثى (فرانسواز) يشابه الصراع داخل الأم (أم فضل الله) بين طرفين؛ الأول (الجسد قرين الدنيا) ، والثاني(الروح قرينة العالم الآخر أو الدين). من المدهش أن "أم فضل الله" تنتصر بسجيتها للأمومة ولواقع تعيشه يجعل من رغبتها في أن يتزوج ابنها وترى أبناءه وأبناء أبنائه رغبةً أقوى من فكرة الرهبنة، التي كانت تراود نفس ابنها فضل الله منذ البداية.

"كنت أميل أكثر لفكرة الرهبنة التي تراود معظمنا وعارضتها أمي بشدة على الرغم من تمسكها الشديد بالدين ومواظبتها على حضور قدّاس الأحد، كانت أمنيتها القوية أن ترى أبنائي وأبناء أبنائي أكبر من فضيلة الرهبنة عندها ولقلة عددنا الذي لا يتجاوز عشرة آلاف في مدينة يسكنها فوق المائتي ألف" (الرواية، ص16-17).

تضافر عامل الأمومة مع عامل الإحساس بالانتماء لأقلية دينية (قلة العدد للمسيحيين في القرية) لينتصرا على فضيلة الرهبنة الناشئة في عقل شاب رغم أنه من المفترض أن تنتصر نار الشهوة المشتعلة به على فكرة الرهبنة. ولهذا نجحت "أم فضل الله" في ترتيب رغباتها وإعطاء كل رغبة منها الأهمية المناسبة لواقعها وتصوراتها عن نفسها وعن المجتمع المحيط بها، ومن ثم أدارت عملية التفاوض حول عدة أفكار ذات منبع ديني واحد لكن وضعتهم في تراتبية تسوّغ لها دفع ابنها بعيدًا عن الرهبنة. فإذا كانت الرهبنة فضيلة دينية من منظور مسيحي، فحفظ وجود المسيحيين أنفسهم واستمرارهم فضيلة لها أولويتها في سياق ثقافي تعيشه وتتفاوض معه يوميًا بشكل فطري. والأهم أن هذا التفسير يدعمه مشترك يتجاوز الدين المسيحي إلى نزعة الأمومة بين بني الإنسان على الأقل، و التي لا يكتمل الإحساس بمشاعرها إلا بتذوق مشاعر الجدّة وفق الصورة النمطية السائدة عن الأمومة على الأقل.

إن "أم فضل الله" رأت في نصرة الجسد وصونه عبر وجود بيولوجي مستمر في نسل ولدها انتصارًا على واقع فرض عليها أن ترفض فكرة الرهبنة، والأمر كذلك بعد سنوات عديدة بالنسبة لمحبوبة الزوجة، التي رأت في صون البذرة في بطنها لينمو فضل الله الصغير في الوطن نفسه  انتصارًا على واقع فرض عليها أن ترفض فكرة الخروج بالجسد من سياق لا تكتمل إلا فيه هويتها كمحبوبة.

وعلى الجهة الأخري، وحيث لا واقع يفرض الخوف من الوجود كأقلية دينية تتعايش أو أن  يختار مضطرًا رب الأسرة (فضل الله) – إن جاز التعبير-لأن يرحل مع المستعمِر، نجد أن تفاوض فرانسواز فيما يخص الصراع بين الولاء للجسد أو مخاصمته حتى الفناء في ذاتٍ سامية يتم في سياق ثقافي مختلف تمامًا، حيث التحول من فرنسا الكنسية بتطرفٍ، إلى فرنسا الحداثية المتمردة بتطرف] على هيمنة الكهنة والقساوسة على حياة الناس. ومع ذلك وربما بسبب ذلك نجد أن فرانسواز تسوّغ عريها أمام فضل الله تسويغًا دينيًا ينازع تسويغ الرهبنة ذاته.

"فمثلاً ما يسمونه العفة هو في قاموسي الجديد الخطيئة بعينها. أتذكر أتعرف لماذا؟ (...) خطيئة في حق النفس بتعذيبها وتجويعها وخطيئة في حق الرب أن تعاند مشيئته في خلق مفعم بالرغبة. كيف يكون ما خلقنا الله عليه هو الخطيئة؟"(الرواية، ص259).

إننا أمام مشهد لا يمكن اختزاله في أنه لقاء جسدي عادي بين رجل وامرأة حتى لو كان هذا اللقاء الجسدي بين رجل شرقي وامرأة غربية، فلا الانتماء للذكورة / الأنوثة ولا الانتماء للشرق/الغرب- لما بهما من تعميمات صارخة- يمكن أن يفسر لنا وحده الخوف الشديد الذي انتاب فضل الله من رغبة فرانسواز الجنسية فيه، كما لا يفسر أي من الانتمائين النوعي والجغرافي أيضًا دموع فرانسواز عقب المضاجعة.

ثمة تعقيدات تقف خلف مشاعر خوف فضل الله ودموع فرانسواز ولا يمكن الارتكان لتفسير واحد لكلا الشعورين، لكن ما يمكن الإشارة إليه أن ثمة تقاطعًا بين شخصية فضل الله وشحصية فرانسواز، وأن هذا التقاطع تجاوز مجرد وجود تشابهات في الشخصية. الميل إلى المغامرة والرغبة في ربح كل شيء أو خسارة كل شي إلى وجود قاسم مشترك بين شخصية فضل الله وشخصية فرانسواز. يقول فضل الله: "لقد كنت مصممًا على خسران كل شيء، أو ربح كل شيء كاللاعب الذي يغامر بآخر ما لديه"(الرواية ص138).

 ومع ذلك يصعب القول أن أيًا من فضل وفرانسواز اعتبر لحظة المضاجعة مكسبًا كاملاً أو خسارة كاملة. ومن ثم فإن التفكير في أثر تأجيل الراوي /فضل الله لتفسير دموع فرانسواز عقب المضاجعة وإسراعه باللجوء للكنيسة للكاثوليكية للاعتراف للتطهر من الخطيئة يمكن أن يعتبر على مستوى السرد نفسه بمثابة تمثيل منحاز لأبوية دينية تعجز عن الإنصات لصوت الجسد الأنثوي يتخلل السرد عن الذات في اشتباكها مع الآخر/الأنثى لحظة الرغبة في التطهر من الجسد ذاته.

 يعود فضل الله في نهاية الرواية ، ربما حين أصبح قادرًا على استعادة صوت فرانسواز عقب مشهد المضاجعة، لنجد صوت امرأة تخلع عن جسدها لباس الكنيسة الكاثوليكية الراديكالية المعادية للحرية وللجسد الإنساني وللأنثى بشكل خاص. صوت فرانسواز يكشف عن صدمتها بعدما رأت أن الجسد الذكوري الذي جاءها من أقصى الشرق جاءها خلافًا للصورة النمطية الاستشراقية عن الذكر الشرقي، وقد ختم الكهنة  والقساوسة على عقله وقلبه الصليب وليس على يديه فقط. إنها تتحرر وتسعى لتحريره في آن عبر فعل شديد التطرف في التعبير عن الخروج من أفكار شديدة الوطأة عليها وعلى فضل الله.

"فلم يدخل فراشي قبل فضل الله سوى رجل واحد هو زوجي نيكولا ولكن من خبرة امرأة تعرف الإيمان رأت في هذا الرجل البكر (فضل الله) وشم الصليب على عقله وروحه، وليس على يديه فقط، لقد كنت في البداية أشبه فضل الله وأخذت منى الرحلة سنوات حتى أقوى على التمرد على ما قد تلقيته من تدريب ديني مكثف، سنوات حتى أستطيع خلع ملابسي أمام فضل بكل هذه الجرأة وأطلق لساني يتكلم ويفصح عما أريد بكل حرية"(الرواية، ص208).

 

ومن هنا يمكن الزعم بأن ثنائية "ذكر /أنثى" قد اشتبكت وتضافرت مع ثنائية "شرق/غرب" لتشكل مشاعر متضاربة؛ الخوف والتحرر منه في آن، لكن مع تغير في الأدوار خلافًا للصور النمطية عن كل من الشرق/الرجل الفحل، الغرب/الأنثى الشبقية.فلا فضل الله ذكر فحل ولا تبقى فرانسواز تلك الأنثى الشبقية عند الاستماع لصوتها المبرر لتاريخ قمعها وسبل تحررها والأهم عند تحولها إلى مسار مضاد للأنوثة ذاتها، وفق الصورة النمطية للأنوثة، وهو مسار التصوف الكاثوليكي المنحاز للروح على حساب الجسد. نلحظ في الوقت نفسه أن فضل الله يؤكد ذلك بتشككه في قدرة فرانسواز المتصوفة على إثارته مثلما كانت في لقائه لأول مرة، بل إنه فقد الرغبة فيها كلية وكأن ما لديه من هيمنة للروح على الجسد يكفيه ليحيا جسدًا بلا رغبات منذ أن تخلى عن الزوجة ورحل إلى بلد لا زوجة له فيها متوهمًا أنه جاء ليحرر قومه من المماليك. لم يتحرر فضل الله من خوفه من جسده.  ويبدو أن المكبلة أرواحهم بالخوف من أجسادهم لا يقوون على تحرير أجساد غيرهم. ومن هنا، يصبح التساؤل عن مصير فرانسواز مهمًا، فإن كان فضل الله رآها مستعمِرة لحواسه برائحة جسدها الشبقية وبعريها المفاجي، فإن في تحولها لاحدى فرق التصوف الكاثوليكي يوحي بتفاوض تم بين جسد مقيد وروح معذبة، فأخذ فضل الله من جسدها وأخذت فرانسواز من روحه في سياق تحول ثقافي في كل من مصر وفرنسا، لكنه تحول لم ينتج عنه سعادة للإنسان بقدر ما حقق من تقدم للدول.