فيلم "الحسناء والوحش".. قصة حب نمطية تكرس رؤية متدنية للمرأة
د. وجدان الصائغ - ناقدة عراقية، أستاذة بقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ميشيجان
تحت إلحاح الدوي الإعلامي المصاحب لفيلم "الحسناء والوحش" الذي تصدر الإيرادات في السينما الأمريكية، وبسبب الضجيج السياسي الخاص بامتناع روسيا عن عرض الفيلم لتضمنه مشاهد مخلة بالقيم الروسية، ورغبتي في مرافقة ابنتي الصغرى ليلك (١٥ عاما) لقضاء وقت معا خلال عطلة نهاية الأسبوع، توجهنا ذات صباح إلى قاعة عرض في جنوب مدينة ان اربر، حيث يحتشد رواد السينما لمشاهدة أحدث الأفلام الهوليودية مصطحبين أطفالهم أو فرادى.
تقدم هذه الدار عروضا متنوعة، ويمكن لأي شخص فيها أن يطلع على مضمون الفيلم إذا كان عائليا أو غير عائلي، في قوائم خاصة يمكن طلبها للتأكد من خلو الفيلم من مشاهد قد لا تناسب الأطفال أو قد لا تناسب توجها بعينه. توجهنا سراعا إلى بائع التذاكر، فالتذاكر الصباحية أرخص، فضلا عن التخفيض الخاص بطلبة المدارس وكبار السن الذين يتجاوزون الخامسة والستين. لم يكن الطابور طويلا لأننا وصلنا متأخرتين عن وقت العرض، ثم تحركنا بسرعة بين الأروقة الأنيقة للدار، اجتزنا محلات بيع الفشار الذي تتطاير رائحته في المكان وهي عادة تطيب للأمريكان خلال مشاهدة الأفلام السينمائية في دور العرض، فتجدهم يسيرون جماعات بين الأروقة يحملون أوعية ورقية بألوان زاهية مملوءة بالفشار عادة ما يكون بأسعار مناسبة وزهيدة. اجتزنا الممرات وصولا إلى قاعة العرض. قاعة كبيرة ومدرجاتها بمقاعدها مكتظة برواد منهم كبار السن وأطفال بأعمار مختلفة تصل إلى خمس سنوات.. الكل منصرف تحت أضواء القاعة الخافتة لمشاهدة الإعلانات التي تسبق الفيلم وهي عن الأفلام الكارتونية القادمة. وعادة ما تستغرق تلك الإعلانات الدقائق العشر الأولى من وقت العرض، وهو الوقت الميشجاني (نسبة إلى ميشجان) الذي يعطي فسحة للمتأخرين للالتحاق بالعرض دون أن يفوتهم شيء.
بدأ الفيلم بإيقاعات جميلة وألوان خلابة ساحرة تعرض جمال الوجوه بتصوير متقن، وحركة كاميرا متميزة تشعرك بأنك جزء من المشهد لا خارجه حيث حجم الشاشة العملاق وطبيعة ترتيب مدرجات قاعة العرض. كانت ابنتي بين الحين والآخر تشد على يدي لتبدي امتنانها وسعادتها لفرصة مشاهدة الفيلم معا. تطابقت أحداث الفيلم وحواراته مع النسخة الكارتونية. بل إن المشاهد يلمح تطابقا واضحا بين ملابس أبطال الرسوم المتحركة وبين الأبطال الحقيقيين. كل شيء متشابه.. الأغاني والأجواء والأبطال. انتهى الفيلم بأغنية للمطربة الكندية سيلين ديون، ولم يغادر الجمهور المقاعد كالمعتاد بعد وصول الفيلم إلى نهاية أحداثه، بل تسمروا على الكراسي استمتاعا بصوت سيلين.. غادرنا الصالة عائدين إلى البيت وفي الطريق تخللت حواراتنا أنا وليلك الكثير من التساؤلات عن الوحش الذي عشقته الحسناء بيل، وكيف استطاع الوحش الثري بأخلاقه الفجة ومزاجه المتقلب من إيقاع الحسناء بيل في حبه، لتزيل السحر عنه فيخلص منه بحبها؟ ولماذا لم تعجب بيل بجاستون الشاب القروي الفقير الذي لا يملك إلا وسامته وحبه لبيل؟ وما هو دور والد بيل في الفيلم؟ ولماذا لم تشارك الحسناء أية بطولة نسائية أخرى؟ لماذا ظهرت النسوة في الفيلم مجرد دمى ساذجة مفتونة بجسد جاستون وقوامه، عدا شخصية الساحرة التي لم نسمعها تظهر وتختفي لتغير مجرى الاحداث؟ لماذا سادت شخصيات الرجال؟ تلك التساؤلات وسواها كانت محور كلامي مع ليلك في رحلة عودتنا للبيت. تلك النقاشات أثارت في نفسي فيضا من التساؤلات وأنا أعيد ترتيب أجزاء الفيلم لأستكشف بعده الترميزي.
الفيلم بمجمله أسطوري لا يحمل جدة في العلاقة بين الإنسية الحسناء بيل والشخص المسحور (الوحش). ولا يحمل جدة في انتقال الوحش من جسد حيواني إلى جسد بشري.. وهو ديدن الحكايات الشعبية التي تركز على فكرة أن الاخلاق هي المعيار الإنساني الأساسي، وأن الشكل إنما هو وعاء عبثي لا يعول عليه.. لكن الذي أثار الأسئلة هو البعد الاجتماعي والثقافي والقيمي للفيلم ورؤيته المتدنية للمرأة، بوصفها كائنا مسلوب الإرادة أمام الثروة حد تناسي الفارق العمري والجسدي. يحصل هذا في إطار درامي متقن تتحرك فيه أحداث الفيلم بغرائبية لتضع الفتاة الجميلة المثقفة الحالمة الفقيرة في قصر الوحش الذي لم يمنحه الفيلم اسما. شكلت ملامح الوحش البشعة وقصره الفاره البؤرة الأساسية للفيلم الذي يضع الحسناء بيل في سياقات درامية تجد نفسها فيها مرغمة على إنقاذ والدها من غياهب السجن ومن سجانه (الوحش) لتكون مكانه ولينعم الأب بعد ذلك بالحرية ولتجد نفسها أسيرة قصر يحكمه وحش بقوانين لا مجال لمناقشتها.
تعيد الأحداث إلى الذاكرة فكرة الزواج بالإكراه، وزواج المقايضة القائم على مقايضة الجسد الأنثوي الذي يعود بالنفع على الأب. وهي فكرة تسندها أبعاد أظهرها الفيلم باتجاهات مختلفة، أولها افتتان والد الحسناء العامل المسن البسيط بزهور حديقة الوحش التي تدلت بشكل يثير الدهشة والتي لا تشبه الزهور الطبيعية فاقتطفها الأب تحت إسار تلك الدهشة ليكون ثمن تلك الزهور السجن الذي ستتم مقايضة الحسناء عليه. افتتان الأب الفقير بلمعان وألق الزهور وانبهاره بأبهة القصر الذي وفر له الطعام وأشبع جوعه يشير إلى الرؤية الطبقية التي تفصل بين الوحش في قصره المنعزل والأب الفقير، وهي رؤية طبقية تتكرس أيضا من خلال افتتان الحسناء بيل بالقصر ومقتنياته الثمينة (قدح الشاي المزركش وإبريق الشاي المذهب والشمعدان الذهبي والساعة الذهبية) التي أنسنها السياق الدرامي وشكلت مرايا تعكس حركة كل من الحسناء والوحش معا، لتفتح حوارات شتى عن الحب وشروطه. وتلك المقتنيات تنجح في معظم الأحيان بتقديم البراهين المقنعة للحسناء بأن الوحش هو الأفضل بين العشاق الرجال. وهي تسهم في تحريك أحداث الفيلم بدءا بإقناع الحسناء بالعدول عن قرارها بالفرار من غرفة النوم التي منحها الوحش إياها بأثاثها الباذخ بديلا للمكان الذي كان من المفترض أن تقضي عمرها فيه (السجن). كما تلعب المقتنيات الثمينة دورا كبيرا في إقناعها بمجالسة الوحش ومنادمته ومشاركته تناول العشاء، وفتح حوارات متعددة معه.
نجحت المقتنيات الثمينة التي هي الوجه الآخر للثروة في إقناعها بتقبل الوحش منذ الليلة الأولى لوجودها في القصر. وفي ذلك تلميح واضح إلى تقبل الحسناء الوحش جسديا ونفسيا منذ الليلة الأولى. وتصل الترميزات ذروتها مع احتدام الصراع بين الوحش بوجهه المتغضن والحسناء ببشرتها الغضة، حين تكسر الحسناء إرادة الوحش التي فرضها على القصر، وتستكشف بنفسها سر الغرفة المغلقة وسر الوردة المسجونة، ليفتح هذا الصراع ثغرة في طبيعة العلاقة التي تجمعهما والتي أراد السياق أن تكون علاقة السيد بالعبد لا علاقة ندية، كما أنها تكرس الثقافة الفحولية التي تسلب المرأة حقها في التعرف على ماضي الزوج المسن وتجاربه التي أغلق عليها الأبواب، ليس هذا فقط بل يضيء عنف المشهد بينهما طبيعة التعامل اللا إنساني الذي يقود الحسناء إلى الفرار من القصر ليلا تحت وقع الرعب النفسي. وتتابع الكاميرا سرعة أنفاس الحسناء المتلاحقة وهي تجوب الطرقات المعتمة بعيدا عن القصر، هلعة فزعة من فكرة مواجهة الوحش الغاضب، لتجد نفسها في العراء تحت جو عاصف وجها لوجه مع مجموعة من الذئاب المفترسة المتعطشة لنهش لحمها، وهي صورة تقليدية للعالم الخارجي الذي سيواجه الزوجة الغضة التي لن تستطيع حماية نفسها بمفردها بمعزل عن حماية الوحش، لأن الامان المؤكد وحسب الصورة النمطية في حضن الزوج المسن وثروته الطائلة وفي حمايته.
وتدور معركة بين الوحش والذئاب، ويكون الوحش المخلص الوحيد للأنثى الحسناء من ذئاب الطريق. ولم يتوقف الفيلم عند هذا الحد، بل أضاف إلى الوحش بعدا معرفيا لتجميل صورته حين تكتشف بيل عن طريق المصادفة ولعهما المشترك بشكسبير ومكتبته العامرة بالكتب، وهنا تنعطف القصة باتجاه استكشاف سجايا الزوج السجان الثري المسن. فتأخذ حواراتهما منحى عاطفيا رومانسيا يقف على غرض الوحش من علاقة الحب الذي يأمل من خلالها أن يستعيد وسامته وشبابه اللذين سرقا منه، وهو غرض يعيد إلى الذاكرة الموروث الفحولي الذي يمجد زواج الصغيرات، وفكرة أن الجسد الغض يعيد للجسد المسن وسامته وقوته، ويكرس هذا البعد نهاية الفيلم التي تتوج بزواج الوحش السجان الذي استطاعت بيل بحبها أن تمنحه إكسير الوسامة والشباب من جديد. ويضيء الفيلم من جانب آخر ثقافة غياب حق المرأة في اختيار الشريك، ويتمظهر ذلك من خلال إلحاح جاستون في طلب يد الحسناء من والدها على الرغم من معرفته التامة برفضها له وعدم تقبلها النفسي له، ويظهر الفيلم جاستون العاشق الولهان وهو يكرر طلبه ليد الحسناء في غيابها من الأب في سياقات مختلفة، علما بأن ذلك الأسلوب يدخل في إطار الزواج بالإكراه، إذ يكرر جاستون مرارا أنه سيتزوج الحسناء بيل رغم معرفته التامة بقرفها منه ولكنه يسعى بدلا من ذلك إلى التقرب من والدها.
ينسج الفيلم قصة حب نمطية بين الثري والفقيرة تنمو داخل أسوار القصر (السجن)، وهي ترتكز في مكنوناتها الثقافية الاجتماعية على متضادات حادة مثل الشابة الفقيرة الجميلة والوحش الثري، وبين نضارة الحسناء وتغضن جلد الوحش الذي يظهر في وجهه ويديه. وهي متناقضات تنتقل من داخل القصر (المكان البارد المعزول المعتم الساكن) إلى خارجه حيث قرية الفتاة (المكان الفقير الضاج بالحياة والعنفوان). وتلك الثنائيات تلقي بظلالها على التضاد الحاد بين بطلي الفيلم الفحلين: جاستون (الشاب الفقير الوسيم بقوامه وقوته وعنفوانه وتفاعله مع أبناء قريته) في مقابل الوحش (بثرائه وبشاعة ملامحه وقوامه المخيف وتاريخه المتخم بالإساءة للآخرين). متضادات تتحرك في إطار عجائبي يتمحور حول الصورة النمطية للمرأة إذ يظهرها الفيلم رغم ثقافتها (فالحسناء بيل قارئة نهمة وعاشقة للقراءة) بإهاب القصور الذهني والاستلاب العقلي أمام الثروة، فضلا عن غياب قدرتها على صناعة القرار الأهم وهو قرار اختيارها للشريك، علما بأن الفيلم لا يخلو من تفاصيل صغيرة تظهر الحسناء مالكة لزمام أمرها، لكن تلك التفاصيل لا تؤثر في مجرى الأحداث الرئيسية للفيلم الذي يجري مقارنة غير عادلة بين جاستون العاشق الشاب وبين الوحش العاشق المسن البشع الذي يفوز بقلب الحسناء.