الذين أحبوا مصر.. ومن كرهوا أهل مصر
عندما وصل عبدالرحمن بن خلدون، مؤسس علم الاجتماع فى العالم إلى القاهرة، حدثت له رجفة. كتب فى مذكراته أنه وصل إلى عاصمة الدنيا وبستان العالم وحاضرة الكون. وإيوان البشرية.
ما كتبه عبدالرحمن بن خلدون، كتب غيره وأكثر منه آخرون. لا أريد أن أستطرد فى ذكرهم. فعبدالرحمن بن بطوطة أشهر رحالة عربى عندما وصل إلى مصر وتوقف تماماً فى رحلته التى بدأت من شمال إفريقيا حتى الحجاز ووصلت إلى الصين. لكنه اعتبر أيامه التى عاشها فى مصر حجر الزاوية فى رحلاته جميعها.
وعندما جاءت الحملة الفرنسة إلى مصر ١٧٩٨ كان نابليون حريصاً قبل أن يتحرك من باريس أن يصطحب معه أهم العلماء الفرنسيين فى ذلك الوقت فى كل التخصصات لكى ينشغلوا بتدوين موسوعة – ربما كانت الأولى فى تاريخ البشرية وقتها – يكون عنوانها: وصف مصر. يقدمون فيها ما رأوه فى بر مصر من مظاهر الحياة، من العادات والتقاليد، من الأمثال الشعبية، من الموسيقى والغناء، من حياة الناس اليومية. فعل نابليون هذا قبل أن يصل لمصر. لأنه كان يعرف إلى أين يذهب؟ وما هو الشعب الذى يحاول أن يحتله؟ وما هى قيمته الحضارية الكبرى؟.
كثيرون وقعوا فى غرام مصر. لدرجة أن محبى مصر وعشاقها فى العالم يوصفون بأنهم أصابهم داء محبة أهل مصر ووادى النيل والمصريين أصحاب الحضارة الأولى فى التاريخ الإنسانى. وما زالت شواهدها قائمة حتى الآن. ابتداء من الأهرامات حتى آثار طيبة العاصمة المصرية الأولى. بل إن ما يوجد من الآثار المصرية فى باطن الأرض أضعاف مضاعفة لما تم استخراجه حتى الآن. بل إن بناء السد العالى وحفر قناة السويس ومحاولة قهر الصحراء ومواجهة التطرف والإرهاب. والتلاؤم مع ظروف الحياة الصعبة بطولات معاصرة لا تقل أهمية عن بطولات الماضى.
أدباء وكتّاب وفنانون تركوا بلادهم وحياتهم الناعمة فيها وجاءوا إلى مصر. وقضوا حياتهم بها رغم صعوبة الحياة. ربما قسوتها. لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالات كبرى وكتبوا عن فترات حياتهم فى مصر ما يمكن أن يشكل أسفاراً كثيرة لا أريد أن أبدد المساحة فى ذكر هذه الأعمال، فهى معروفة ومنشورة وعلى الملأ قصة ورواية وشعراً ونصوصاً مسرحية. بل إن كاتبة الروايات البوليسية الشهيرة أجاثا كريستى، كنت أهم رواية لها عن جريمة تحدث فى النيل.
هل أتوقف أمام لورانس داريل الروائى العالمى الشهير الذى عاش فى الإسكندرية فترة من حياته؟ وكتب رباعيته الشهيرة التى لم يُعرف ويشتهر له سواها، وعنوانها: الإسكندرية. وأحداثها تدور فى الإسكندرية. وأبطالها إما أجانب وقعوا فى غرام مصر وحبها وقرروا أن يقضوا ما بقى من عمرهم فيها، أو مصريون تعاملوا معهم واحتكوا بهم. وكانت هناك تجارب مهمة لهم من خلال حياتهم المصرية.
مصر دولة دور، كما يقول علماء الجغرافيا وأساتذة التاريخ. مصر دولة إقليمية عظمى. وليس فى كلمة عظمى أى تزيد ولا وصف بما لا يجب الوصف به. ولكونها دولة إقليمية عظمى. فقد جمعت بين الحب المطلق والكراهية التى بلا حدود. الأسباب كثيرة، ولو توقفنا طويلا أمام من أحبوا مصر، رغم أن المحب لا يسأل لماذا يحب؟ فسنجد أنفسنا أمام مجلدات لا نهاية لها من كتاباتهم التى كتبوها وهم هنا فى أحضان مصر.
أما من كرهوا أهل مصر والكراهية لا بد أن تكون لها أسباب سواء أعلنها الكاره أم لم يعلنها. طبعاً لست فى حاجة للقول أن الحب فعل إيجابى. فى حين أن الكراهية من أفعال السلب. فعل سلبى لا يقدم ولا يؤخر. ويترك الكاره وقد أصبح مكان قلبه حفنة من الرماد.
منذ فجر التاريخ كانت مصر مطمعاً للجميع. ما من مغامر عسكرى مهما كان شأنه إلا واعتبر أن المجىء لمصر واحتلالها أهم ما فى الحياة بالنسبة له. ومن يطالع تجربة نابليون قبل أن يأتى لمصر، أقصد تجربته السياسية فى بلاده. سيكتب أنه فعل ما يمكن أن يفعله سياسى فى بلاده. لكن هوى مصر أمسك بقلبه فأتى إلى مصر.
لم يكن نابليون حالة فريدة، فقبل التاريخ نجد أسطورة الإسكندر الأكبر، وأنا أقول أسطورة لأن من كثرة غرابة وقائعها يخيل إلىّ أحيانا أنها من صنع الشعراء والأدباء والكتاب. على الرغم من أن هناك الكثير من الأسانيد والإثباتات التى تؤكد وجود الإسكندر فى مصر ورحلته الشهيرة. ووصوله إلى واحة سيوة، ولو أن العمر امتد بهذا الشاب الذى اختطف فى ريعان شبابه، لكانت قصته مع مصر وقصة مصر معه من أهم فصول الهوى والغرام الذى يمكن أن يمسك بقلب إنسان ويقوده إلى مكان معين لا يفعل أى شىء سوى أن يعيش فيه.
كان يجب أن يكون لدينا قائمة بمن أحبوا بلادنا. خصوصاً من الأدباء والكتاب والمفكرين. وحتى من لم يجدوا فى أعماق قلوبهم سوى الكراهية التى ربما كانت ناتجة من الغيرة والإحساس بالنقص تجاه الكمال المصرى. كان يجب أن نسجلهم لأنه إن كان الحب فعلا يدفع الإنسان لأن يكون أفضل مما هو عليه فإن الكراهية ممكن أن تكون مفيدة.
لا تسألنى كيف تكون الكراهية مفيدة. لأنها عند التعبير عنها قد تدفع الإنسان لأن يسأل نفسه: ما هو الخطأ الذى ارتكبه وجعل مشاعر الآخرين تجاهه هى الكراهية؟ أو ما هو تصور الخطأ - لدى الآخرين – حتى لو لم يرتكبه وأدت إلى مساحات من الكراهية غير عادية، ربما دفعت الكاره لتصرفات وسلوكيات ومواقف ما كان يجب أن يقترب منها. لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يمكن – أو يجب – أن يفكر فيما يقدم عليه قبل أن يفعله.
قدر مصر وقدر أهل مصر أن يواجهوا طوفان الكراهية. يزداد كلما تقدمت للأمام، وكلما أحرزت سبقاً. وكلما قالت للدنيا من خلال أفعالها ومنجزاتها:
- لا مصر إلا مصر.
وكما أن الحب موجود فى الدنيا ونحن نسعد به. فإن الكراهية قد تحيط بنا من كل جانب وعلينا أن نحذرها وأن نتعامل معها وأن نعيش حالة من اليقظة التامة تجاه كل ما يمكن أن يخرج من الكراهية. لأن الكراهية تؤدى إلى الإحساس بالعداوة، وأذكر أن الدكتور سيد عويس – يرحمه الله رحمة واسعة – له كتاب بديع صغير الحجم مهم القيمة، كتبه بعد الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧، وكان عنوانه: محاولة فى فهم الشعور بالعداوة. ولأننى لا أذكر من الكتاب إلا المعنى العام. لا أحب أن أتكلم عنه. فربما يأتى كلامى بعيداً عما فى الكتاب.
لماذا أعود إلى الماضى القديم وكأن الحاضر لا يوجد فيه إلا الكراهية؟ وقد خلا من الحب. وهذا غير صحيح. قبل سنوات قليلة جاء إلى مصر الروائى البرازيلى العالمى باولو كويلو، وله رواية عن مصر هى: ساحر الصحراء. وكانت بينه وبين دار الهلال وقتها مشكلة، تحدث معى فيها. وهى أن الدار طبعت ترجمة بهاء طاهر لروايته دون أن تتعاقد معه وأن تسدد له حقوقه المالية. لكن الواقعة الجوهرية التى دفعتنى لتذكر باولو كويلو ورحلته المصرية، أن هذه الرواية بيعت فى مصر وحدها خلال وجوده فى مصر الذى لم يتعد الأيام القليلة نصف مليون نسخة. وهو ما لم يحدث لتوزيع أى كتاب آخر حتى الآن.
من باب التذكير فقط أقول إن بطل الرواية اسمه سانتياجو، وهو نفس اسم بطل رواية: العجوز والبحر لأرنست هيمنجواى. وأنه يتصور أن الحقيقة الكامنة فى الوجود كله موجودة فى كتاب، والكتاب فى قلب الهرم فى مصر، وتبدأ الرحلة بحثاً عن حقيقة الدنيا كلها. الموجودة فى مصر. وهى الرواية التى صنعت مجد باولو كويلو، على الرغم من أنه كاتب غزير الإنتاج يصدر كل عام رواية جديدة، إلا أن ساحر الصحراء أهم نص كتبه فى حياته. ولو أن الرجل كان منصفاً أو أنه زار مصر قبل أن يكتب روايته لسماها: ساحر مصر.
تعالوا نفتح أحضاننا لمن أحبوا مصر.
ونفتح عقولنا لمن كرهوا مصر، الكراهية لا تولد سوى الكراهية، ولكننا أهل مصر أصحاب أقدم حضارة فى التاريخ. ونحن الذين اهتدت البشرية من خلالنا للضمير الإنسانى، وكما يقول عالم المصريات العظيم جيمس هنرى بريستيد، إنه لولا أهل مصر ما عرفت الإنسانية الضمير. والكتاب الذى يقول فيه هذا الكلام عنوانه: فجر الضمير، وقد ترجم قبل نصف قرن. ولو بحثت عن نسخة منه لن تجدها على الإطلاق.
لا أطالب بأن ننهزم داخلياً أمام من يكرهوننا. فالكاره عدو، ولذلك بعد فهم كراهيته لنا لا بد أن نبادله كراهية بكراهية. ذلك هو منطق السلوك الإنسانى.