"ضيوف ثقال الظل".. واقع بلغة الفانتازيا
عِذاب الركابي - كاتب عراقي
"إن من كتب كتابة واقعية عن العالم، فهو يكتب قصة فانتازية، لأن العالم نفسه فانتازي، وبعيد الغور وغامض" خورخي بورخيس!
في مجموعته "ضيوف ثقال الظل" يقدم القاص جعفر العقيلي قصصا عن الواقع المعيش، بلغة الفانتازيا المموسقة بشاعرية دافئة.. وعالية! ففي القصة الأولى “الرأس والمرآة” يكتب ويرسم! يكتب ليستنطق ذاته والآخر، عبر القصة “الصورة – المشهد”، والأسلوب وخليط متناغم من الواقعي والفانتازي والسريالي والمتخيّل، والبطل رأسه نواة جسده الذي بدا خلية نحل، وهو يرمز لحالة التشظي والتهدم الروحي التي يعيشها الراوي. والكاتب حين يرسم لا ليصبح “سنتورا أو إلها” كما يعبر أنطونيو تابوكي، بل ليستنطق الواقع، الحياة، الكون، الأشياء، فتأتي القصة بتقنية لوحة سريالية شديدة الإيحاء، وباعتراف السرياليين فإنهم لا ينفصلون عن الواقع! تُقرأ القصة كقصيدة سريالية متمردة، يراها منظرو هذا الفن العظيم “انفجارا عجيبا” و”انفعالا مكثفا” و”مفاجأة ساحرة”، وهذا لا يربك نسمات فضائها السردي الإنساني الموحي إذا ما قُرِئت بتقنية اللوحة.. والإبداع كائن حربائي!
وبهذا يظهر جعفر العقيلي كاتبا فانتازيا بامتياز! وبأسلوبه الشذري المقتصد في لغته، المثير في عباراته الإيحائية الجمالية، يمتلك كل عناصر المتعة والتأمل لقارئه، وهذا مصدر الجذب في قصصه. ولأن "الذاكرة لا تبقي إلا المشاعر التي تحركنا" كما يقول الفنان التشكيلي ديلاكروا، فإن لدى بطل قصص المجموعة إحساسا عاليا بثقل غربة المدينة التي وجد الراوي – البطل نفسه فيها، يقاوم بقلب مرتجف قساوتها، ووحشتها، وهو ليس الأول في تاريخ السرد الإنساني، فقد عانى قبله أبطال ديكنز المدينة التي رآها “حالة مشوشة من التفاصيل”، وتوماس هاردي وقد رآها أيضا “غول جسمه يمتلك أربعة ملايين رأس، وثمانية ملايين من العيون”، ودستويفسكي هو الآخر قال عنها “بيت نمل مدنس يعيد تنظيم نفسه”.. والراوي مشوش هو الآخر بفوضى هذا الكم من الأصدقاء الحقيقيين والوهميين معا. تلك صورة المدينة – الصحراء الحجرية، ولا عنوان لمكان فردوسي فيها، فقط بطء وثقل وتكلف وزخرفية الحياة فيها، مقارنة بالبساطة والهدوء والتلقائية والألفة والحميمية بلا حدود في القرية، حيث يربط أبناءها النقاء، وهم يتبادلون التحيات الصباحية الطازجة، وليس المنفعية والمصلحية التي تلون جلّ العلاقات في المدن: "وأولئك الذين لا أذكر أين ومتى وكيف التقيتهم، شاهدتهم جميعا يتناسلون من الدخان، ويحيطون بي، يحاصرونني بأجسادهم الأثيرية من دون رحمة بي، أو شفقة عليّ".
في قصة “انتصار” للجسد لغة، وهو برؤى أميلي نوتومب “اختراع مقدس”، ونواة الجسد الرغبة – الشهوة “أعلى سلطة في الجسد” كما يرى سارتر. والجسد في ظمأ دائم للحرية، المرادف للوجود، وهو ما يبقي على الروح استمرارها ونضارتها وطربها ورقصها الحياتي، برؤى الراوي – البطل، والكاتب معا، وليس الجسد “مبيح الخطيئة” أو “مصدر الشرور والفساد” كما يرى القديس بولس. في هذه القصة جدل العلاقة الجسدية “الجنس”، والعلاقة في القصة مكتوبة بأبجدية الواقع بإيقاع فانتازي، ممزوجة بفسفور الطرافة والسخرية المؤذية، المنبعثة بقوة وإصرار من براكين جسد ثلاث شخصيات مهمة في القصة “أبو عقاب” و”رضوان” و”فضة “. البطل الأول “أبو عقاب” يعاني عجزه الجنسي الحقيقي والوهمي معا، وهو يراه عقوبة وذنبا حملته إياه أمه وأسرته في إصرارهم على زواجه ورؤية خلفه، وهو يجهل أسباب هذا العجز البلاء الحياتي والنفسي الذي يميته في كل مرة إحباطا ويأسا، كلما تفتق لسان “رضوان” عن بلاغة سخرية عالية، عبر كلمات ملغزة شامتة متشفية في “أبو عقاب”. وهدف”رضوان” من هذه السخرية التي يتفنن فيها بمناسبة وغير مناسبة، وهو يزيد في أذيته، رغبة متوحشة، وحلما بعيدا في أن يحل محله، ويأخذ مكانه زوجا للتمتع بجمال “فضة” التي تؤذيها الرغبة.. والظامئة كـ”بقرة” أبي عقاب، و”دجاجة” أم محمود لأن تتحرر بكهرباء شهوتها ورغبتها وتنجب أيضا و”لا شيء يؤلم الجسد كالرغبة” كما يقول كارلوس فوينتس، "ما فرغ من جملته، حتى قفز إلى ذهنه ذلك الديك الذي يضرب على الوتر الحساس، حين يذكرهُ برجولته الناقصة".
وكما الحرية المرادف للوجود، كذلك “الجنس” فهو تحرر و”تطهير” و”باعث الحيوية” برؤى هنري ميللر.. وحياة “أبوعقاب” رهينة هذه الحاجة التي تفيض من حروف أبجديتها الحياة، ودونها الوجود لا شيء، قلق مفض إلى موت معنوي أقسى من موت مادي. وموت “الديك” يعني نهاية حياة “دجاجة” أم محمود، وحزن “فضة” حتى الصدمة، قد حرّك الدماء في مفاصل جسد “أبو عقاب”، وهو يمني نفسه الكسيرة الحزينة بلحظة فرح.. لحظة حرية.. لحظة انعتاق.. حين تتقد نارالشهوة، حتى لو كانت “شيطانا” في فقه مجمل الديانات!
في قصّة “ضجيج” مونولوج عن الذات. كتابتها بدموع اللحظات وهي من حجر الوقت، ورمل الواقع، حيث يصبح الراوي – البطل نهب هواجس باتساع الوحدة والعزلة التي يعيشها، وكان يطمح أن يعيش الحرية التي يحلم. هذا القروي الذي كان ينعم بهدوء ودفء وحميمية القرية فيتامين وجوده، قد انحاز لهواجسه وأحلامه الخلبية التي بدت بفقه الروح آثمة، وهو يحلم بالعيش في المدينة، وأقصى الحلم بيت بسيط يجد نفسه فيه إنسانا حرا، وصار يظمأ حتى لدبيب نملة في هذا البيت الذي أصبح الحلم فيه كابوسا مفزعا، بل كوابيس نهارية ليلية: "وأخيرا أصبح لي بيت أسكنه ويسكنني". وعبر “التخيّل”، يتجسّد الجنون بالمكان، أو الإصابة بـحب المكان، كما يسميه ميلان كونديرا الذي يمنحه قسطا وافرا من الحرية. تتحدث عبر المنولوج الذات عن ذاتها، ولأننا “لا نكتب شيئا خارج الذات” كما تقول مارجريت دوراس، فإن الذات – الكاتبة الأمّارة بالبوح تفضي بأسرارها، والراوي – البطل هو من يعيش مرارة وقسوة هذه الهواجس.
الماضي لا يموت أبدا.. فوكنر
في قصة “نقوش الراحلين” لم تعد الكلمات رموزا فحسب، بل صوتا، وإيقاعا، وموسيقى، و”الراحلون” حقيقة هم “حاضرون” مجازا عبر أوركسترا الحنين – النوستالوجيا العالية التي يذكي جمرها في رماد الروح العاشقة الماضي وهو “أكبر من الحاضر”، كما تقول سوزان سونتاج، والإنسان ماضيه، والماضي بتقنية وحضور اللوحات التي تظل حاضرة مطبوعة على قماش ذاكرة جسور، لا تجد أفعى النسيان طريقا إليها.
في قصص جعفر العقيلي ضمير المتكلم – الراوي – الشخصية بإيقاعها السيكولوجي حجر الأساس في بناء القصة. وشرط في كتابة الذات، وهذه من صفات السرد الموضوعي – الواقعي – الفانتازي الذي مرجعيته البوح.
في هذه القصص عنصر التخييل المقرون بفانتازيا موقظة، ليست هروبية، ولا محبطة، تحييها في القلب والعقل معا مهارة الكاتب، حين تقرأ الجملة الأولى والأخيرة قد بدأتا معا، والفضل لقريحة صافية لا تهدأ، ومثابرة أصابع تزهو بلحظات جنون الكتابة والإيحاء، عبر لغة باذخة الحميمية، لا تبتعد عن ملامح وهواجس الراوي – البطل في كل قصّة. وهي تأخذ الشكل الصحيح، والتوازن الصحيح أيضا. حتى ترتيب وإيقاع الكلمات إلى أن تأتي منغمة. شفافة، مندلقة من جسد الكاتب على الورق مباشرة، بهذا الشكل الممتع شديد الإثارة.. شكل مزيج من الواقعي – الجمالي والفانتازي الشاعري في إيحاءاته، مؤسسا لبنية سردية مستثمرة للكلمات والأخيلة والرؤى معا!