د. محمد فتحي فرج - كاتب مصري
الأستاذ أحمد حسن الزيات (1885 ـ 1968) واحد من أدباء العربية الكبار شأنه شأن العقاد، والدكتور طه حسين، وميخائيل نعيمة، والمازني، وتوفيق الحكيم، وجبران خليل جبران، وأحمد أمين، والدكتور زكى مبارك، وغيرهم. وقد نشأ الزيات مثل طه حسين نشأة أزهرية، ومن ثم فقد ورد ذكر اسمه ضمن مذكرات أو "أيام" طه حسين عدة مرات.
وقد أسهم الزيات بجهوده المباشرة وغير المباشرة فى إثراء الأدب والفكر العربيين على مدى عدة عقود سواء من خلال آثاره الأدبية المتنوعة، أو ما قام به من تحرير المجلات الأدبية الرائدة التى قام بتأسيسها أو الإشراف عليها كمجلة "الرسالة" ذائعة الصيت فى إصدارها الأول والثانى، وكذا مجلة "الرواية"، أو من خلال تحريره وإشرافه فى أخريات حياته على مجلة "الأزهر".
ومن خلال التصاقه المباشر بالصحافة الأدبية والدينية كان لا يترك مناسبة قومية أو اجتماعية أو دينية إلا وكان له حولها إسهام واضح كلما حان وقت هذه المناسبة، ومن ثم فقد حظى شهر رمضان وعبادة الصيام بنصيب كبير من جهده الأدبى والفكرى نحاول في هذه الصفحات أن نتعرض لبعض هذه الجهود والإسهامات.
يقول الزيات فى استقبال شهر رمضان: رمضان هو ربيع الأرواح، فهو صيام للجوارح عن الأذى، وفطام للمشاعر عن الهوى، يستقبله الناس بعد أحد عشر شهرا قضوها فى صراع المادة، وجهاد العيش، تكدَّر فيها القلب وتبلد فيها الحس، وتلوّث الضمير فيجلو صدورهم بالذكر، ويُطهر نفوسهم بالعبادة، ويزوِّد قلوبهم من مذخور الخير بما يُقوِّيها على احتمال الفتن والمحن فى دنيا الآمال والآلام بقية العام كله. لذلك كان رمضان فى الشرع الإلهى طهورا من رجس العام، وهدنة فى حرب القوت، وروحا فى مادية الحياة!
ثم يقول: رمضان هو التمرين السنوى للنفس، يشترك فيه المسلمون فى جميع أقطار الأرض، فيصومون فى وقت واحد، ويفطرون فى وقت واحد، وينصرفون عن الملذات الحسية والنفسية ليتجهوا بالتأمل والتعبد والخشوع إلى الله، فيغضوا أبصارهم عن المنكر، ويكفوا ألسنتهم عن الفحش، ويصموا آذانهم عن اللغو، ويغلّوا أيديهم عن الأذى ويصدّوا أهواءهم عن السوء، وتلك هى العناصر الجوهرية لعقيدة الصوم. (وحى الرسالة: الجزء الرابع، ص 169).
الصيام علاج لأمراض اجتماعية
كان الزيات ينظر إلى شهر رمضان وإلى عبادة الصيام نظرة اجتماعية، فيرى أنهما وسيلة ناجعة لعلاج أمراض اجتماعية ونفسية كثيرة متوطنة فى المجتمع لدى كثير من قطاعات مختلفة، فيسهم هذا الشهر وهذه العبادة فى تعديل مسار الإنسان فى حياته وهذا يصب فى النهاية فى مصلحة كل من الإنسان والمجتمع على حد سواء. يقول الزيات فى واحد من مقالاته بمناسبة وداع شهر رمضان بأسلوبه الأدبى المميز الذى لا يخلو من إثارة الفكر مثلما يثير من الإنسان العواطف: اسألوا أنفسكم هذه الأسئلة ثم أجيبوا عنها، وأنا معتقد أن أجوبتكم ستكون بالإيجاب، وإلا لما حزنتم على انقضاء رمضان وأسفتم على انقطاع الخير فيه، فإن المرء لا يحزن إلا على عزيز، ولا يأسف إلا على نافع. فلماذا إذن لا تجعلون سائر الشهور كشهر رمضان؟ لماذا لا تستمرون فى الصيام عن ظاهر الإثم وباطنه، فتغلوا أيديكم عن الأذى، وتصونوا ألسنتكم عن الكذب، وتطهروا قلوبكم من الرجس، وتنزهوا مكاسبكم عن الحرام، وتبرئوا أعمالكم من الغش، وقد جربتم ذلك فى رمضان فنفعت التجربة وحسنت العاقبة.
ثم يتساءل ليستنكر سلوكا معوجا ويحض على سلوك آخر مستقيم: لماذا لا تُضيِّقون الكلفة (التكلفة والإنفاق) فى القهوة (المقهى) لتوسِّعوا النفقة فى البيت، وتقتصدون قليلا فى الأنس بالأصدقاء لتوفروا كثيرا من الأنس بالأسرة، وقد فعلتم ذلك فى رمضان فاعتدلت الحال وطابت المعيشة؟
هذا السكير الذى استطاع أن يهجر الخمر ثلاثين يوما وثلاثين ليلة، فزكا قلبه، وامتلأ جيبه، وصحَّ بدنه، لماذا لا يواصل العيش ـ بعد رمضان ـ على هذا المنهاج وقد علم بالاختبار أن هذا الهجر قد نفعه ولم يضره، ويَسَّر له ولم يُعسِّر عليه؟ وهذا المدخن الذى ترك التدخين ثلاثين يوما فأراح صدره وسكن أعصابه، وقوى شهيته، لماذا لا يستمر صائما عنه ليله ونهاره، وقد رأى أن فى طاقته الاستغناء عنه والحياة بدونه؟
ثم راح الزيات يُعَدِّد كثيرا من الحالات النفسية والسلوكيات الأخلاقية التى عالجها وصحَّح مسيرتها الصيام فى شهر رمضان، وتساءل فى شيء من الحض على الاستمرار عليها بعد رمضان، فيقول: وهذا القوي الذى كان وهو صائم يمر باللغو كريما، فيقابل الذنب بالمغفرة، والسيئة بالحسنة، والقطيعة بالصلة، فوصل السلام بين قلبه والأمن، وقرب الوئام بين نفسه والسعادة، لماذا لا يحرص على هذا الخلق وهو مفطر بعدما جنى من خيره فى أربعة أسابيع ما لم يجنه من غيره فى العام كله؟ وهذا التاجر الذى راضه الصوم على أن يقف نفسه عند حدود الله فى التجارة لم يطفف الكيل، ولم يخسر الميزان، ولم يقارف الاحتكار، ولم يغش البضاعة، ولم يرفع السعر ثم تحقق من جدوى ذلك عليه فى رضا ربه وراحة ضميره ومصلحة وطنه، لماذا لا يلزم نفسه ذلك فى كل وقت بعد أن استمرأ طعم الحلال وأدرك لذة الحق؟ وهذا الغنى الذى ذاق فى رمضان ألم الجوع، وكابد مشقة الحرمان، ثم استطاع بالصدقة أن يخفف عناء الفقر عن فقير، ويدفع شر الحاجة عن محتاج، لماذا لا يشعر دائما أن الجوع بعد رمضان باقٍ، وأن العوز فى أكثر الناس قائم، وأن للسائل والمحروم حقا لا يتقيد أداؤه بيوم، ولا يتخصص قضاؤه بصوم؟
وبهذا يخلص الزيات إلى أن رمضان شهر استشفاء وموسم رياضة نُرَوِّضُ فيه أنفسنا على الخير لتمرن عليه، ونعالجها به من الشر لتبرأ منه. وليس الغرض من هذ الرياضة وهذا الاستشفاء أن يُحدثا أثرهما الطيب فى حياة المرء فى شهر بعينه، فإن ذلك يخالف حكمة الشارع من الصوم، ويناقض منطق الأشياء فى الواقع. فالمريض الذى يطلب العافية فى مدينة من المدن الطبية لا يطلبها للمدة التى يقضيها فى المصحة، وإنما يطلبها لتكون عمادا قويا لِما وهَنَ من جسمه، وزادا صحيا لِما بقى من عمره. وما أبعد المسلم عن الإسلام إذا كان يعتقد أن الصلاة لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر إلا وهو فى المسجد، وأن الصوم لا يعصمه من اللغو والأذى إلا فى وهو فى رمضان، وأن الزكاة لا توجهه إلى المعروف والخير إلا وهو فى العيد، ولكل هذا فالحزن على وداع رمضان تقوى وبر؛ لأنه حزن على خير مضى وأنس فات! (وحى الرسالة: الجزء الرابع، ص 359). ولهذا أعجبنى واحد من أئمتنا حينما قال: هل جاء رمضان ليحرس لنا الدين، أم أن رمضان يجئ ليُدَرِّبَنا على أن نعيش بخلق الصفاء فى كل الأزمنة؟ والحق سبحانه حين شرع الصوم فى رمضان إنما أراد أن يشيع الزمن الضيق ـ زمن رمضان ـ فى الزمن المتسع وهو مدار العام. ونحن نصوم رمضان فى الصيف ونصومه فى الشتاء وفى الخريف والربيع، إذن فرمضان يمر على كل العام!