عرفة عبده علي - كاتب مصري
قال عنها رحالة المسلمين ابن بطوطة: "ودمشق هى التى تفضل جميع البلاد حُسنا وتتقدمها جمالا، وكل وصف وإن طال فهو قاصر عن محاسنها". وكتب ابن جبير عنها: "وأما دمشق فهى جنة المشرق ومطلع نورها المشرق. وعروس المدن التى اجتليناها، قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت فى حلل سندسية من البساتين، وحلت موضع الحُسن بالمكان المكين. إن كانت الجنة فى الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت فى السماء فهى تساميها".
وعبر دخان مبخرة شرقية ترحل إلى دمشق فى زمانها الجميل. كيف كانت؟ وكيف كان يستقبل أهلها أيام هذا الشهر الكريم، ونستعرض العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة التى ميزت حياة الدمشقيين خلال شهر رمضان، ولدوا وعاشوا فى ظلالها.
دمشق فى نهاية القرن التاسع عشر كانت تجسد مشهدا رائعا لمدينة ألف ليلة وليلة الغارقة فى واحة خضراء من الحدائق والبساتين الرائعة والمتنوعة ما بين لوز وتين ورُمان وأشجار المشمش والتفاح وكروم العنب. ونهر بردى وهو عصب الحياة فى دمشق، وعلى ضفتيه تتناثر المقاهى والمتنزهات الجميلة تظللها أجمات الأشجار، ومجموعة من البحيرات الصغيرة المحاطة بأدغال كثيفة، وبين دمشق وتلك البحيرات تمتد المنطقة الخصبة الشهيرة بـ"الغوطة" والتى تضم عدة قرى تحيطها أشجار الحور والجوز والطواحين وأكواخ الصيادين ومشاتل البرتقال والرُمان والمشمش والكرز والتوت والزيتون والليمون وغيرها.
ومثل جميع المدن الإسلامية، تتمحور دمشق حول مسجدها الجامع "الأموى" تحيط به الأحياء والدروب والأسواق وعدد من القصور الفاخرة. وأسواق دمشق حظيت باهتمام ودراسة الباحثين الأجانب، وهى عبارة عن دروب وأزقة متداخلة فى جميع الاتجاهات تتصل ببعضها عبر مفارق وممرات مظللة وتكثر فيها الخانات والأروقة التى تظللها أشجار الحور والكافور، وأسواق دمشق صاخبة بالحياة، والدمشقيون ذوو طبع مرح وكانوا يحبون الحياة فى أجواء الفرح والمتعة والطرب والرقص خاصة فى المساء، وأصبحوا يعيشون الآن على وقع الرصاص والدمار والمشاهد الدموية اليومية.
من أبرز أسواق دمشق "خان أسعد باشا" عبارة عن بناء قديم وجميل من الأحجار الضخمة، تحيط بقبته المركزية أروقة وممرات وسلالم حجرية تقود إلى حوانيت ومخازن تتكدس فيها شتى أنواع البضائع. ثم سوق "الحميدية" الشهير، المسقوف ويمتد طوليا لنحو كيلو مترين ويغص بمتاجر الملابس والمنسوجات، ومحال الحلوى: الفستقية السمسمية، الجوزية، اللوزية، ومنها ما يباع على عربات صغيرة. أيضا أسواق: البزورية، الهال والسوق الطويل. وأحياء: القيمرية، الشاغور، العمارة، باب بريد، الحيمرية وباب مصلى. وبعض الخانات: النشا، الدخان وقصر العظم. وفى هذه المدينة التى كان يسكنها التاريخ. انتشرت الحمامات بالطراز الدمشقى الفريد وثراء نقوشها وألوانها. ويشتهر سوق "البزورية" بتجارة المكسرات بصفة خاصة، من فستق وبندق وجوز ولوز وما يصنع منها من حلوى، بالإضافة إلى الفواكه المجففة والعصائر والبهارات وقمر الدين. وسوق "الصاغة" وهو عبارة عن رواق طويل مظلل تنتشر على جانبيه العقود وحوانيت صغيرة، وفيها كنت تشاهد الدمشقيات من الطبقة الراقية محجبات بمعاطفهن البيضاء والنقاب الشفاف الأبيض أيضا . ولا يمكن أن نغفل "سوق الكتب" والمخطوطات خاصة نسخ القرآن الكريم.
وشهر رمضان، كما هو واحة للعبادة ولعمل الخير والتقرب إلى الله. فهو أيضا فرصة للفرح والتواصل الاجتماعى. وفى دمشق، كانت الاستعدادات لرمضان تبدأ منذ منتصف شهر شعبان، بتعليق الزينات والتفنن فيها على واجهات المنازل ومنارات المساجد وفى الشوارع والحارات، وتتنافس العائلات الدمشقية الثرية فى تجديد فرش المساجد وتزويدها بالقناديل الجديدة والمسارج الفضية، وكالعادة يبدأ تخزين المواد الغذائية والمكسرات. وتتعدد مظاهر الاحتفال بليلة الرؤية، فى أضواء القناديل والفوانيس الملونة، وألعاب الفروسية بالسيف والترس، وتطلق المدافع ويتبادل الجميع التهانى "شهر مبارك إن شاء الله"، ويحرص الدمشقيون على السهر جماعات ليلة الرؤية، سواء فى الدور والبيوت أو فى المساجد أو فى المقاهى. حتى موعد السحور.
المسحراتى
ولكل حي مسحراتى خاص، يضرب بدقاته التقليدية على "البازة" وأحيانا يدق أبواب المنازل ويترنم بأهازيج متوارثة بسيطة المعانى ويحث الناس على القيام وطلب المغفرة، وينادى الرجال بأسمائهم ويتفنن فى توزيع "التحايا" داعيا لهم ولآلهم بطول العمر وسعد الأيام وأن تتحقق لهم الأمنية بالحج إلى بيت الله. ويتكون السحور عادة من أكلات خفيفة: جُبن وزيتون ولبنة وقمر الدين، وشراب التمرهندى، ومربى المشمش أو التفاح. وعقب السحور يذهب معظمهم إلى المساجد لقراءة القرآن والتعبد بالنوافل من الصلاة والدعاء حتى آذان الفجر. وللمهنة أصولها وأسرارها، يتوارثها الخلف عن السلف وشروطها: الأمانة والعفة والتدين ومعرفة دروب الحى وأزقته وبيوته وعائلاته، وفى كل ليلة يعود المسحراتى مملوء الوفاض بالحلوى والمكسرات والنقود، وفى نهاية الشهر الفضيل له الكعك والعيدية.
وتبدع "ست البيت" الدمشقية فى إعداد مائدة الإفطار. بينما الأطفال فى الساحات والحارات ينتظرون انطلاق دوى المدافع، لتنتقل الفرحة إلى أجواء البيوت، ست البيت أمضت نهارها فى تحضير المشروبات وأشهى الأكلات والحلويات التى تتفنن فى صنعها، وتصف منقوع قمر الدين أو عصائر الفواكه أو شراب العرقسوس والتمرهندى وشراب الورد على حواف "نافورة" البيت، وتزدان الموائد بأنواع الشوربة والسلطات و"الفتوش – سلطة فاتحة للشهية تتكون من كسرات من الخبز المحمص مضاف إليها الخيار والبندورة والبقدونس والخس والنعناع والخل وزيت الزيتون والتوابل" ثم الأطعمة المختلفة من المحاشى بالأرز واللحم وأطباق الخضار المطبوخ، والكبيبة الشامية.
ومن التقاليد التى اشتهر بها الدمشقيون والسوريون عامة ما يعرف بـ"السكبة" أى تبادل الأطعمة المحببة بين الأهل والجيران. وأكثرهم يفطر على البلح ورشفات من منقوع قمر الدين ثم يصلى المغرب فى البيت أو المسجد. وعقب تناول الإفطار، توضع أباريق الشاى على "السمارو" التى كانت منتشرة، وإلى الحين، يتناولون الفاكهة بأنواعها وعلى رأسها: المشمش والتفاح والكرز.
ثم يخرج الرجال والشباب إلى المساجد لصلاة العشاء والتراويح، وقد تتوجه بعض السيدات لزيارة الأهل والجيران – زيارات تبادلية – أو لشراء بعض حاجات البيت، وعقب صلاة التراويح، يتوجه الرجال لقضاء سهرة رمضانية لدى بعض الأصدقاء، أو يجتمعون بأحد المقاهى والاستماع إلى ـ"الحكواتى". فى ذلك الزمان، قبل سيطرة التلفاز والفضائيات على حياة الناس! والبعض من الشباب يقضون سهراتهم الجماعية فى إحدى الساحات برقص "الدبكة" على أنغام الأغانى الشعبية المتوارثة، وبعض الألعاب المسلية.
المشمش الحموي والفستق الحلبي
كانت "الغوطة" من أهم معالم دمشق، كالجامع الأموى، وهى بستانها وسهل غذائها وسلة فواكهها، وكانت مساحتها فى ذلك العصر نحو 30 ألف هكتار، وتنتشر مزارع الفواكه فى الغوطة الشرقية، وأهم منتجاتها تمر المشمش، المتوطن فى غوطة دمشق منذ قديم الزمان، ويوجد منه نحو عشرين نوعا أشهرها: الكلابى والبلدى والعجمى والحموى والتدمرى والأمريكانى والفرنساوى. وأفضل ما يمكن تحويله إلى قمر الدين هو: الكلابى والحموى (نسبة إلى حماة ثانى أكبر المدن السورية بعد دمشق، وهى بلدة النواعير) ويصنع منهما أيضا المربى، أما البلدى وسائر الأنواع فهى للأكل والنقوع. ويصنع نحو 10 آلاف طن من قمر الدين، يصدر معظمه إلى دول الخليج العربى ومصر، والبعض منه إلى إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، ويصدر نوى المشمش، الذى يشبه حبة اللوز إلى السويد وبعض دول أوروبا حيث يصنع منه السكاكر والمعجنات بعد معالجته من المرارة. وتنتشر معاصر النوى، حيث يستخدم زيت النوى – بعد معالجة المرارة – فى الطعام، وكنت ترى تلال قشور نوى المشمش المعدة للتصدير إلى بعض البلدان، حيث يستخدم بعد طحنه فى تبطين بعض الآبار النفطية، كما يستخدم أيضا بديلا للفحم حيث يحتفظ بالحرارة بشكل جيد، كما يستخدم أيضا فى نوع من الخشب المضغوط، ويقول الدمشقيون إن المشمش ثمرة مباركة، متعددة الفوائد، غنية بالحديد والفيتامينات ويقى الجسم من الإنهاك والشعور بالتعب خلال الصيام، والعرقسوس هو أحد المشروبات المفضلة بعد شراب قمرالدين، ومثلما نشاهد فى مصر، نجد باعته يجوبون الشوارع والحارات بطاساتهم النحاسية يوقعون بها أنغاما مميزة "عطشان تعالى اشرب وخد منى كباية" و"العرقسوس شفا النفوس".
أما الفستق الحلبى فقد جابت شهرته الآفاق وتعدد أنواعه منها: الماوردى والعاشورى والباتورى والعليمى وناب الجمل وفستق بوظة والسودانى، وموسم قطافه فى الصيف، وهو عنصر أساسى فى صنع الحلويات السورية، خاصة الفستقية والمعمول والكنافة والقطائف والبرازق وكرابيج حلب و"حلى سنوك" و"كل و اشكر"!
الحكواتى
كان لليالى رمضان بهجتها ورونقها، وبعض العادات والتقاليد تغيرت بتغير الأزمان والأجيال. كان الدمشقيون يحرصون على الاستماع إلى "الحكواتى" مثلما كان القاهريون يستمعون إلى "شاعر الربابة" فى المقاهى أيضا، ينشد السير الشعبية الشهيرة فى جو من البهجة الغامرة حتى السحور. كان الحكواتى من أبرز مظاهر ليالى رمضان، تماما مثل قمر الدين والكنافة والقطايف وفوانيس الأطفال وفرحتهم الملونة. حيث كان يتصدر المقاهى، على مقعد من الخشب المخروط "الأرابيسك" يزدان بطنفسة نُـقشت عليها رسومات ملونة من الخيال الشعبى. أو فى أحد الأحياء القديمة، مرتديا الزى المميز لأبناء الشام – فى ذلك العصر – السروال الأسود الواسع وصديرية ومعطفا وشماغا. وكان يروى شفاهة أو يقرأ من كتاب: بعض السير الشعبية الشهيرة مثل أبو زيد الهلالى والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة وعنترة بن شداد وحكايات من ألف ليلة وليلة. بينما تنتشر قرقرة النارجيلات وطلبات القهوة العربية والتركية.
وفى "ليلة القدر" يحرص الدمشقيون على إحياء هذه الليلة المباركة، والعشر الأواخر من رمضان، ومنهم من يعتكف بالمساجد، والجميع عقب صلاة التراويح ما بين مصل أو قارئ للقرآن والأوراد والأذكار والدعوات، كما يحرص البعض على شهود احتفالات الطرق الصوفية فى الزوايا والتكايا والخانقاوات. بينما ينشغل السيدات والبنات بإعداد الكعك والمعمول وأنواع من الحلويات، وتجهيز الملابس الجديدة، استعدادا لفرحة العيد، مع إعداد الرياحين وباقات الزهور وزجاجات ماء الورد لزيارة مقابر الأحبة.
هكذا كانت مظاهر رمضان فى دمشق، فى الزمن الجميل. تُرى هل سيعود "الحكواتى" فى ليالى رمضان ليحكى عن السنوات السوداء من الدمار والخراب وأنهار من الدماء بتمويل وتسليح عربى. ويحكى عن تغريبة الشعب السورى فى وطنه وفى أوطان الآخرين؟