مابين التخلى.. والتجلى.. والتحلى
يرتبط التصوف فى أذهان البعض بما يرونه من مظاهر تكون واضحةً للعيان فى مناسبات الاحتفالات بذكرى مولد آل البيت الكرام أو أحد الأولياء أو الصالحين. ومما لاشك فيه أن فى معظم الأحوال تجد أن لديهم الحق بل كل الحق فى انتقاداتهم بسبب ما تقع أعينهم عليه من تجاوزات ومخالفات تتعارض مع الكتاب والسُّنّةِ المطهرة.
وهنا يجب أن نوضح الفرق بين حقيقة التصوف، ومظاهر الادعاء والتى تنسب إليه وهو منها براء.
فالتصوف الحق هو عين الإسلام ولا يخرج عن معناه الحقيقى وتعاليمه كما وصلتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ثم التابعين وتابعى التابعين والصالحين الذين وعوا الحقيقة التى تنطوى على المعنى الحقيقى للتصوف وهى الجمع بين العلم والعمل.
فالعارف بالله العالم بالعلوم الشرعية وفى نفس الوقت مطبقًا إيّاها من أوامر ومنتهيًا عن نواهيها، فهو فى حقيقة الأمر يسير على الدرب والطريق الصحيح الذى يؤدى به إلى عالم الصفاء والراحة والطمأنينة لأنه سيصل إلى الله عز وجل، ومن ذاق عرف ومن عرف وصل فأهل الشريعة والحقيقة هم أهل الله سبحانه وتعالى وهم الأولى والأجدر بأن يأخذوا بأيدى الناس إلى صحيح الطريق للوصول إلى درجة الإحسان والتى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرَّفها “أن تعبد الله كأنّكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».
وليكن المعيار هو الكتاب والسُّنّة المطهرة فإن ساقتك الأقدار وقابلت أحدهم فاستمع إليه وأعرض ما يقوله على الكتاب والسُّنة فإن خالفهما فاضرب بكلامه عرض الحائط، وإن كان متوافقًا معهما فاعلم أن الله ساق لك خيرًا لا تفرط فيه. فالأحسن لك ولغيرك أن يكون لك أستاذ ومعلم وشيخ صالح يأخذ بيدك للطريق القويم ويردك إلى صوابك إذا شططت عن الطريق، واعلم أن المهلكات لن تتركك وحالك، فالشيطان ونفسك الأمارة بالسوء، أصدقاء السوء لن يجعلوك تنعم بهذا التغيير والتحول من حالٍ إلى حال فالأمر ليس بالسهولة فهى مجاهدة وصبر ويسبقهما الصدق والإخلاص، فالطريق طويل والوصول لنهايته يحتاج لكل ما ذكرت.
ولقد لخص السادة معنى التصوف فى ثلاث كلمات أحرفها قليلة ولكن تحقيقها فى النفس من الصعوبة التى لا تتغلب عليها إلا بالجهاد، ولقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا عند عودته من إحدى الغزوات قائلًا عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الجهاد الأكبر عرفه قائلًا: ألا هو جهاد النفس. والثلاث كلمات التى هى أصل التصوف هي:
التخلى - التحلى - التجلى والمعنى ببساطة هو أن تتخلى عما يغضب الله ورسوله، وتتحلى بما يرضى الله ورسوله، فإن فعلت ذلك مخلصًا يُنعُم الله عليه بالتجلى، والفيوضات الإلهية وتتقلب بينها من مقام إلى مقام وما يدريك لعلك تُصبح عبدًا ربانيًا إذا أقسمت على الله لأبر الله قسمك.
وقد يسأل سائل وهل هناك أمثلة من رجال فى وقتنا المعاصر نالوا مثل هذه الدرجات على الرغم من الحياة المادية التى تحيطنا من كل جانب؟!
نقول نعم فالله عز وجل أنهى الرسالات السماوية برسالة سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس كل مائة عام يرسل مجددًا لدينه ناصحًا لعباده من عباده الصالحين.
ولقد عايشت رجلًا من هذا الصنف من نوعية الرجال الذين ينطبق عليهم وصف العالم العامل بعلمه، ولقد تربى على يديه العديد من محبيه على اختلاف مشاربهم وأعمارهم ووظائفهم منها العليا والمتوسطة وأصحاب الأعمال البسيطة.
وهو لم يكن شيخًا لطريقة صوفية وإن كان متصوفًا وشديد التصوف، ولكن قد نذر عمره وجهده وماله لخدمة الدعوة إلى الله، وتذكير الناس بالطريق الصحيح والقويم.
هو العارف بالله العالم العامل فضيلة الشيخ/ إسماعيل صادق العدوى «رحمه الله» إمام وخطيب الجامع الأزهر الشريف سابقًا.
كان رحمه الله عالمًا عاملًا بعلمه تقيًا ورعًا ولانزكيه على الله، قويًا فى الحق فلا يخشى لومة لائم، هذا ما لمسته منه - خلال الفترة التى عايشته فيها وهى قرابة العشرين عاما حتى وافته المنية.
ولقد سبق أن ذكر أحد تلاميذه فى سلسلة مقالات بجريدة المصرى اليوم وهو الأستاذ / حاتم فودة ملخصًا عن أحداث عايشها وكرامات أجراها الله على يد هذا العالم الجليل، كان رحمه الله لايدخر جهدًا ولا وسعًا فى سبيل العلم وتوصيله للناس فكان دائم الحركة والتنقل بين المساجد الكبرى بالقاهرة ومتنقلًا بين المحافظات ومرتحلًا لبعض الدول الشقيقة لنشر العلم ابتغاء مرضاة الله. حتى إن منزله كان كعبة العلم للبسطاء وكبار القوم اجتمعوا يومين فى الأسبوع بالدور الأرضى متلقين علم الفقه على مذهب الإمام مالك، واليوم الآخر أحكام تلاوة القرآن الكريم.
وكان رحمه الله لايترك تلاميذه، كان متفقدًا لأحوالهم سائلًا عمن يغيب عن حلقات العلم معينًا لهم عند احتياج أحدهم، مسرعًا لاحتواء أحدهم عند الزلل والشطط، موجهًا إياه بلا إحراج له، وبإشارات كلامية لايفهمها إلا من وقع فى الزلل والخطأ، فيعود ويثوب لرشده، شاكرًا الله أن سخر له هذا العالم المعلم المحب لتلاميذه.
وكاتب هذه السطور كان له تجربة فى مثل هذا المضمار وفوجئت بشيخى يذكر لى زلتى ناصحًا إياى بطريقة ضمنية ألا أعود لمثل هذا، فاستغفرت وندمت ولزمت الصواب قدر استطاعتى.
هذا هو ما أقصده وأعنيه أن يكون المربى والشيخ العالم العامل كالشجرة التى يستظل بها من يعانى حرارة الشمس ولهيبها. هذا هو معنى التصوف الحقيقى أن يكون أستاذك وشيخك مؤثرًا فى حياتك، هاديًا لك ومرشدًا لخطواتك وخطراتك وأنا أعنى الكلمة الأخيرة فلقد كان رحمه الله ينطق بما يدور فى خلدك وخاطرك وحدث هذا معى كثيرًا.
وهذه من الكرامات التى يتجلى الله بها على عبده الذى يتخلى ويتحلى ثم يأتى التجلى من الله.
وأختم مقالتى بكرامة حدثت مع فضيلة الشيخ العارف بالله محمد متولى الشعراوى رحمه الله، عندما أصر على زيارة الشيخ إسماعيل صادق العدوى بعد عودته من رحلة علاج واجراء عملية قلب مفتوح ودخوله فى غيبوبة استمرت أربعة أشهر، فقد اصطحبه الأستاذ. محمد عبدالعزيز «الإعلامى المعروف» لزيارة الشيخ فى مزارع دينا وكان يستضيفه أحد محبيه لقضاء فترة استشفاء فى منزله. وكان جالسًا مع بعض محبيه ومريديه فقال لهم «سيأتى الآن سيدنا» وبعد فترة وجيزة دخل عليهم الشيخ الشعراوى وأقبل على الشيخ إسماعيل ملثمًا يده، وبادله الشيخ تقبيل يده، واستمرت الجلسة لبعض الوقت ثم استأذن الشيخ الشعراوى للرحيل وقبل رحيله قال «ياشيخ إسماعيل» إذا كان الله قد أوحشك من الناس فلقد آنسك بنفسه. فانهمرت الدموع من الشيخ باكيًا وتأثرًا بما ذكره الشيخ الشعراوى، فلقد كان الشيخ إسماعيل جامعًا للناس من حوله على حقيقة الإسلام والتصوف وهى الإخلاص والحب والعلم النافع، وهذا ما أدركه الشيخ الشعراوى فأراد أن يبشره بأنه الآن فى درجة المعيّة ومن كان فى درجة المعيّة فهو فى أعلى درجات القرب.
فمن كان الله معه فمن يكن عليه؟!
رحم الله سادتنا العلماء الأولياء العاملين بكتاب الله وسنة نبيه ونفعنا الله بهم وبعلمهم وحشرنا فى زمرة النبى صلى الله عليه وسلم وصحبتهم.