رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أحمد زكي.. القصة الحقيقية

27-12-2021 | 15:53


محمد بركات,

الوصية ..الحلقة الأولى

زارتني ابنتي وتلميذتي "مها متبولي" في الأسبوع الماضي وأنا أحبها لأنها صحفية موهوبة وإعلامية محبوبة ولأن الفنانين يعشقونها عشقا لأنها تدخل قلوبهم وتحفظ أسرارهم ولا تقول فيهم إلا خيرا.

 

وفي هذه الزيارة سألتني "مها" عن سر المكالمة التي تلقيتها من أحمد زكي قبل وفاته بثلاثة أيام؟

 

قلت لها كان ذلك عندما دخلت علي زوجتي في الساعة السابعة صباحا وهي ترتجف وتقول لي إن أحمد زكي يتصل بك من غرفته بالمستشفى ويريد أن يتحدث معك.. واستقبلت مكالمته مرحبا وأنا أسأل عن صحته فقال لي بصوت واهن أنا الآن بين يدي الله وانا أتصل بك من أجل شيء واحد هو أن تكتب أنت القصة.. القصة الحقيقية.. فأنت الوحيد الذي يعرفها بكل الصدق وبكل الأمانة كما حدثت بل أنك شاركت فيها وهذه وصيتي الأخيرة لك ثم بكى أو بدا لي أنه تأثر إلى حد البكاء فبكيت معه!!

قالت "مها" : ولماذا لم تنفذ الوصية.. لماذا لم تكتب القصة؟

قلت لم أستطع.. ومع هذا فقد حاولت ولكني كلما مسكت بالقلم رأيت أحمد زكي أمامي فيأخذني الانفعال ويعود بي شريط الذكريات إلى ستين سنة مضت يوم عرفته فتى ريفيا رقيق الحال فتتجمد الكلمات بين يدي فأتوقف.

قالت "مها": أنا أقدر هذا الشعور ومع هذا فلنحاول هذه المرة.. خصوصا أن مصر تحتفل هذه الأيام بعيد ميلاد أحمد زكي والذي يوافق ١٨ نوفمبر عام ١٩٤٨ فلا أقل من أن نحتفل مع الملايين من محبيه بموهبة هذا العبقري الذي يمثل إبداعه "فلتة" لن تتكرر في فن التمثيل ولنبدأ من البداية.. كيف عرفت أحمد زكي؟

قلت : لقد عرفت أحمد زكي كما لم يعرفه أحد.

والأصح أنني عرفته قبل أن يعرفه أحد.

كان ذلك في منتصف الستينيات الذهبية أو نحوها ومصر الناصرية تخفق راياتها بآيات العزة والمجد.

وكانت مصر تشهد إلى جانب ثورتها السياسية والاقتصادية ثورة اجتماعية لا تقل قيمة وأهمية.

وكان احد أهم عناصر هذه الثورة الاهتمام بالأدب والفن والفكر والثقافة وكان هذا هو زمن الفن الجميل كما سمي بعد ذلك بحق، فكان يصدر كتاب كل ست ساعات وكانت الكتب تباع بملاليم .

وكانت المجلات الثقافية تملأ الساحة من جميع الاتجاهات.

وفي هذه الأوقات كان ثروت عكاشة قد أرسى دعائم أكاديمية الفنون بمعاهدها المتعددة وبعثاتها الفنية إلى دول العالم وانتشرت المهرجانات الفنية في كل ربوع مصر حيث كان المسرح بحضوره الجماهيري احد أهم ظواهر الحدث الثقافي في هذا الوقت ثم ظهر التلفزيون وظهرت معه فرقه المسرحية وظهر المسرح الشعبي ومسارح الأقاليم ومسرح السامر والمسرح العسكري ومسارح الشباب إلى جوار الفرق الرسمية العريقة فضلا عن عشرات الفرق الأهلية ومئات من الفرق الأخرى  وقد راحت هذه الفرق كلها تقدم عروضها في كل مكان وتطوف الوادي من أقصاه إلى أقصاه .

وفي ظل هذا المناخ تفتحت مئات البراعم  وراح آلاف الشباب يبحثون لمواهبهم عن مكان.

وفي هذا الوقت تعاظم الاهتمام بالثقافة الشعبية فظهرت الثقافة الجماهيرية كما أنشئت آلاف من قصور الثقافة في الأقاليم وانتشرت الثقافة في القرى وأعيد الاهتمام بالفلكلور الوطني وراح نخبة من المثقفين يعملون على اكتشاف وتأصيل الفنون الشعبية ابتداء من أغاني  ورقصات فرقة رضا والفرقة القومية للفنون الشعبية حتى قيام كبار الفنانين بتقديم الفن المصري الأصيل وهو ما سمي يومئذ بالفن للشعب بعد بلورته وتنقيحه وإضفاء الصبغة العلمية عليه .

وكنا نحن معشر الشباب من الصحفيين والفنانين والكتاب نواكب هذه الحركة الفوارة ونتابعها بحماس لا يعرف الكلل فذهبت أنا مثلا إلى أسوان لأشاهد مسرحية من فصل واحد كتبها وأخرجها ومثلها علي سالم وكان يومئذ لاعبا في مسرح العرائس وكاتبا جديدا يبحث له عن مكان.

 كما ذهبت إلى مرسى مطروح لمشاهدة مسرحية يقدمها فريق من الهواة من أبناء قبيلة أولاد علي مع أن السفر إلى هناك كان يستغرق يوما كاملا وقل مثل هذا في كل أقاليم ومحافظات الوادي حيث كانت مائة زهرة تتفتح كل يوم.

في هذا الوقت دعيت لحضور مهرجان مسرحي في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية وكان رئيس لجنة التحكيم في هذا المهرجان هو الفنان القدير محمد توفيق بشخصيته الآسرة الطيبة ويومها شاهدت مسرحية بعنوان" الساقية".. لم يلفت نظري فيها سوى الفتى والفتاة اللذان قاما ببطولة المسرحية .

كان الفتى بطل العرض شابا نحيلا أسمر البشرة منكوش الشعر ولم تكن هيأته بأي حال من الأحوال تنم عن أنه ممثل من أي نوع، كان يخلو من أي بريق ولم تكن فيه ذرة من الوسامة التي كانت حتى هذا الوقت هي جواز المرور إلى فن التمثيل من بقايا تراث أنور وجدي  ونجوم الأربعينيات والخمسينيات.

أما بطولة العمل فكانت لبنت صغيرة حلوة الملامح والتقاطيع وكان يعيبها قدر هائل من الخجل الذي تتمتع به البنات في سنها وخصوصا بنات الأقاليم.

ويومها فازت هذه المسرحية بجائزة المهرجان على مستوى التمثيل والذي أعطاها هذه القيمة هو محمد توفيق رئيس لجنة التحكيم.

مرت السهرة التي جمعتنا مع "الفرقة" ومع المسئولين في قصر الثقافة .

هذا الشاب اسمه "أحمد" وأن البنت اسمها "عيشة"  ولكن الأهم أنني عرفت أن هذا "الولد" كان في السادسة عشر هو ثالث ثلاثة يقيمون في دار للأيتام  بالزقازيق.. أما الآخران فهو المطرب الذي سيملأ الدنيا فنا وهو عبد الحليم حافظ وأما الآخر فهو شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم.

وفي نهاية السهرة قال الفتى الأسمر الأشعث الملامح والهيئة والشعر أنه يريد أن يعود معنا إلى القاهرة  لأنه يحب الفن ويريد أن يمثل  وقال له محمد توفيق إن التمثيل يا ابني لم يعد هواية بل أصبح علما يدرس، لقد انتهت مرحلة "أين ترعرعت سيدتي" في الصحافة والفن  ونحن الآن في مرحلة أين تعلمت وماذا درست.. وما نوع التخصص الذي برعت  فيه وما هي دراستك وما هي الشهادة التي معك؟

قال الفتى : أنا طالب في التعليم الفني لأنني لم أدخل الثانوي العام.

فقال له الفنان العظيم.. أكمل دراستك أولا وحين تحصل على المؤهل الدراسي تعال إلينا في القاهرة .

فاسقط في يد الفتى أنه ارتبك وبدا لي أنه بكى أو كان على وشك البكاء.

الحلقة القادمة: ضائع في القاهرة