يبدو أنه لم يكتف الإعلام الشارد فى بعض القنوات الخاصة ، والصحف الخاصة ، ما بات أسقاما متفشية تقض مضاجع مصر إضافة إلى ما تلاقيه من عبث العابثين ، وهجمات وتفجيرات ومذابح الإرهابيين ، فجعل بعض الجهّال وأصحاب الأغراض ، يضربون فى الأسس القانونية والقضائية المتعارف عليها والتى هى محل تقدير وإقرار من عشرات السنين ، ويأخذون على النائب العام والنيابة العامة قرارات حظر النشر التى تصدر فى بعض التحقيقات مراعاة لمقتضيات السرية ـ وهى الأصل فى التحقيق ـ ولعدم عرقلة سعى التحقيق للكشف عن الأدلة وعن مرتكبى الجرائم والمدبرين لها ، واستساغت إحدى الصحف الخاصة الملبوسة الأغراض أن تتطاول على النائب العام ، وتحصى وتناقش نحو عشرة قرارات بحظر النشر صدرت على مدار ما يزيد على عامين !
واستمرأ بعض الباحثين عن الشهرة ، أو الساعين إلى التواجد ، رفع دعاوى إلى القضاء الإدارى وبلا صفة أو مصلحة ، وهما شرط الدعاوى القضائية بعامة ، بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف قرار أو آخر للنائب العام بحظر النشر فى تحقيق ما ، وبتنفيذ الحكم بمسودته ـ كذا !!! ـ بغير إعلان ، إلى أن تنظر محكمة القضاء الإدارى فى الموضوع ، وتقضى بما يشاء رافع الدعوى بإلغاء القرار الصادر من النائب العام بحظر النشر فى التحقيقات التى يستهدف سيادة رافع الدعوى نشرها بوسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة !
ويبدو أن من يتصدون للنقد أو التعييب ، ناهيك بالتطاول والتجريح ، وكتابة صحف الدعاوى ورفعها، لا يعرفون شيئًا عما يتصدون له، ويخوضون فيما لا معرفة ولا دراية لهم به ، والأسوأ أن يقع فى ذلك من يعملون بالقانون ويُفترض علمهم به ، والأقبح أن هؤلاء وأولاء ، لا يبذلون جهدًا لتحصيل علم نافع يتسلحون به قبل النقد أو التقاضى أو السعى المريض لتصدر المشهد واستعراض ذواتهم والتباهى أمام العامة والبسطاء بأنهم من قادة أو أهل العلم والإصلاح .
من الجهالة المطبقة ، والخلط والتخليط ، أن يحسب هذا التصدى أن نشر وإذاعة التحقيقات هو الأصل ، وأن حظر نشرها "استثناء" ويخرج فيما كتب البعض عن القانون ، ويخالف الحريات الدستورية والحق فى المعرفة وفى التعبير وإبداء الرأى ، حتى ظننت أن هذا الانجراف غير البصير سوف يقود إلى إفشاء " سريَّة " الامتحانات ما دامت تحرم المتقدمين إليها من الحق فى المعرفة والاطلاع متى وأنَّى شاءوا على ما يريدون معرفته فى أوراق الامتحان ، وأنه يصادر حق المعرفة الدستورى وحرية التعبير الدستورية ـ ما يلتزم به الأطباء أو الجراحون أو المحامون أو الصيادلة أو القوابل أو غيرهم من المحافظة وعدم إفشاء ما يودع لديهم أو يحصلون عليه بمقتضى صناعتهم أو وظيفتهم أو مهنتهم من أسرار خصوصية يؤتمنون عليها ، فذلك لا يروق للسادة طلاب المعرفة والحق فى التناول والتعبير وإبداء الرأى ، وهى حقوق دستورية ـ هكذا ـ ومن ثم لا محل لعقاب من يفشى من هؤلاء الأمناء سرًّا مؤتمنًا عليه بما قررته وعاقبت عليه المادة 310 من قانون العقوبات ، ولا محل من ثم لحرمان الإعلام والسادة طلاب المعرفة من رافعى الدعاوى أو غيرهم ـ من إشفاء غليلهم وإشباع شرههم ونهمهم إلى الاطلاع على أسرار عباد الله المحفوظة لدى الأطباء والمحامين ونحوهم ، فحجبها طبقًا لهذا المنطق الضرير يصادر حقوقهم الدستورية فى المعرفة والتعبير وتناول أسرار بل أعراض الناس بما يشاءون!
عفوًا ! قادنى إلى هذا الاستطراد غثاء حقيقى قرأته ، ومن المؤسف أن يصدر عن مشتغلين بالقانون واجبهم تبصير الناس بمبادئ وأصول القانون ، ومَعْنَى الحقوق وإطارها وحدودها ، فإذا بهم يهدمون أوليات القانون ، ويخلطون فى معنى الحق وإطاره وحدوده خلطًا معيبًا لا شفيع له .. ومن ذلك أن يسوقوا إلى الناس أن حظر نشر التحقيقات خروج على "الأصل" الواجب ، وعلى الدستور والقانون ، وأن يروجوا إلى الناس أن قرار النيابة العامة أو النائب العام بحظر نشر تحقيق ـ ليس قرارًا قضائياً وإنما هو من قبيل القرارات الإدارية يباشره بوصفه من رجال السلطة العامة ، ومن ثم يجوز الطعن عليها أمام القضاء الإدارى ، وأن هذا الطعن تكفى له المصلحة المحتملة التى يراها الطاعن لنفسه أو فى نفسه ، ودعنا إذن من كل المبادئ القانونية ، وليختلط الحابل بالنابل ، وما دام الكلام مباحًا ، والضوابط والحدود والمعانى لا وجود ولا احترام لها ولا محل للالتزام بها !!!
وقد كان يمكن لهذا التصدى الكفيف ، أن يتجنب هذا الخلط والتخليط ، لو اطلع قليلاً على المبادئ والأحكام ونصوص الدستور والقانون ، فالحقوق الدستورية متقابلة ، فالحق فى حرية الرأى والتعبير، يجب أن يلتزم باحترام الحق ـ الدستورى أيضًا ـ فى صيانة العرض والاعتبار ، ومن يلم بالدساتير يعرف أن الحقوق تقابلها واجبات ، وأن هذه الواجبات نابعة هى الأخرى عن حقوق دستورية ، وإلاَّ آل المجتمع إلى قانون الغاب ، إن صح وصف شريعـــة الغاب بأنها قانون أو شريعة !!!
ولو اطلع قليلاً ـ هذا التصدى الكفيف ، على قانون السلطة القضائية ، ونصوص قانون الإجراءات الجنائية والعقوبات ، لأدرك بيسر وسهولة أن النيابة العامة شعبة من القضاء ، وأن ما تمارسه من تحقيقات وتصدره فيها أو بشأنها من قرارات كسلطة تحقيق ، هى أعمال قضائية ، ومن لب عملها كسلطة تحقيق قضائية ، وليست أعمالاً إدارية . ولعرف أن "الأصل" هو "سرية التحقيق" وأن إفشاء هذه السرية ، ودون قرارات حظر نشر من النيابة العامة ، يضع الناشر أو المفشى تحت طائلة القانون ، فالسرية التى هى الأصل مفروضة بحكم القانون ونصوصه، لا برغبة النيابة العامة وقراراتها ، وهى قرارات وإن كانت قضائية بغير خلاف، فإنها
"قريرية" لم تنشئ القاعدة ، وإنما أنشأها وأقامها القانون ، وفرض احترامها وعلى النيابة العامة ذاتها.. وعلى غيرها ، قبل أن يفرض لإفشائها أو نشرها عقابًا.
فالمادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية ، التى يبدو أن صحف الدعاوى المدبجة لم تطالعها ، تنص على أنه : تعتبر إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التى تسفر عنها من الأسرار، ويجب على قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة ومساعديهم من كتاب وخبراء ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها ومن يخالف ذلك منهم يعاقب طبقًا للمادة 310 من قانون العقوبات".
فستار السرية ، وبحكم نص القانون ، مفروض أيضًا على قضاة التحقيق وعلى النيابة العامة ذاتها ومعاونيها ، وعلى كل من يحضر أو يتصل بالتحقيق بسبب وظيفته أو مهنته كالمحامين ، فكل هؤلاء مخاطبون بالنص القانونى ، وواجب عليهم عدم إفشاء السرية أو نشرها ، ودون ما حاجة إلى قرار بحظر النشر ، فسرية التحقيق هى الأصل ، والخروج عليها وإفشاؤها محظور بحكم القانون بغير حاجة إلى قرار "تقريرى" بحظر النشر .
فقرارات النيابة بحظر النشر ، هى للتذكير بالأصل العام ، وتفطين للعاملين بالإعلام وغيرهم من محاذير مخالفة ما نص عليه وأوجبه القانون .
ولم يسن القانون هذا "الأصل" إشباعًا لشهوة، أو سترًا لغرض، وإنما سَنَّهُ ، كشأن قوانين العالم المتحضر ، رعاية لحكمةٍ بصيرةٍ وغايةٍ حميدة ، وجاء بالمذكرة الإيضاحية أن هذه السرية "ضمان لسير التحقيق فى مجراه الطبيعى ، وعدم المساس بمصالح الأفراد بغير مقتضى"..
وهذه القاعدة الأصولية ، ليست بدعة ، فنص عليها ـ على سبيل المثال ـ القانون الفرنسى ، فنصت المادة 11 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسى على أن "إجراءات التحقيق الابتدائى سرية . وكل شخص يساهم فى هذه الإجراءات يلتزم بالسر المهنى".
فالأصل هو "السرية" فى التحقيقات ، بعكس "العلنية" فى المحاكمات ، وبداهة فإن هذه السرية لا تسرى إزاء أطراف الدعوى ووكلائهم حفاظًا على حق الدفاع ، مع التزام كل منهم بالمحافظة على هذه السرية وعدم إفشائها ، ناهيك بنشرها على صفحات الصحف وعلى عينك ياتاجر فى قنوات وشاشات التلفاز !
وتعلمنا فى مقاعد الدرس، أن "سرية التحقيق الابتدائى" يعللها أن إجراءات هذا التحقيق تستهدف التنقيب عن أدلة قد يحاول متهم أو غيره ممن قد تكون لهم مصلحة ـ إخفاءها أو العبث بها أو تشويهها أو إفسادها ، والوصول إلى الحقيقة بغير ظلم أو جور أو تحيف على أحد، يقتضى أن يلتزم التحقيق ـ وفى إطار محمى من السرية ـ خطة بارعة وتدبيرًا محكمًا لالتقاط هذه الأدلة واستظهارها وتجميعها . ويتعين حماية للأدلة من العبث أو المصادرة أو التشويه أو الإفساد، أن يجرى هذا العمل القضائى فى سرية . هذه السرية تكفل أيضًا للمحقق صفاء ذهنه وضمان حياده وحمايته من التأثير الضار لوسائل الإعلام التى قد تتخذ إتجاهًا أو آخر لا يخدم حق العدالة فى التعرف الآمن على وجه الحق والحقيقة .. هذا إلى حماية المجتمع ذاته والأخلاق العامة والرأى العام قبل أن يتم اكتمال الحقيقة من واقع التحقيق ، وطرحها من بعد فى المحاكمة العلنية ، والتى قد ترى المحكمة لاعتبارات عامة تقدرها أن تعقد جلساتها فى سرية، وأن يحظر نشرها ، دون إخلال بأن تكون جلسات النطق بالأحكام علنية فى جميع الأحوال .
من أوليات ضمانات سماع الشهود ، سواء بالتحقيق أو المحاكمة ، ألا يطلع الشاهد على أقوال غيره قبل سماعه ، حتى لا يتأثر بها أو يحتاط لها أو يواجهها على غير موجبات الأمانة والحيدة . ولذلك كانت القاعدة التى يعرفها كل من أبدى شهادة فى تحقيق أو محاكمة ، أو حضر جلسات محكمة أو تحقيق ، أن الشاهد يُحجب عما يبديه غيره ، وأن الشاهد الذى أبدى شهادته ، يبقى فى الجلسة لا يغادرها حتى ينتهى سماع الشهود وترفع الجلسة . ولم يقل قائل أو متقول إن حرمان الشاهد من الاطلاع على ما يبديه سواه من الشهود ـ إخلال بحقه فى المعرفة أو إخلال بحقه فى التعبير !!!
ولا يفوت البصير أن النشر بالإعلام ، يضرب هذا الستار ضربًا ضارًا ، ويتيح لكل شاهد أن يعرف ـ قبل أن يدلى بشهادته ـ ماذا قاله سواه ، فيتخذ عدته إن كان له غرض فى الالتفاف حوله أو التصدى بنحو أو بآخر له ، فتخسر العدالة وتتعرض لإدخال الزيف والزور عليها فى شهادة الشهود !
ولهذه العلة ، أبيح خلافًا للأصل العام أن تفرض السرية على ذات أطراف الدعوى ، الذين لا سرية فى الأصل عليهم ، فنصت المادة 77 من قانون الإجراءات الجنائية ، حماية للحقيقة التى هى مرام التحقيق والقضاء ، على أنه : لقاضى التحقيق أن يجرى التحقيق فى غيبتهم (أى غيبة الخصوم ) متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة ، وبمجرد انتهاء تلك الضرورة يبيح لهم الاطلاع على التحقيق" .
هذه الحقيقة هى مرام المشرع ، ومرام التحقيق ، ومرام المحاكمة ، والتى تُعزى إليها السرية "كأصل" فى التحقيق ، وحجب الشاهد عما أبداه سواه ، وهى هى التى دعت إلى الخروج على الأصل العام بالنسبة للخصوم فى الدعوى ، فقررت لقاضى التحقيق أن يجرى التحقيق فى غيبتهم متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة . وتجمل هذه الضرورة ، فيما تعلمناه فى مقاعد الدرس ، ومن خبرات الحياة ، فى احتمال أن يفسد حضور الخصم ما يبديه شاهد ، أو يفسد جهود التحقيق فى التنقيب عن الدليل والوصول إلى الحقيقة التى تنشدها العدالة.
من الجهالة والغرض أو الهوى ، أن يوصف قرار النيابة العامة أو النائب العام بحظر النشر ، بأنه قرار إدارى ، فهو قرار قضائى فى تحقيق قضائى تباشره النيابة العامة كسلطة تحقيق وشعبة أصيلة من القضاء بمقتضى قانون السلطة القضائية وقانون الإجراءات الجنائية . ومن الغرض والجهالة القفز على حقيقة يعرفها أبسط الملمين بالقانون ، أن "سرية التحقيق" هى الأصل ، وأن قرار حظر النشر ما هو إلاَّ قرار قضائى " تقريرى " لما نص عيه وألزم به القانون ، وكسر حاجز السرية ، يعرض الناشر أو المفشى بعامة ، إلى الجزاء الذى فرضه القانون ، دون ما حاجة إلى قرار بحظر النشر ، الذى هو محض تنبيه وتذكير للعاملين بالإعلام بقاعدة أصولية أصلية فرضها القانون ، الذى قد يغيب عن البعض الإلمام بنصوصه وأحكامه ، فكان حظر النشر "فى واقعه وحقيقته " تذكير للحماية" ، وليس مصادرة ـ كما قيل ـ على الحق فى المعرفة أو حق الرأى والتعبير !
إنه من المؤسف حقًّا أن تأخذنا الأهواء بعيدًا عن الموضوعية ، وعن موجبات العدالة ، وأن نحرض الرأى العام تحريضًا مغلوطًا وضارًا . بدلاً من أن نقوده إلى الحق والصواب . ظنى أنه إزاء الممارسات الفردية الشاردة ، يبقى واجب لابد أن يمارس ، على نقابة الصحفيين ونقابة المحامين ، لرفع الممارسات الفردية للبعض ، إلى مواثيق النقابتين ، وما سطرتاه على مدى التاريخ من تقاليد وقيم نبيلة يجب علينا جميعا أن نتقدم إليها .
كتب :رجائى عطية