رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


«استبداد رجل الشارع».. وحرية الفكر

12-1-2022 | 13:05


حسين علي

حسين علي

إن السلطة الوحيدة التي يخضع لها الفيلسوف ويستجيب لأوامرها هي «العقل»، والمرء كي يكون جديرًا بلقب «فيلسوف» لابد أن تتوافر له ولمجتمعه شروط معينة، أهمها «الحرية»، لأن مجتمعًا تكبله الأغلال هو مجتمع عقيم غير قادر على إنجاب فلاسفة، قد يزخر المجتمع بالمصلحين والمفكرين والمعارضين السياسيين، لكن لن تجد بالضرورة من بين هؤلاء فيلسوفًا، إلا إذا نجح هؤلاء وأولئك في تحرير المجتمع بأسره من كل أنواع الاستبداد، سواء أكان استبدادًا سياسيًا أم كان شعبيًا، ففي أحيان كثيرة تكون العامة أكثر طغيانًا ورجعية من السلطة السياسية الحاكمة، خاصة فيما يتعلق بتوهم المساس بالدين، أو هدم أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده.

إن «الاستبداد الشعبي» أشد خطرًا على حرية الفكر من كل أنواع الاستبداد الأخرى، لأنه يضم تحت جناحيه قطاعًا كبيرًا من عامة الناس، إن لم يكن كل الناس البسطاء الذين يحرصون على التمسك  بمعتقداتهم  (حتى وإن كان جزء كبير منها دخيلاً على الدين الصحيح) حرصهم على تمسكهم بالحياة ذاتها، وقد يصل حماس بعضهم وغيرته على معتقداته إلى حد الإقدام على قتل من يُشاع عنه – بالحق أحيانًا وبالباطل في أغلب الأحيان – أنه يسعى لهدم الدين. وليس ببعيد عن الأذهان قتل فرج فودة، ومحاولة قتل نجيب محفوظ.

إن «الاستبداد الشعبي» المتمثل في تسلط رجل الشارع، والذي قد ينصرف الذهن إلى تخيل أن مثل هذا النوع من الاستبداد يقتصر على تلك الفئة من البشر  عديمي الثقافة التي تفتقر إلى رؤية عقلية ثاقبة ونظرة نقدية عميقة. غير أن الحقيقة المؤسفة الباعثة على الأسى والحزن معًا، أن «الاستبداد الشعبي» لا يضم البسطاء من عامة الناس فحسب، بل يضم تحت مظلته أيضًا شخصيات، تبدو للنظرة العابرة غير المدققة،  إنها شخصيات ذات قيمة وقامة، منها من هو أستاذ جامعي وطبيب ومهندس ومحامٍ ... إلخ. في حين أن المرء إذا ما تفرس ملامح أحد أصحاب هذه القامات بدقة، فسرعان ما يتكشف له أنه هو ذاته «عم عبد التواب» بواب عمارتنا، ذلك الرجل السطحي ضحل التفكير الذي يفتقر بشدة إلى أي حس نقدي. وأود التأكيد أن هذا ليس سبًا أو شتمًا، بقدر ما هو وصف موضوعي لعقلية «عم عبد التواب» الذي أحبه، وأحترمه، وأقدره كثيرًا، نظرًا لطيبة قلبه، وبساطته، فضلاً عن أنه لم يرتكب إثمًا في حق أحد، وإن كان هو قد وقع ضحية الفقر والجهل والمرض طوال أحقاب طويلة من الزمن وعبر نظم حكم مستبدة تعاقبت على حكم البلاد.

إن كنا نجد مبررًا لضحالة فكر«عم عبد التواب» وسطحيته، فماذا نقول في من حصل على مؤهلات مكَّنته من شغل مناصب اجتماعية مرموقة، ومع ذلك حين تطرح عليه سؤالاً غير تقليدي، يتعلق بمسألة ميتافيزيقة مثلاً، تسقط عنه تلك القشرة البرَّاقة الزائفة التي كان يتخفى وراءها، زاعمًا أنه مثقف عميق الثقافة، وصاحب فكر حر، ويمتلك فكرًا نقديًا متعمقًا، ما إن تحاوره حوارًا متعمقًا حتى يتكشف لك وجه «عم عبد التواب» بضحالة فكره وسطحيته.

ميزة «عم عبد التواب» أنه صادق ومتسق مع ذاته، ولا يرتدي أقنعة، على العكس تمامًا من مدعي الثقافة الذي يوظف كل ما يملكه من أدوات ثقافية وحضارية دفاعًا عن الفكر ذاته الذي يعتنقه «عم عبد التواب»!! إذ تجده ينبري للذود عن كل ما يحويه فكر «عم عبد التواب» من خرافات وخزعبِلات ألصقها بعض البشر بالدين، والدين منها براء، وإن كان قد قام بشر مثلنا بإلصاقها بجوهر الدين – زيفًا وبطلانًا - عبر مئات السنين، وكانوا يستهدفون من وراء ذلك في أغلب الأحيان تحقيق أغراض سياسية ومصالح ذاتية ومازالوا.

إننا نجد من بيننا اليوم كثيرين يرفضون بشدة أي محاولة نقدية لفحص المسائل المتعلقة بالفكر الديني خشية أن يؤدي ذلك إلى هدم الدين ذاته وزعزعة أركانه، وكأنهم يفترضون ضمنًا أن ديننا العظيم هش إلى هذه الدرجة!!

إن رجال الدين الذين يتكسبون من الاتجار بالدين يستندون دومًا إلى سلطتين، سلطة «رجل الشارع» أو «العامة» أو «الدهماء» وهي أسماء لمسمى واحد، والسلطة الثانية هي «السلطة السياسية الحاكمة». 

إن «سلطة العامة» قد تفوق أحيانًا السلطة السياسية في استبدادها فيما يتعلق بمحاربة حرية الفكر، لأن الجمود والتحجر هو الطابع الغالب على عقلية رجل الشارع، وبالتالي يتحسب من أي تطور أو تغير يطرأ على مستوى المجتمع أو الفرد، ويقاومه بشدة، ولك أن تتخيل إنسانًا في الستين أو السبعين من عمره واظب منذ صباه على أداء شعائر دينه بانتظام وحماس شديدين، وبإيمان راسخ لم يهتز لحظة، ثم يأتي من يناقش أو يجادل – ولا أقول يشكك – في أصول هذا الدين، ماذا سيكون رد فعل هذا الإنسان في تلك الحالة؟!، ثمة عقول بخاصٍة حين تتكلس وتتحجر لا يمكن مناقشتها في أشد الأمور وضوحًا وبداهًة.

إنه من العسير إن لم يكن من المستحيل أن يتخلى مثل ذلك الشخص عن معتقداته التي نشأ وتربى عليها، بل ليس مطلوبًا على الإطلاق أن يتخلى عنها، وإنما المطلوب بإلحاح أن يتفهم أن هناك آخر نشأ وتربى منذ نعومة أظافره على عقيدة مختلفة عن تلك التي نشأ هو عليها. ليس مطلوبًا من هذا أو ذاك أن يتخلى عما نشأ عليه، بل المطلوب أن يتفهم كل منهما الآخر ويتسامح معه، لا أن يبغضه ويقاتله.

علينا أن ندرك أننا لا نعلم الحقيقة كاملة، نحن لسنا آلهة، إن ما نعرفه محدود بحدود قدرتنا البشرية القاصرة، إذا أدركنا ذلك بوضوح ازدادت قدرتنا على التسامح.