بقلم – السفير: حسين هريدى
مساعد وزير الخارجية الأسبق
بدأت مصر خلال الفترة من يونيو ٢٠١٢ وحتى ٣ يوليو ٢٠١٣ فى الخروج من الثوابت الوطنية والقومية لسياستها الخارجية وتدخل فى مسارات تتفق مع مخطط دولى - إقليمى للهيمنة على مصائر ومقادير القوى العربية الرئيسية، وفى مقدمتها مصر. وتعود بدايات هذا المخطط إلى الغزو الأمريكى للعراق فى عام ٢٠٠٣.
أول علامات هذا التحول الخطير فى السياسة الخارجية المصرية جاءت مبكرًا فى يوليو ٢٠١٢ عند عودة ممثل جماعة « الإخوان » فى رئاسة الجمهورية - محمد مرسى - من أول زيارة خارجية له للمملكة العربية السعودية. صرح بأن مصر والسعودية تدافعان عن ما وصفه بالإسلام السني. كان تصريحا غير مألوف فى مجال السياسة العربية والخارجية لمصر. بالقطع مصر بلد الأزهر الشريف، وبالفعل تمثل الدائرة الإسلامية إحدى دوائر السياسة الخارجية المصرية، لكن لم يسبق أن تحدثت مصر عن الإسلام من منطلقات مذهبية، ولم يسبق للقاهرة والرياض التصريح بأنهما يدافعان عن إسلام مذهبي.
العلامة الثانية جاءت قبل أيام قليلة من ثورة المصريين على حكم الجماعة فى النصف الثانى من يونيو ٢٠١٣. فى هذا الشهر وبعد تصريح لعراب الجماعة يوسف القرضاوى بضرورة قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، أعلن محمد مرسى أمام حشد من أنصاره عن قرار مصرى بقطع العلاقات مع سوريا، بل ذهب أبعد من ذلك وأشار إلى أن القاهرة ستقوم بالتعاون مع ما يسمى بالجيش « السورى الحر»، وهو كيان من صنيعة المحور الغربى - التركى - القطرى الذى كان قائما منذ منتصف ٢٠١١ وتدخلاته السافرة فى الشأن السوري، وكذلك الشأن الليبي.
العلامة الثالثة كانت الموافقة المصرية على منح مقعد سوريا فى جامعة الدول العربية إلى ما يعرف باسم «ائتلاف قوى الثورة السورية »، والذى يطلق عليه إعلاميًا « ائتلاف الدوحة »، ولا غرابة إذن أن هذا القرار المشين اتخذ فى قمة دورية عربية عقدت فى العاصمة القطرية.
العلامة الرابعة، ولا تقل خطورة عما سبق من ناقوس الخطر على السياسة الخارجية المصرية، جاءت فى طهران عند تسليم الرئاسة المصرية لحركة عدم الانحياز إلى إيران. ففى خلال كلمته فى الجلسة الافتتاحية لقمة عدم الانحياز فى العاصمة الإيرانية تعمد محمد مرسى الإشارة إلى الخلفاء الراشدين والترضى عليهم، فى سابقة غير معهودة فى حركة عدم الانحياز ولا فى الخطاب السياسى المصرى المرتبط بالسياسة الخارجية.
الأربع علامات كانت كلها مؤشرات على أن مصر التى قادت حركات التحرر الوطنى، وقادت حركة عدم الانحياز، وكانت ضمير العالم الثالث ومجموعة الـ ٧٧ لعقود- كانت كلها مؤشرات مقلقة للغاية أن مصر كانت على وشك الانضمام إلى المحور القطرى - التركى الرجعى، المتعاون مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة فى ظل رئاسة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما وجماعته من الليبراليين الأمريكيين.
بمعنى آخر، كانت مصر فى منتصف عام ٢٠١٣ على وشك الدخول فى تحالف رجعى على حساب مصالحها الوطنية والقومية، خدمة لمخطط غربى - إقليمى - إسرائيلي. كان هذا المخطط يرمى إلى تمكين جماعة «الإخوان » وكل ما تفرع عنها من تنظيمات فى الوصول إلى الحكم فى كل من مصر وسوريا وليبيا وتونس، وكمقدمة ضرورية للتوجه جنوبا إلى الخليج ومحاصرة المملكة العربية السعودية فى عقر مجلس التعاون الخليجي. ووفقا لهذا المخطط الذى كان يرعاه المحور القطرى - التركى كان الهدف هو تغيير نظام الحكم فى أبو ظبى توطئة للتعامل مع السعودية فى المرحلة اللاحقة.
تزامنت المرحلة الممتدة من ٢٠١٢ إلى منتصف يونيو ٢٠١٣ مع تكثيف الضغوط العسكرية والسياسية على سوريا، وتحولت تركيا ومن ورائها قطر والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، إلى أكبر ممول وداعم لكافة جماعات الإسلام السياسى بكل تصنيفاتها من إرهابية إلى جهادية إلى تكفيرية العاملة فى سوريا ويجمعها هدف واحد ألا وهو سقوط دمشق تحت حكم الإسلام السياسى ممثلا فى جماعة « الإخوان»، مثل القاهرة التى وصلت إلى الحكم فيها عبر تمثيلية صناديق الاقتراع فى يونيو ٢٠١٢.
كان التنسيق على أشده بين القاهرة « الإخوانية» والدوحة وأنقرة على صعيد التآمر على سوريا.وكانت الضغوط شديدة وخطرة على دمشق للحد الذى دفعها للاستعانة بإيران وحزب الله وروسيا، والذى كان دورها حتى هذه المرحلة متواريا بعض الشيء مقارنة بالدور الروسى اللاحق فى سوريا بحلول سبتمبر ٢٠١٥ وبدء الدعم العسكرى المباشر الروسى للجيش العربى السوري.
المخطط المشار إليه كان يستهدف إعادة توزيع القوى فى الشرق الأوسط تحت مظلة تركية بقيادة الحزب الحاكم برئاسة رجب طيب أردوغان، وتقسيمها على أساس دينى ومذهبى وعرقى، وهو التقسيم الذى يخدم مما لاشك فيه أطماع الحركة الصهيونية فى الانتهاء من المشروع الصهيونى باعتراف الدول العربية في. حقبتها الإخوانية بيهودية دولة إسرائيل وبالاعتراف بالحدود النهائية لإسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية فى إطار هذا الفرز الدينى والطائفى والعرقى فى المنطقة
فى هذا السيناريو كانت المقابلة هى بين « إسلامية » مصر وسوريا و«يهودية » إسرائيل. التمكين للإخوان فى القاهرة ودمشق وتمرير المشروع الصهيونى « التاريخى » فى أرض فلسطين. أى أن تصبح الجماعة عراب المشروع الصهيوني، ليس هذا فقط، وإنما الأداة الرئيسية لحقبة اللاقومية فى تاريخ مصر والشرق الأوسط.
كانت مصر أمام فترة اختبار قاسية، وكانت مصر أمام تحد تاريخى غير مسبوق، تكون هى ضمير أمتها العربية، أو أن تصبح أداة من أدوات الهيمنة الغربية - الإقليمية على مستقبل الشرق الأوسط لعقود طويلة. تبقى حرة مستقلة أو أن تصبح مصر من أمصار وهم الخلافة العثمانية فى صورتها الجديدة بديمقراطية « الربيع العربى » المزعوم بقيادة أردوغان وآل حمد فى الدوحة. تكون سيد قرارها أو أن تكون دولة تابعة لهذا المحور التركى - القطري؟
وأثبت كل من عبقرية المكان وعبقرية الشعب بمصر، وجاءت ثورة يونيو معبرة ومجسدة فى آن واحد على مخزون المشاعر الوطنية والقومية لدى الجماهير، هذا المخزون الخفى الضارب فى أعماق التاريخ وجذوره غير قابلة للاقتلاع فى الوعى الجمعى لتلك الجماهير المناضلة.
فاندلعت الثورة فى يونيو ٢٠١٣ تستعيد مصر من أيدى جماعة كانت وستظل أداة طيعة فى أيدى الأجنبي، سواء كان بريطانيا، أو إيطاليا أو أمريكيا أو تركيا أو قطريا، جماعة تبيع الوطن والشعب لمن يمكنها من الوصول للحكم والاحتفاظ به.
ومن هنا جاءت ردود الفعل العنيفة من قبل كافة أطراف المخطط الغربى -الإقليمى ضد مصر بعد نجاح الثورة الشعبية فى يونيو ٢٠١٣.
تركيا والدوحة قادتا الحملة، تركيا عبر تجنيد كافة الدول الغربية المتحالفة معها فى هذا الوقت، والدوحة عن طريق الدعم المباشر بكافة أشكاله لجماعة « الإخوان « والجماعات الإرهابية التى تعمل لصالحهم. بلغ الأمر بتركيا أردوغان المطالبة بتوقيع عقوبات على مصر أمريكية وأوربية ودولية، مع شن حملة إعلامية شعواء ضد مصر، شعبًا وجيشا ودولة بالتنسيق مع الأبواق الإعلامية القطرية.
وللأسف الشديد كان هناك فى الداخل من كان متعاونا، سواء بحسن نية أو سوء نية، مع هذه الضغوط التى كان هدفها الوحيد إعادة الجماعة للحكم مرة أخري، حفاظًا على مخطط إعادة تشكيل الخريطة السياسية فى الشرق الأوسط.
والعودة لمشاهدة المؤتمر الصحفى المشترك لممثلة الاتحاد الأوربى للسياسة الخارجية والدفاع ونائب رئيس الجمهورية السابق للعلاقات الخارجية فى يوليو ٢٠١٣ لن تفوته ملاحظة التناغم المستتر على مستوى الأهداف بين الغرب والبعض فى الداخل المصري. ولن أنسى ما حييت تركها للمؤتمر الصحفى قبل انتهائه بحجة اللحاق لموعد إقلاع طائرتها وتركه بمفرده ليستكمل المؤتمر الصحفي.
كادت الحملة التركية - القطرية - الأمريكية على مصر أن تنجح لدرجة أن قوة غربية كبرى كانت على وشك تجميد علاقاتها الدبلوماسية مع مصر، إلا أن تدخل السعودية والإمارات والكويت بحزم ضد أى إجراءات عقابية على مصر، أجهض الضغوط التركية والقطرية العنيفة على مصر فى الساحة الدولية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كانت الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوربى قد قررت عقد جلسة لتوقيع عقوبات على القاهرة، وكانت ستكون شديدة الوطء، لولا توجه الراحل الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي السابق إلى باريس حاملًا رسالة من المغفور له الملك عبد الله إلى الرئيس الفرنسى السابق فرانسوا هولاند يحذر فيها من مغبة توقيع عقوبات على مصر. وواقع الأمر الرسالة كانت بمثابة إنذار واضح للأوربيين.
لكن هذا لم يمنع الإدارة الأمريكية السابقة من توقيع عقوبات مصحوبة بمواقف علانية مناوئة لإرادة المصريين كما تجلت فى يونيو ويوليو ٢٠١٣.
لكن التاريخ أخذ مجراه وانتصرت الإرادة الحرة للمصريين لكن بثمن مكلف تمثل فى حصار اقتصادى غير معلن وارتفاع معدلات العمليات الإرهابية التى أضحت تتمتع بغطاء إعلامى تركى وقطرى لا لبس فيه، الهدف منه القضاء على ثورة يونيو ٢٠١٣، فتركيا وقطر هما رأس حربة الثورة المضادة.
بانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيسًا لمصر فى يونيو ٢٠١٤ تمت مأسسة ثورة يونيو، ودخلت مصر مرحلة إعادة بناء شاملة من بينها وأهمها على الإطلاق التأسيس لدولة وطنية عصرية تلتزم بمبادئ الحكم الرشيد وبالسيادة الوطنية الحرة. وقد مضت ثلاث سنوات من الولاية الدستورية الأولى للسيد الرئيس، حققت خلالها السياسة الخارجية المصرية العديد من النجاحات فى وجه ضغوط وتحديات كبرى فى مقدمتها الإرهاب الممول والمدعوم من الخارج، وتهديدات مستمرة لمصر على كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة.
خلال هذه الفترة تفاعلت تداعيات ثورة يونيو فى الداخل مع مجموعة من التطورات العربية والإقليمية والدولية، أعطت فى مجملها زخما جديدا لهذه الثورة.
ففى سوريا، ساهمت الثورة بدون أدنى شك فى دعم سياسى ومعنوى كبير للجيش العربى السورى مكنته من الصمود فى مواجهة الضغوط العسكرية، فى الوقت الذى تم فيه تمكين الجماعات القاعدية من التمدد (كداعش) وجبهة النصرة التى تحولت بعد ذلك إلى هيئة تحرير الشام.
البعض يميل للاعتقاد، وربما هو محق فى ذلك، أن توسع الجماعات القاعدية فى سوريا والعراق خلال ٢٠١٣ و٢٠١٤ جاء ردا على ثورة ٣٠ يونيو، أى للدفاع عن المخطط الأصلى لتقسيم المنطقة.
التطورات السياسية الداخلية فى تركيا ونزوع أردوغان المتزايد للسلطوية وإقصاء كافة أشكال المعارضة، وتحويل نظام الحكم من برلمانى إلى رئاسى مرورًا بمحاولة الانقلاب الفاشلة فى يوليو الماضى وحملة الاعتقالات واسعة النطاق التى أعقبتها مع تفاقم المشكلات الاقتصادية، كل ذلك أدى إلى انتهاء صلاحية النموذج التركى وقابليته للتطبيق فى مصر وسوريا وأنحاء أخرى فى العالم العربى - انتهاء صلاحيته لدى الغرب.
لكن العامل الحاسم فى إدخال تعديلات على مخطط الهيمنة والذى وفر للسياسة الخارجية المصرية هامشا أكبر للتحرك بفاعلية وتأثير هو فوز دونالد ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية فى نوفمبر الماضي، وهو الفوز الذى يمثل شبه قطيعة مع سياسات أوباما فى الشرق الأوسط وتجاه مصر تحديدًا. فبعد سنوات من الخصومة الفجة وفى العلن، وبعد سنوات من عقوبات طالت البعدين العسكرى والاقتصادى فى العلاقات المصرية - الأمريكية، جاء الجمهوريون إلى البيت الأبيض وهم عاقدو العزم على تعديل مسار السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط والعودة التدريجية لسياسات التحالف التقليدية ومحاربة الإرهاب الذى استشرى بصورة غير مسبوقة فى تاريخ الإرهاب. وهى العودة التى تتفق مع الرؤية والمصالح القومية المصرية، وبعد أن امتنع أوباما عن توجيه دعوة للسيد الرئيس لزيارة البيت الأبيض لعدم إضفاء شكل من أشكال الدعم الأمريكى للرئيس شخصيا ولثورة ٣٠ يونيو فى الأساس، وجه دونالد ترامب الرئيس الجمهورى الجديد الدعوة للسيد الرئيس للقيام بزيارة رسمية للولايات المتحدة واستقباله بالفعل فى البيت الأبيض فى أبريل الماضي. والجدير بالذكر أن هذا الانفتاح الأمريكى على مصر وعلى الرئيس السيسى كان له مردوده الإيجابى على مجمل العلاقات المصرية - الأوربية، وانعكس ذلك على سبيل المثال فى قيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بزيارة رسمية للقاهرة فى مارس الماضي.
ثورة يونيو أحدثت تغيرا جذريا فى الشرق الأوسط والخليج من الناحية الاستراتيجية، غيرت من موازين القوى لحين، وعلينا أن نعمل خلال السنوات القادمة، ونحن على مشارف انتهاء الولاية الأولى للسيد الرئيس، ولا نعرف نوايا سيادته من الترشح لولاية ثانية من عدمه حتى الآن، على ترسيخ هذه الثورة عن طريق تدشين مرحلة جديدة حاسمة فى تاريخ مصر عن طريق تبنى أجندة تقدمية تخاطب وتتواكب مع العصر تعتمد على تنفيذ الحكم الرشيد من سيادة القانون، والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ومحاربة الفساد والشفافية والمحاسبة، لا بديل آخر لحماية الثورة والتمكن من الوقوف ضد قوى الثورة المضادة فى الداخل وفى الشرق الأوسط والخليج والقضاء على الإرهاب، وعلى كافة التهديدات على سائر الاتجاهات الاستراتيجية للدولة.
لا يساورنى أدنى شك فى قدراتنا وإمكانياتنا على التصدى لكل التهديدات والتحديات شريطة إرادتنا الصلبة لمواكبة العصر، وهذا فى حد ذاته سيمنح السياسة الخارجية المصرية فى عالم متغير زخما لا يقل فى تأثيره على دور مصر وثقلها على المسرح الدولى وفى الشرق الأوسط لا يقل أبد عن زخم الخمسينيات والستينيات عندما تحدثت مصر لغة عالمها المعاصر بكل ثقة وشجاعة وتصميم.