رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


احتلال الأرض يبدأ باحتلال القلوب والعقول

30-1-2022 | 21:47


أحمد الزغبي,

أساطير الأولين والملاحم من الفنون الأدبية التي ابتدعها العالم القديم في الهلال الخصيب -مصر والعراق والشام- وجزء أساسي من تمييز الأساطير والملاحم أدبيا هو تداخل قصص الآلهة وأبناء الآلهة وأنصاف الآلهة مع البشر والتفاصيل الدنيوية، يمتد ذلك التداخل ويشمل كل صور الحياة، خصوصاً في الفنون والإنتاج الفكري والثقافي والحضاري، حتى صارت مجمل الحضارات القديمة حضارات قائمة على العقيدة والثقافة الدينية، وقد كان هذا الالتحام أعمق بين الثقافة والدين والحضارة في العالم الأقدم، حتى نصل إلى مكون الثقافة والدين فقط في العالم البدائي، تجد القبيلة البدائية تعتمد على الطقوس الدينية في كل تفاصيل الحياة، حتى يختفي دين العالم البدائي ولا يبقى منه سوى الشكل الثقافي.. تأمل النشأة الدينية لأنواع كثيرة من الفنون كالرقص والغناء، المسرح والشعر، الفنون التشكيلية، تقاليد الملابس وخصوصية الأزياء، الفلكلور الشعبي، وقبل كل ذلك اللغة وطريقة التعبير بها.

تقدمت واتسعت العوالم القديمة فتطور معها الخطاب الثقافي الديني، لاحظ منطق التعامل مع النيل كرب للنماء والعطاء، في صورة رمز، تقديس البقرة النافعة للفلاح المصري، تقديس حقيقة الموت والحياة الآخرة وتقديس الشمس، كل هذه المقدسات صارت تسمى في عصور متقدمة تجليات الإله.

يتطور العالم المتحضر القديم وتتسع أفكاره لتصل غربا وتختلط بكل العوامل الديموغرافية، لكنها لا تفقد جوهرها، فقط تطورات تميل إلى إعمال العقل والتفكير النقدي، ثم يصير خطاب التوحيد الأقوى من جديد بعد هذا الشتات والتنوع الفكري المرتبط باتساع عدد العقول وتنوعها، وتنوع البيئة الثقافية، ولا يمكن فصل الخطاب الديني عن الخطاب الثقافي، والمتأمل يلاحظ ارتباطهما بكل العوامل الحضارية الأخرى.

الأديان في الأساس تحمل اتجاهين، الأول نسميه مجازاً الثقافة العليا، والآخر هو الثقافة الدنيا، أما الثقافة العليا فتشمل كل التصورات اللاهوتية، الألوهية والربوبية وعالم الغيب، وقد توصل الإمام محمد عبده والفيلسوف إيمانويل كانط إلى أن العقل أداة غير مؤهلة للتفكير أو الوصول إلى حقيقة علمية في تلك الأمور، حيث إن حسمها يتجاوز الأدوات العقلية، ولا سبيل لتصديقها سوى بالإيمان الغيبي والعقيدة القوية، ويمثل ذلك التحدي الأكبر بين المؤمن وغيره، لكنها أمور على أية حال يُعد الجدال العقلي العلمي فيها عبثا، والخطاب الديني المقدس نفسه صار يخاطب العقل تدريجياً بطرق مختلفة على مدار الزمن، يعتمد بشكل أقل على المعجزات الحسية وبشكل أكبر على الصور والرموز والقصص للتعامل مع العقل الإنساني الذي صار أكثر تطوراً، والتعامل مع الحياة نفسها التي تحولت من البساطة إلى التعقيد.

الثقافة الدنيا في الأديان تهدف بالأساس إلى إتمام مكارم الأخلاق والتعارف وحسن المعاملة وتقبل الآخر، ولم تتطرق كثير من الرسائل الدينية إلى ثورة اجتماعية بقدر ما كانت تهدف إلى ثورة فكرية في الثقافة العليا، ولو وصلت إلى الإشارة في الثقافة الدنيا تجدها تهدف إلى مشكلة محددة أو ظاهرة اجتماعية محددة، لاحظ خطاب الأنبياء والمرسلين في الأديان الإبراهيمية في مواجهة الظاهرة الاجتماعية حيث إن كل نبي مرسل في الغالب كان لدى قومه مشكلة اجتماعية: الغش التجاري أو الانحراف الجنسي أو الاستعباد وهكذا، فكان الخطاب الديني الأصلي شديد العقلانية والهدوء في التدخل في الحياة الاجتماعية، بل كان الشكل الاجتماعي الثقافي الدارج هو المؤثر الأكبر على الخطاب الديني الأدنى.

صارت العلاقة بين الخطاب الثقافي الديني وأدوات الحضارة مرتبطة بكل التغيرات والتفاصيل الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، الجغرافية البيئية، والفنية، ولا يختلف الخطاب الثقافي الديني بين أي توجه، المسيحية صارت تيارات متعددة وكنائس كثيرة تختلف اجتماعياً للظروف السابق ذكرها أكثر منها اعتقادا دينيا.

تأمل نشأة البروتستانتية في أوروبا وازدهارها في أمريكا. والنشأة السياسية الاجتماعية للتيارين السني والشيعي، وجغرافية انتشارهم، وظروف فترات ازدهار كلاهما.

لا يخاطب الإسلام مثلاً بقتل الخارجين عن الدين الإسلامي بقدر ما يهتم بمحاسبة المخطئين في حقوق البشر، وجعل حساب غير المؤمنين في الآخرة، وضرورة حساب المخطئ فيما يخص الحياة الدنيا على يد أولي الأمر في الدنيا، الوحيدين المكلفين بتنفيذ القوانين التنظيمية الدنيوية، لامتلاكهم الأدوات والقوة الاجتماعية اللازمة لتنفيذ المهمة، وعدم انفجار فوضى عالم الغاب، ولا تخلو الخطابات الدينية المقدسة من تحذير الناس من أنفسهم، فقد أخطأ أول إنسان ونبي خلقه الله بيده، وطرد من الجنة إلى الحياة الدنيا، فعصى آدم ربه فغوى، وقتل قابيل هابيل.

دخلت مصر عصورًا متعددة؛ لتعاقب الاحتلالات الخارجية شديدة التنوع الثقافي، تتغذى على ما تم اقتباسه منها قديما وتخلطه بالمظاهر الثقافية الدينية وغير الدينية، لكن في تلك الفترات وحتى الآن لا يزال الخطاب الديني هو الأكثر تأثيراً، تجد المحتل يعمل على استخدام الخطاب الديني للوصول إلى الهدف الاستراتيجي الأساسي، وصدق القول إن احتلال الأرض يبدأ باحتلال العقول والقلوب.

يستخدم الإسكندر المقدوني الخطاب الديني ويدّعي أنه ابن الإله آمون، تستخدم الحملات الصليبية خطاب ديني استعماري لتحرير القدس من المسلمين العرب، ويستخدم العرب الخطاب الديني لدفع الغزاة بدلاً من استخدام خطاب الحق الأصيل في الأرض، يتبنى الفاطميون خطاب كرامة أهل البيت لتسويق التيار الشيعي ضد التيار السني، يقتبس منهم المصريون مظاهر ثقافية دينية متنوعة اختلطت بالتراث المصري القديم مثل أغنية "وحوي يا وحوي" المصرية القديمة. حتى ينتهي أمر الفاطميين -بالإبادة الجماعية- على يد الدولة الأيوبية السنية ومؤسسها صلاح الدين.

يعتمد نابليون بونابرت على خطاب ثقافي ديني إسلامي مع المصريين، يخطب فيهم مؤكدًا أنه مسلم تماماً كالمصريين، بل إنه يفتخر بهز عرش البابا في روما لأنه من غير المسلمين، ويشارك المصريين احتفالات دينية، ويوصي جنوده بعدم المساس بعقيدة المصري، بل محاولة التماهي معها، ولا يزال الخليفة العثماني يتحصن باللقب الديني وهو على قدر عالٍ من الفساد والشراسة والضعف. يشارك الاحتلال الإنجليزي بشكل أساسي في تأسيس الوهابية وجماعة الإخوان، وبعد كتابات حسن البنا الساعاتي في مجلة النذير يصبح النازي أدولف هتلر الحاج محمد هتلر.

تصمد مصر فترة طويلة أمام محاولات ترسيخ الخطاب الديني المتشدد -استعماري النشأة- طوال فترة الخمسينيات والستينيات لوجود مشهد ثقافي ديني اجتماعي وطني يمثل أرضًا بورًا لتلك الأفكار، ويصل الخطاب الديني المصري إلى أقصى درجات النضج والعقلانية والفهم المستنير الوسطي، على مستوى الشكل وأدوات الاتصال والمضمون، ولا ننسى أن إذاعة القرآن الكريم نشأت في فترة الستينيات، وربما تعتبر الإذاعة أهم إنجاز للحفاظ على القرآن منذ أن جمعه أمير المؤمنين عثمان بن عفان.

تنتعش التيارات الأصولية المتشددة بتبني السلطة الجديدة الخطاب الديني الاستعماري الجديد، وأيضاً بدخولها عالم الرأسمالية والانفتاح وتسليع كل شيء، صار الخطاب الديني مرتبطًا بشكل أكبر بالمشهد الاقتصادي.

 تنشأ علاقة شيطانية بين الرأسمالية الجديدة -الشركات والتجارة والسفر إلى دول البترول- وبين الفكر الديني الاستعماري، وذلك ليس بمعزل عن المشهد العام، لاحظ تدني أحوال الثقافة والفنون والمشهد والمكون الاجتماعي، والأمراض الاجتماعية المعاصرة لتلك الفترة، وخطاب الشارع المتدني ونوعية الإنتاج والمهن والنظرة الجديدة إلى الملبس والمظهر والمسكن والتسارع إلى المادة مقابل القيمة.

مثل تلك المشاهد حين يطول بها الزمن يتحقق الشرط الأساسي من الاحتلال الفكري. احتلال القلب والعقل، خصوصاً في مجتمعات تمتلئ بالهاربين من الواقع، ومواجهة الحياة وصعوبتها، يجد الشاب سهولة في الارتكان إلى أوهام ذلك الاحتلال الوجداني، وخطابه الذي يخدر العقل ويحذر من استخدامه، ويشعل الحواس واليأس من الدنيا، حتى يصير العالم الأكاديمي لعبة في يد شيخ مختل أو جاهل أو جشع في تجارته بالدين.

 وحينها يصبح احتلال الأرض من السهولة بمكان، هكذا احتلت التيارات التكفيرية والأصولية والجهادية التنظيمية قلوب وعقول الكثير، كثير منهم يظنون بالله ظن السوء، ولا يحفظون من أسمائه وصفاته سوى المتأثرة بعبادة آلهة الشر القديمة والله بريء من كل تلك الصفات والأسماء. ومنهم اليائس فاقد الثقة في الله وفي نفسه؛ فيتخذ طريق القتل والانتقام من المجتمع أو السلبية باعتزال الحياة، وانتظار الآخرة وتوقع المكافأة.

احتل المستعمر الشيطاني مصر بلا شك في صورة الجماعة الإرهابية، لا تنس صورة تجمع معظم التيارات الدينية المتطرفة في المشهد الإخواني بعد إخراجهم من السجون، ومن الخارج باجتذاب آخرين إلى مصر، والتحريض على دخول المصريين في حرب كيانات غير معروفة في سوريا، والتأسيس لعصر ديني ثقافي اجتماعي جديد، تسود فيه العنصرية وملامح الاستعمار وتجارة الدين، وتسليع كل قيمة دينية رفيعة المستوى، حتى الثقافة العليا والذات الإلهية صار الخوض فيها أمرا شديد الجرأة، تجد الرجال يتحدثون عن رؤيتهم الأنبياء والتواصل مع الله كخلفائه في الأرض، واعتبار أي انتصار سياسي انتصارًا إلاهيا، والخروج عن الرأي لا يقابله إلا العنف المتهور الشديد، بداية من مستوى خطاب العنصرية والكراهية المتطرف وصولاً إلى مستوى الإرهاب.

دخلت مصر مع الرئيس عبد الفتاح السيسي عصرًا جديدًا منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣، لأول مرة منذ بداية القرن الماضي يتم التخلص نهائيا من بقايا أدوات الاستعمار الفكري الغربي، التي وُضعت خصيصاً للسيطرة على عقول العرب وإنهاك قواهم الفكرية.

صارت القاعدة أنه لا يلمع في معظم الأحيان مفكر أو مبدع أو مصلح حقيقي سوى في الغرب، ولا يبيع الغربي بضاعته سوى في الشرق، البضاعة المادية والمعنوية، يتعرف العرب إلى الغرب ويتعرفون أنفسهم من منظور غربي متعالٍ، البطل المثالي العالمي هو كابتن أمريكا أو سوبرمان الخارق الذي يتلوَّن بالعلم الأمريكي، يصنع الغرب أفلام الإباحية الرأسمالية ويسلع المرأة بشكل وضيع متعمد؛ لتحقيق الأرباح المادية، وتنتعش تلك التجارة في الشرق، تغرس إسرائيل أظافرها في عيون العرب كل يوم على مدار عقود ويتعامل معها الغرب كدولة أوروبية، في حين تزداد شعبيتها بين العرب، تفقد الأمة جوهر الثقافة الدينية الدنيا النقية ومكارم الأخلاق وتهتم بالتجارة بالشكل الديني حتى في التعامل مع الله.

وصلت الدولة المصرية في سنوات قليلة إلى تحقيق الكثير من الأحلام، كانت العشوائيات قنبلة موقوتة، والطرق مسرحًا للحوادث وإهدارًا للعمر، عادت مصر إلى الاهتمام بالمشروعات القومية الضخمة التي وصلت إلى المجال الثقافي وملاحقة الفاسدين وإقرار الأمن واستعادة الدور الأساسي لمصر كقوة أساسية في المنطقة، يشاهد المصريون والعالم ملوك قدماء المصريين في شوارع القاهرة بفخر وإجلال بعد تحرش واستهداف في السابق، ويقتحم الرئيس السيسي بجرأة ملف تطوير العقل والخطاب الثقافي الديني.

استبدال الخطاب الديني الاستعماري بخطاب ديني نقي وعقلاني فرصة لا تتكرر كثيرًا في حياة الشعوب، وبعد تجربة تأثير التفكير الديني العقلاني النقي في مقابلة تأثير الاستعماري صار للاختيار طريق واحد، كالفرق بين طريق تأثير إذاعة القرآن الكريم في الستينيات وبين تأثير جماعات العنف والإرهاب، ثقافة الصوت العالي والهتاف والتنويم المغناطيسي لا تنتعش سوى في المجتمعات وضيعة الثقافة، ترتقي الثقافة وتتطور إذا ارتقى الدين عما أفسده البشر ويتطور الدين ويرتقي إذا تطورت الثقافة.. كما يشير تيري إيجلتون وغيره من الفلاسفة المعاصرين.

الخطاب الثقافي الديني المتطرف أو الطفولي لا يليق بالجمهورية الجديدة، ولا يليق أن يتصدر المشهد المصري سوى الأنقياء أصحاب العقائد القوية، بنات مصر ونسائها، شباب مصر ورجالها، وهم قادرون كما يقول التاريخ على فحص كل ما يطرأ، وتبني ما يوافق حقيقة عقيدتهم وجوهرها، ونبذ كل ما يتنافى مع الروح المصرية الأصيلة، وذلك بشكل عام ولا يخص مسلمًا مصريًا أو مسيحيًا مصريًا أو غيرهما، قد تعيش مصر فترات ظلامية أو تجارب مريرة، لكنها لم تخلُ في فترة من فترات تاريخها الممتد من بعثٍ جديدٍ للأمة بأحداث تعيد إليهم وعيهم بعد نوم طويل واستسلام للوهم وتخدير العقل والروح والقلب. ودخول مصر بشكل فعَّال وحقيقي في فترة قصيرة إلى جمهورية متطورة جديدة لن يقوم إلا على تطوير العقل النقدي المصري وتطوير الخطاب الثقافي الديني.