حديث النفس.. عائد من العالم الآخر
لحظات يتوقف فيها القلب والدم عن التمدد.. فتنسحب أرواحنا لتتحجر أجسادنا نشعر معها بأن الزمن بات منتهيا.. نسأل أنفسنا فيما كنا؟.. تقول إنه موج الحياة.. أقول لها إنى أغرق.. تقول إنه ظلمة القبر.. أقول إنه الوجع.. تقول هل ارتدعت؟.. أقول لقد تبت.. تقول كيف حالك؟.. أقول زاهد فى الدنيا بعدما عز البقاء.. تقول هل أنت مستعد؟.. أقول ومن منا لا يُغتفل وتتحول عنه عافيته وستر الله المرخى عليه.. تقول هل أنقذك؟.. أقول لا راد لقضاء الله.. تقول أين أنت؟ أقول لطف بي ربي وعائد من العالم الآخر.. تقول حمداً لله فلتبحث عن العمر الجميل والصبر الجميل.. فقدر الله للرجاء ألا يموت وما موج الحياة إلا ليهزمنا تارة ويرفعنا أخرى!
نصاب بالأزمات والصدمات بقدر الله وقضائه.. فمنا جازع ومنا صابر ومحتسب.. فإذا مس الإنسان الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا.. لنكون مختلفين فى تناولنا للابتلاءات فى السراء والضراء.. فالابتلاء سنة ثابتة ماضية من الله فى جميع خلقه لتميز صدق إيمانهم كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة فى جسده وماله وفى ولده حتى يلقى الله ما عليه من خطيئة.. فيتقرب إلى الله ويتذلل بالاستغفار والدعاء ذلك الحبل الممدود بين العبد وربه ليدفع عنه النقم وتفرج الهموم والغموم.
وكلما اشتدت الأزمة ويعلم الإنسان أنه لا منجى منها سوى بيد الله يأتيه اليقين بأن الله وحده هو من يخرجه من كل كرب عظيم.. فيشد الرحال لطاعة المولى عز وجل ويكثر من الاستغفار والتوبة بعدما أثقلته الخطايا فعميت الأبصار والقلوب التي في الصدور، ولكن الله يحبنا ويبتلينا لنصحح ونصوب من أنفسنا.. فماذا يفعل الله بعذابنا أو حتى بشكرنا إن الله غنى عن العالمين.. لكنها أجراس الإنذار التى يرسلها الله لنا.. وفى لحظة معينة نسأل أنفسنا هل لى أن أخرج من أزمتى وأستعيد صحتي وعافيتي وهنا أعترف بخطئى وتقصيرى وأننى من ظلمت نفسي.. وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم ويعفو عن كثير.. فنزداد تقربا من الله وكلما اشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها وشعرت معها بدنو الأجل وجلالة الحدث وأنه لا مفر من الخروج منه ألوم نفسى ولسان حالى يا ويحى نسيت أن أغتنم خمسا قبل خمس.. شباب قبل هرم وصحة قبل مرض وحياة قبل موت وغنى قبل فقر وفراغا قبل شغل.. إنها النفس التى تتطهر وترضى بما قسمه الله لها.
وتتعلم أن تتأدب وتتهذب فى حضرة البلاء لأنه بيد الله وحده فنصبر ونرجو العفو من الله ونتمسك ليس بالحياة الدنيا إنما بألا نرحل منها ونحن مفلسون ما دام الرحيل قدرنا.. لقد آن الأوان لأن تتوب وتتطهر فإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
وفى أوقات الأزمات يجدر بنا أن نتوقف عند الصورة الكاملة لكل حياتنا.. حينها نكتشف أننا لم نعد نبالي بأشياء كثيرة أرهقتنا وأتعبتنا وربما ندمنا لأننا أضعنا أعمارنا وأنفسنا في سبيلها وما تبقى لنا أقل مما فات وقد لا نعوضه.. فتصاب بحالة شعورية تسترجع فيها حياتك كلها فى لحظات كأنها شريط أمامك.. وقد يسيطر الصمت عليك من هول الصدمة وقد تترنح باحثا عن أمل يمنحك الاتزان أو تتمنى أن تكون في حلم مفزع بعده تعود لواقعك السابق ليصبح الأمر كأن شيئا لم يكن، أو تصاب بفقد مؤقت للذاكرة لتتناسي هول ما عجزت عن مقاومته.. ولسان حالك أليس ما كنا فيه من صحة وعافية وستر رغم شكوانا الكثيرة منه كان الأفضل؟.. أما الآن لم يتبق لنا سوى أن ننعى أنفسنا ونستعد للرحيل!
فترفع يدك للسماء راجيا رحمة الله تعاهده على فعل الخيرات والتوبة وتتعمق أكثر وأكثر فى الإخلاص فى العبادة والذهاب إلى اليقين بقدرة الله عز وجل وتطلب النجاة من هول ما أصبت به.. بعدما أصبحت لا تسمع غير صوت نفسك فتلتمس النور الإلهي داخلها وحينما يمتلئ كيانك بالنور الإلهي لتصل للنفس المطمئنة تسير فى الطريق الصحيح بفطرتك الإنسانية السليمة التى خلقنا الله عليها.. باحثا عن السكينة بعدما نسيت أن تتقن كيف تحيا.. فلا أحد يعلم ماذا ينتظره؟ هو المجهول الذى تسعى أنفسنا وتتحسس الوصول إليه لفك شفرته وغموضه وأن وصوله قدر محتوم إذا ما قدر الله أن يصل.. وتصبح حياتنا فى قلق وخوف وتحسب وحذر وأسلحة ودروع لا بها اطمئننا ولا واجهنا بها قدرا.. مثلنا فى ذلك مثل من يقتنى أحدث الأسلحة ليدافع بها عن نفسه وكلما زاد خوفه أنفق مزيدا فى شراء الأحدث والأقوى فوضع نفسه فى موقع الدفاع عن النفس ونسى أن يدعم قوته الإيمانية لأنه اعتمد على أسلحة مادية لا يقوى على حملها فى ظل نفس هشة ضعيفة.
وقد تتصور من واقع دلائل النتائج المادية المحيطة بك فى أزمتك أن ما تبقى لك فى هذه الحياة ما هى إلا ساعات قصيرة، فتهون الدنيا عليك كلما ضاقت بك سبلها واشتدت العلل على جسدك لتصبح موقنا أنها رخيصة زائلة.. فالكل راحل يسابق غيره في الوصول للنهاية.. ونكرر على أنفسنا ماذا فى الحياة جميل يجعلنا نتمسك بها.. وقد خلق الإنسان فى كبد وخلق ضعيفا، لكن فى ذات الوقت لا ظالم ولا مظلوم فى هذه الدنيا وما ربك بظلام للعبيد نحن من نظلم أنفسنا.
فتصبح متصلا بفكرة الموت يقينا وإيمانا وليس يأسا بعدما صرت أعوامًا كثيرة تخافها وقد تكون مصابا برهابها.. ماذا حدث؟ ألم تعد تخشى الموت؟ كلا مازلت أخشاه لكننى راحل فوجهت قلبى لعفو المولى عز وجل راجيا أن يرحمني في آخرتي.. فما زال باب التوبة مفتوحا وعشمى أن يتقبلنى المولى بقبول حسن.. لتكون قناعة أنك ميت وأنهم ميتون التى تصل إليها فى عز المحن.. على الرغم من رسائل الإنذار المصاحبة للموت والابتلاءات من حولنا كثيرة، لكننا بسرعة نتناسى ونتجاوز، فإذا ما حدقت بك المخاطر والمهلكات تتهيأ وتقر يقينًا بضرورة استقباله في أحسن حالاتك الإيمانية.. وقد تدخل نفسك في حالة من التحدي لمواجهة ما أصابك من ألم وخوف تجعلك تتهيأ لاستقبال العالم الآخر للتخلص من وجعك، فتزهد في الحياة ويصبح أهون عليك أن تنعي نفسك قبل أن ينعيك غيرك.. فتهون عليك الدنيا وتصغر وتصبح لا تساوي شيئا وتستقبل فكرة ذهابك للعالم الآخر بكل أريحية وراحة من آلامك ورغبة في حياة أفضل بعدما ضاقت عليك الأرض بما رحبت.. ولا أنكر تفكيرك في ذويك والقلق عليهم وقد تكون الصدمة أكبر من تفكيرك في غير نفسك الراحلة.
فالحياة حتما مقضية والابتلاءات فيها تلعب دورا لتخلق منا أناسا أقوياء.. وقد تخرج بحالة تعادلية تتوقف فيها عن الدهشة من أي أمر حادث يخالف توقعاتك وتبدأ التحرر من كل شيء.. وتزهد في أشياء سعدت باقتنائها، لأنها أصبحت لا تعنى شيئا لك بعدما علمت أن العمر لحظة.. حتى الزمن لم يعد له اعتبار.. هى التجربة التى خلقت منك شخصا مختلفا اعتدت عليه والآن تنتهى لتخرج منها شخصا آخر.
وتمتلك عقلانية الحياة التى يجب أن نحياها فى محاولات يجب أن تكون متوازنة فتتملكها ولا تجعلها تستعبدك.
وقد تشغلنا أنفسنا أن نستعد لذلك العالم الغريب المجهول عالم الموت الذي لا نعلم عنه غير قشور.. مجرد أحاديث عن ظلمة القبر والحساب والجنة والنار.. ليصبح لزامًا علينا الاستعداد بالتوبة والتطهر في مدة لا يعلمها إلا الله فهو خالقنا ويعلم قوة تحملنا.. ونرتقي فترق قلوبنا ونصبح أكثر رأفة ورحمة لكل شيء عسى أن يرحمنا الله حتى وإن طالت مدة بقائنا النسبية فى هذه الحياة أو قربت ساعة رحيلنا.. هى الرحمة المطلوبة فى كل الأحوال التى نصبح معها روحانيين نتعلق بحبال الأمل الإلهي فتصبح قلوبنا معلقة بمالك كل شيء ومليكه.. فتنام مثقل لتصحو مستريحًا.. فنتعلم أن نتذوق الحياة ونتمسك بلحظاتها ونندم على ما أهدرناه في أمور تافهة نحاسب عليها.. عمرك فيما أضعت ومالك فيما أفنيت.. حتى لا تصبح حياتنا فارغة.. لكنه حالنا لا نتعلم أنها غالية إلا بعدما قاربنا وأشرفنا على فقدها.
وإذا ما كتب الله لنا بلطفه أن نخرج من الهم والحزن الذي كاد أن يقصف أعمارنا وجعلنا علي مشارف العالم الآخر بعدما استسلمنا لاستقباله قد نحيا حياتنا على أطراف الأصابع وقد تكون عند البعض فترة مؤقتة بعدها يغلب الطبع على التطبع.. وقد نعود لما كنا عليه ونخالف عهودنا لأنفسنا ونتناسى ما حدث حتى أننا نكره أن نختلي بأنفسنا حتى لا تعود ذكراها الأليمة وننسى أنه اختبار محتمل التكرار وقد نواجه الأسوأ وقد يكون التمهيد.. فمن ذا الذي يأمن مكر الله.. فالأقدار لا تمنحنا شيكا على بياض.. تلاعبنا ما بين صعود وهبوط لنسأم تعلقنا بالحياة الدنيا ونعلم أنه لا راحة فيها.
وقد تتملكنا حالة من النهم والرغبة في الامتلاء من كل شيء فى أعقاب تعافينا من الأزمة، ولكن هذه الحالة تبعث بنا إلى فراغ لنشعر معه أننا وصلنا إلى نقطة لا طاقة لنا بها هى نفس النقطة التى لا نصل لها إلا بعد تضييق الدروب علينا.. فيصبح لزاما عليك ألا تنسي ما يقوله الرسول صلي الله عليه وسلم إذا ما أصبحت لا تنتظر المساء وإذا ما أمسيت لا تنتظر الصباح.
والآن كيف حالك بعد العودة بلطف الله وفضله فى منحة جديدة لتعبر جسر الدنيا لحياة الأخرة.. أعلم أن لسان حالك تزينت بلباس اليقين الإلهي وامتلأت نفسى بالنور الإلهي ليجعل الله لى نورا أمشى به وأنه لن يضيعني فهو أنجانى من كل كرب وهم وحزن.. هو الله الذي أنجى سيدنا إبراهيم من النار وسيدنا يونس من بطن الحوت وهو كظيم وسيدنا موسى من فرعون وملأه وسيدنا محمد من القوم الكافرين.. هو الله ملجأ كل خائف اللطيف الجبار جل جلاله.