الدكتور جابر عصفور.. على خطى أعلام قافلة التنوير
أبى عام 2021 ألا يغادرنا إلا برحيل الأستاذ الدكتور جابر عصفور، هذا الرجل الذي أخذ على عاتقه النهوض والارتقاء بالفكر المصري الحديث، وهو في هذا تتمة لقافلة التنوير التي ضمت رموز الفكر والأدب والثقافة من أمثال: عبدالرحمن الجبرتي، وحسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وأحمد لطفي السيد، وطه حسن، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومحمد حسين هيكل، وزكي مبارك، وزكي نجيب محمود، وأحمد الحوفي وغيرهم كثير.. وظل الرجل وفياً لهؤلاء الأعلام، ينحت من أمجادهم، ويسير على خطاهم في زرع مشاعل التنوير، وتنقية العقول مما علق بها في عصور الظلام والاضمحلال.
وقد سمعت عن الدكتور جابر عصفور لأول مرة وأنا في مرحلة الطلب الجامعية عندما صدر له كتابه "أنوار العقل" في مشروع مكتبة الأسرة عام 1996، فالتهمته في بضعة أيام، رغم أنني اختلفت معه في البداية، إلا أن هذا الكتاب كان الشرارة التي أضاءت لي عن فكره، وجعلني أغرم به منذ هذا التاريخ قبل ربع قرن، فطالعت كتبه الأخرى التي تهتم بالتنوير، وكانت تصدر في طبعات بأسعار زهيدة عن هيئة الكتاب، وعن مكتبة الأسرة، وهي: "التنوير يواجه الإظلام"، و"محنة التنوير"، و"دفاعاً عن التنوير"، و"هوامش على دفتر التنوير"، و"إضاءات"، و"آفاق العصر"، و"ضد التعصب"، و"استعادة الماضي"، ثم بدأت في مطالعة كتبه الأدبية ومنها "الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغى"، و"مفهوم الشعر، دراسة فى التراث النقدى"، و"المرايا المتجاورة، دراسة فى نقد طه حسين"، و"قراءة التراث النقدى"، و"غواية التراث"، و"النقد الأدبي والهوية الثقافية"، وغيرها كثير... وكنت أنتظر مجلة العربي الكويتية على أحر من الجمر لأطالع مقال الدكتور جابر عصفور الذي يكتبه بلغة من النوع السهل الممتنع، فيعرج بنا في سهول الأدب والفكر والثقافة وشجون الذكريات وعبيرها.. فتكون لي زاد وفير عنه وعن مجمل أفكاره وأطروحاته، وكنت أتمنى لقاءه وكنت أخشى أن ينسل من حياتنا دون أن ألتقيه مثلما حدث لي مع أعلام آخرين، فالتقيته في معرض القاهرة الدولي للكتاب في عيده الذهبي عام 2019، ودار بيننا حوار قصير قطعت علينا متعته مذيعة قناة النيل الثقافية حينما دعته ليسجل معها في برنامجها... كان لقاءً يتيماً كنت أتمنى أن يتكرر ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
رحل جابر عصفور وشيعه أحباؤه وتلامذته إلى مثواه الأخير من رحاب جامعة القاهرة كما فعل في جنازات الأعلام الكبار من أمثال طه حسين وحسن حنفي، وظل المفكرون لأيام وليال يعددون مناقبه وجهوده في مجال تخصصه الرفيع فى النقد الأدبي، وقد أصابته عدوى القراءة والاطلاع منذ فجر حياته عندما كان في المحلة الكبرى مع مجايله الذين صاروا أعلاماً بعد ذلك من أمثال: نصر حامد أبو زيد، وسعيد الكفراوي، ومحمد المنسي قنديل، وجار النبي الحلو، وصنع الله إبراهيم، ومحمد صالح، وفريد أبو سعدة، ورمضان جميل، ومحمد الشطوى، وصالح الصياد، وأحمد عصر، وغيرهم، وكانت المحلة الكبرى فى ذلك الوقت مزاراً دائماً لأدباء القاهرة وغير أدباء القاهرة. وكانوا يجتمعون في أندية الأدب في قصر الثقافة بالمدينة، يتطارحون القضايا الأدبية والثقافية في ظل عصر الثورة في كل المجالات، السياسية والحضارية والثقافية والاجتماعية، وطفت على السطح مذاهب أدبية وفكرية كانت تأخذ بلب هؤلاء الفتية الذين سربلهم الحماس واستولى على وجدانهم.. ثم يمم شطره إلى مدينة القاهرة عاصمة الثقافة والفكر والأدب، فانتقل إلى مجال أرحب، وعانقت أبصاره الأعلام الذين كان يقرأ لهم، وكانت القاهرة تموج بالأفكار والمنتديات الثقافية والندوات في كل مكان، وكانت كلية الآداب تعج بكبار الأساتذة من أمثال: شوقي ضيف، وسهير القلماوي، وعبدالعزيز الأهواني، وحسين نصار، وعبدالمحسن طه بدر، ويقع الدكتور عصفور في غرام هؤلاء الأعلام وكانت له معهم ذكريات وأخذوا بيديه إلى عالم التفوق والتميز وقد تحدث الدكتور عصفور عن هؤلاء في مقالات ضافية فخصص لكل علم منهم فصلاً كبيراً في مجلة العربي الكويتية.
مخلصاً لأساتذته:
وقد أغرم جابر عصفور بالدكتور طه حسين وجعله مثله الأعلى منذ أن قرأ له في صباه كتاب "الأيام"، وأغراه هذا الكتاب أن يحذو حذوه، وقرر أن ينتسب إلى الكلية التي يدرس فيها طه حسين، وعلى يديه تخرج الأعلام في مصر والدول العربية والغربية، وقال عن طه حسين: "مفكر بحجم طه حسين قيمة نادرة لا تتكرر، فعلى سبيل المثال عندما نفكر فى أحوال التعليم الآن لابد أن نستحضر طه حسين، عندما نفكر فى الثقافة وتدهورها سوف يقفز إلى ذهننا بالضرورة طه حسين، وبالمناسبة فى عام ألفين وثمانية عشرة سوف يكون مر ثمانون عاماً على صدور كتابه الأشهر "مستقبل الثقافة فى مصر" عندما نعانى من الخطاب الديني وجمود تفكير مشايخ الأزهر لابد أن نتذكر طه حسين، لأنه أول من هاجم هؤلاء، وعندما نعانى من غياب الحرية نتذكر طه حسين لأنه كان مدافعاً شرساً عن الحرية، وعندما نعانى من سوء الأحوال الاقتصادية نتذكر طه حسين وكتاباته عن المعذبين فى الأرض، لذلك ولكل هذه الأسباب ولغيرها نحتفل بطه حسين كل عام ونحيى ذكراه". ومن شدة إعجابه بطه حسين التهم كل أعماله قبل أن يلتحق بالجامعة عام 1961، وفرغت من قراءة ما كتبه طه حسين فى النقد الأدبي، بالقدر الذى كان فيه متبعاً نهماً لكتابات تلامذته المباشرين من أمثال: محمد مندور، ولويس عوض، وكان محمد مندور يجذبه على نحو خاص بسبب سهولة أسلوبه التعليمي، إلى درجة جعله يتعلق به قارئاً، ويتتبعه فى كل الندوات، التي كان يحضرها أو يقدمها فى كل الندوات، التي كان يحضرها أو يقدمها فى المنتديات الثقافية فى القاهرة، ولا ينسى يوم وفاته فى يونيو 1965، وكان حينها يؤدى امتحانات الليسانس، وفاجأه زميله المرحوم حسن توفيق، بنبأ وفاة مندور، الذى كان يلقب بـ"شيخ النقاد" وقد حزنوا عليه حزناً شديداً.
ثم أغرم بتلاميذ العميد ومنهم أستاذته الدكتورة سهير القلماوي التي أخذت بيده وفتحت له عوالم جديدة، وعندما تخرج في الجامعة سنة 1965، اعترضته مشكلة اختيار موضوع لرسالته العلمية في الماجستير، فذهب إلى الدكتورة سهير القلماوي لمصارحتها بالأمر، فوجدها أما رؤوماً حنوناً، ويقول "أخبرتها برغبتي في اختيار موضوع الرسالة عن موسيقى الشعر، فلم تجادلني وإنما راحت تحسب معي متطلبات البحث وسنواته، فإذا بها ست سنوات، ومن ثم اقترحت عليّ اختيار موضوع رسالتي عن الصورة الشعرية، ولم يكن هناك من سبق وأعد رسالة عن الصورة الشعرية باستثناء رسالة الدكتور مصطفى ناصف عن الصورة الأدبية.. في تلك المرحلة من عمري كانت تسيطر عليّ مشاعر الاعتزاز بالنفس، وربما غرور طالب العلم في بداية الطريق، فأعددت لها الفصل الأول من رسالتي في شهر واحد ثم قدمته لها، وقد ظننت أني بذلك الإنجاز سأنهي رسالتي العلمية في ستة أشهر على أكثر تقدير. فما كان منها إلا أن حملت أوراقي ووضعتها في درج مكتبها دون أن تلقي إليها النظر.. ثم جلست تكتب في قائمة من صفحتين المراجع الأجنبية عن الصورة الشعرية، ودفعت بي إلى سيدة في الجامعة الأمريكية أحسنت استقبالي، وقدمت لي ما حملت قائمتي من أسماء المؤلفات والمصنفات الأدبية".
ثم يقول: "وقد عكفت على قراءة تلك المصنفات لمدة عام كامل، كانت طوال تلك المدة تعاملني بقسوة وصرامة، ولم أكن أفهم بواعثها، وحين انتهيت من مطالعتها لأخبرها بانتهائي من قراءة الكتب، أخرجت لي أوراقي من درج مكتبها، وقالت: اقرأ هذا وأخبرني برأيك فيمن كتب. فجاوبتها على الفور لا يكتب هذا إلا حمار. فعاودت البسمة وجهها ولم تغادرها منذ ذلك الحين في تعاملها معي، كانت القلماوي سيدة وعالمة صارمة، وفي ظني أن صرامتها هي من صنعت جابر عصفور".
أما الدكتور عبدالعزيز الأهواني فقد قال عنه: "لو سألت نفسي عن أكثر الأساتذة تأثيراً فكريا ومنهجيا عليّ من بين أساتذتي لقلت: إنه عبدالعزيز الأهواني، عليه رحمة الله. لقد ورثت منه أولا الانتماء القومي فكرا وفلسفة. وقد كان أول عهدي بذلك عندما رأيته يرفض النظرية الإقليمية في دراسة الشعر العربي، وقوّض أصولها الفكرية التي تقول إن الطبيعة تلعب دورا رئيسيا في تحديد أدب كل إقليم وثقافته. وقد ذهب أتباع هذه النظرية إلى أن الطبيعة الجغرافية المنبسطة لمصر التي يزينها نهر النيل حددت طبيعة الإنتاج الأدبي والفكري لمصر التي لم تعرف من الأدب إلا أبسطه وأقربه إلى السمح السهل، ولا من الشعر إلا ما هو أشبه بنيلها العذب السلس على نحو ما نجد في شعر البهاء زهير. ولذلك لم تعرف مصر تعقيد بلاغة التفتازاني، وإنما عرفت بلاغة البهاء السبكي التي عمادها الذوق. وقد حاول المرحوم أمين الخولي في العشرينيات أن يصوغ أسس النظرية الإقليمية بكتابه “في الأدب المصري”. وقد ظل تلامذة الخولي ماضين على دربه إلى أن كتب عبدالعزيز الأهواني كتابه "ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار" وخلاصته أن تقاليد الشعر لها من الأثر ما يؤكد أن تأثير التقليد لشعر التراث السابق أقوى من تأثير البيئة. ولقد آمنت بما قاله الأهواني إلى أن اكتمل وعيي المنهجي، فأدركت أن هناك علاقة جدلية بين البيئة والإبداع يتحكم فيها المبدع الأصيل الذي يتغلغل في المحلي ليصل إلى الإنسان العالمي"، ثم تعرض لسير أساتذته في سلسلة مقالات بالأهرام وفي مجلة العربي الكويتية، وتناول ذكرياته معهم.
إدارياً ماهراً – في المجلس الأعلى للثقافة:
ومثلما برع الدكتور جابر عصفور في عمله كأستاذ جامعي في مصر والكويت واليمن وفرنسا وأمريكا والسويد، فقد برع أيضاً في تولى المناصب الإدارية مثل رئاسة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة من 19/3/1990 إلى فبراير 1993، كما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة /1/1993 إلى 24/3/2007، ووزارة الثقافة التي تولاها مرتين الأولى في يناير 2011، والثانية في 2014، إلا أنه ترك بصمة في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وارتقى بالمجلس من مقر متواضع في بدروم بإحدى الهيئات الثقافية بشارع حسن صبري بالقاهرة إلى تخصيص مبنى مستقل له، وأصبح المجلس قبلة المفكرين من مصر وكل أرجاء العالم، وظل بالمنصب قرابة الخمسة عشر عاما، قدَّم خلالها الكثير للثقافة المصرية والعربية، وأشاع الحياة في المجلس الذي كان يبدو للجميع كياناً ميَّتا، فقد نقل نشاط المجلس من النطاق المحلى إلى الساحة العربية منطلقا من قناعته الفكرية العربية، حتى أصبح الكثيرون من المثقفين والمبدعين العرب يطلقون على المجلس بيت الثقافة العربية، ويمكن أن يرصد المتابعون موقع المجلس الأعلى للثقافة على خارطة الثقافة العالمية، من خلال مشاركات مثقفين بارزين من مشارق الأرض ومغاربها في الأنشطة التي كان ينظمها المجلس الأعلى للثقافة، ومن خلال تعاون المجلس باعتباره مؤسسة ثقافية عربية مع عدد غير قليل من المؤسسات الثقافية العالمية وبذلك، عادت مصر من خلال المجلس الأعلى للثقافة وتحت قيادة جابر عصفور تفتح أبوابها لاستضافة أبرز مفكري العالم ومثقفيه من أمثال: مارتن برنال، وبيتر جران، وجوستسمايرز، وجاك دريدا، وآلان روب جرييه، وميشيل فيفيوركا، وموريس جودلييه، وميشيل بوتور، وأندريه ريمون، وروبرت يانج، وروجر ألن، وأمبرتو إيكو، وفيسوافاشمبورسكا، وبدرومونتابث، وبرويز أمر علي، وغيرهم.
وقد نجحت سياسة الدكتور جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة في جعله جسرا بين الثقافة العربية والثقافة العالمية من ناحية، ومكانا لالتقاء المثقفين والباحثين والمبدعين من مختلف الأقطار العربية بعضهم ببعض، وساحة مفتوحة لحوارهم، ومجالا لتواصلهم مع مثقفي العالم وفنَّانيه من ناحية أخرى وتنطلق رؤية جابر عصفور للثقافة العربية من وعيه الحادَّ والعميق بكون العالم المعاصر قد أصبح بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة قرية كونية صغيرة تتفاعل فيها الثقافات واللغات والأديان، بما لا ينفى خصوصية كل ثقافة على حدة، وبما يؤسَّس في الوقت نفسه لحوار ثقافات العالم وليس صراع الحضارات.
في المجلس القومي للترجمة:
وقد عرف الدكتور جابر عصفور ما للترجمة من أثر كبير، وهي جسر بين الثقافات، فقد ترجم العديد من الكتب التي خدمت النص الأدبي مثل: "عصر البنيوية"، و"الماركسية والنقد الأدبي"، و"النظرية الأدبية المعاصرة"، و"اتجاهات النقد المعاصر"، و"الخيال، الأسلوب، الحداثة"، ثم تولى إدارة المشروع القومي للترجمة من 28/3/2007 إلى 30/1/2011، وبلغ ما صدر عن هذا المشروع أكثر من ألف عنوان، محطِّما بذلك الرقم القياسي لأي مشروع آخر للترجمة في تاريخ الثقافة العربية منذ عصر المأمون إلى يومنا هذا، ولم يكن الحلم العربي الذي تحقق على يدي جابر عصفور مجرد رقم جديد يضاف إلى ما تُرجِم إلى الثقافة العربية، بل كان إنجازاً في المحتوى أيضاً. لقد قدَّم المشروع القومي للترجمة للقارئ والمثقف العربي عدداً هائلاً من النصوص المترجمة عن قرابة ثلاثين لغة مختلفة من اللغات الحية، فضلاً عن بعض اللغات التي بطل استخدامها، أو غيرها من اللغات التي يُتَرجَم عنها مباشرة إلى العربية للمرة الأولى، وبذلك فقد كسر ذلك المشروع الحلم مركزية الثقافية الأوروبية في الترجمة إلى العالم العربي، ونَقَلَ عن لغات آسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية إلى جانب هيمنة اللغات الأوروبية التقليدية وأخيرا، كان اكتمال حلم الترجمة العربي بإنشاء المركز القومي للترجمة الذي تولَّى جابر عصفور إدارته، ليضيف إلى إنجازاته بؤرة ثقافية جديدة سوف تسهم دون شك في تبديد ظلام الواقع العربي وتنتقل بالثقافة العربية من خصوصيتها الجغرافية الضيَّقة إلى فضاء العالمية الرحب فقد كان المشروع القومي للترجمة منذ بدايته مشروعا عربي التوجُّه من حيث مشاركة أو استقطاب مترجمين من عدد من الدول العربية في ترجمة أعماله، ومن حيث نشر أعماله على النطاق العربي لكن المركز القومي للترجمة سوف يضيف إلى ذلك البعد المحلَّى أبعادا عالمية ملموسة.
وظل الرجل يعطي حتى آخر نسمات حياته، ثم حزن الجميع الذي يتفق معه أو يختلف على رحيله ونحن نودع عام 2021، وتم تشييع جنازته في اليوم التالي من جامعة القاهرة.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022