قراءة في كتاب حسن حنفي.. «من النقل إلى العقل»
بقدر عشرات الآلاف من الصفحات التي سوّدها حسن حنفي تجديدا للتراث وتصويباً لكثير من المفاهيم وتثويراً لفكر المجتمع العربي الإسلامي، سيظل من الممكن أن يكتب عن مشروعه "التراث والتجديد" الذي عاش من أجله جل حياته العدد مثله من الصفحات إن لم يزد. وهكذا يظل المفكر يحيا ما حيا الزمان، مؤثراً ما دام للفكر تأثير.
إلا أن هذا لا يمنع من الاختلاف معه، بل قد يكمن في الاختلاف معه توضيح ما هدف إليه وتحقيقاً له، فكم من المناقشات أدت إلى أن تكون الحقيقة كامنة في المنتصف عند خط التقاء المتحاورين وهو- رحمه الله لم يكن يغضبه الحوار الجاد معه ولا الاختلاف حول آرائه.
سوف أحاول أن أقدم رؤية نقدية لأحد كتب حسن حنفي وهو كتاب "من النقل إلى العقل".
موضع كتاب "من النقل إلى العقل" من مشروع حسن حنفي، يقسم حنفي مشروعه إلى ثلاث جبهات وهو ما يحرص في أغلب كتبه على التذكير بها حتى لا يتوه منه القارئ عبر السنين، يطلق على الجبهة الأولى موقفنا من التراث القديم، الجبهة الثانية: موقفنا من التراث الغربي، والجبهة الثالثة: موقفنا من الواقع (نظرية التفسير)، جاعلا لكل جبهة ما أسماه البيان النظري، صدر "التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم" – الذي عده حنفي البيان النظري للجبهة الأولى- أول ما صدر عام 1980 في القاهرة، وضع حنفي الجبهة الأولى في سبعة أجزاء ولكنه لم يكمل سوى الخمسة الأوائل منها فقط، وهي على النحو التالي:
1- "من العقيدة إلى الثورة" محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين. وصدرت طبعته الأولى في القاهرة 1988.
2- " من النقل إلى الإبداع" محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة.
3- " من الفناء إلى البقاء" محاولة لإعادة بناء علوم التصوف.
4- " من النص إلى الواقع" محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه.
5- " من النقل إلى العقل" محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه).
6- "العقل والطبيعة" محاولة لإعادة بناء العلوم العقلية (العلوم الرياضية والطبيعية).
7- "الإنسان والتاريخ" محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ).
أصدر حنفي البيان النظري للجبهة الثانية - التراث والتجديد موقفنا من التراث الغربي، مقدمة في علم الاستغراب بعد انتهائه من الجزأين الأولين فقط من أجزاء الجبهة الأولى، واجدا في هذا البيان النظري ما يغني مؤقتا عن تنفيذ الجبهة الثانية في أجزائها الثلاثة حتى تكتمل الأجزاء السبعة للجبهة الأولى. نوى حنفي وضع الجبهة الثانية: "الموقف من التراث الغربي" في ثلاثة أجزاء- بعد أن كان قد نوى وضعها في خمسة أجزاء، وهي الأجزاء التي لم تظهر للنور على الإطلاق.
1- مصادر الوعي الأوروبي. 2- بداية الوعي الأوروبي. 3- نهاية الوعي الأوروبي.
أما الجبهة الثالثة (موقفنا من الواقع)- فلم يصدر منها شيء وكان قد نوى أن يجعل أجزاءها هي 1- المنهاج. 2- العهد الجديد. 3- العهد القديم على نحو تراجعي- كما يقول- يكشف فيه الحاضر الماضي. وإن كان يرى أنه سبق وأن عرض لهذه الجبهة حين قام بتنظير مباشر للواقع على مستوى الخطاب الثقافي العام لجمهور المثقفين في "قضايا معاصرة"، والتي كانت شهادة على الجمهورية الأولى، و"الدين والثورة في مصر 1952- 1981" التي كانت شهادة على الجمهورية الثانية، "هموم الفكر والوطن" التي عدها شهادة على الجمهورية الثالثة، وإن كان يرى أن هذه الجبهة الثالثة ستظل بعيدة المنال حتى تستكمل الجبهة الأولى ويملأ فراغ الجبهة الثانية بمزيد من العرض للتراث الفلسفي الغربي.
على هذا النحو فكتاب "من النقل إلى العقل" يمثل الجزء الخامس من الجبهة الأولى لمشروعه "موقفنا من التراث القديم"، أو أنه يمثل حلقة محاولة إعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه) وفقاً لحنفي، الهدف المعلن هو إعادة بناء ما اصطلح على تسميتها "العلوم النقلية". لماذا؟ "لأن الأوائل وضعوها ثم تركها القدماء والمحدثون على النحو الذي وضعت به دون محاولة تطويرها، والتطوير مطلوب لأن "الزمن يتغير" (علوم القرآن ص 7)، ولأنها لا يجب أن تظل نقلية، ولأننا "يجب أن نقضي على جذور اللاعقلانية من تراثنا القديم، ولأن المشاريع العربية المعاصرة لن تنجح في إرساء قواعد العقلانية في أرض ثقافتها نقلية" (المرجع نفسه والصفحة نفسها). ولكن ما السبيل؟ السبيل هو "انضمامها على الأقل إلى مجموعة العلوم النقلية العقلية مثل الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف" (الصفحة نفسها) فتتحول إلى علوم إنسانية، فيصبح القرآن علم النص، والحديث علم الرواية، والتفسير علم الهرمينوطيقا، والسيرة علم التاريخ، والفقه علم القانون. العقل أساس النقل. والنقل بتأسيسه على العقل يصبح أقرب إلى اليقين.
سأحاول في عجالة بيان أن هذه العلوم هي بالفعل علوم عقلية، وأن مصطلح "علوم نقلية" مصطلح متناقض لا وجود لما يعنيه، (بل سأعتمد أحياناً في بعض حججي على ما يقوله حنفي نفسه) كما سأختلف مع سبيل تطويرها.
لقد أخذ تصنيف العلوم حيّزاً مهمّاً لدى الفلاسفة والعلماء المسلمين، فقد كانت معرفتهم للعلوم بكل أنواعها لا تستقيم دون تصنيفها، فصنفوا هذه الأخيرة إلى علوم نقلية وعقلية. ومن بين العلماء المسلمين الذين اهتموا بتصنيف العلوم نجد الفارابي من خلال كتابه "إحصاء العلوم"، وأبو حامد الغزالي من خلال كتابه "إحياء علوم الدين"، وكذلك "رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا" الذين خصصوا فصلاً من رسائلهم للبحث في أجناس العلوم، ثم الخوارزمي في كتابه "مفاتيح العلوم"، ثم ابن النديم في كتابه "الفهرست"، ثم ابن خلدون من خلال مقدمته المشهورة بـ "مقدمة ابن خلدون". (إسماعيل الموساوي "محاولة في تصنيف العلوم عند ابن خلدون).
هنا نتساءل: بأي معنى تكون هذه العلوم "علوماً نقلية" وقد وسمت بأنها (علوم)؟ التعبير في رأيي متناقض، العلم جهد وتأويل بشري، مادة العلم- كما أرى- لا تجعل من أي علم "علماً نقلياً" أو "غير نقلي"، ولا تقبل قسمة العلوم إلى نقلي وعقلي، إذ أن كل علم هو جهد وصناعة بشرية.
يتساءل حسن حنفي: لماذا لا نجعلها علوماً إنسانية وليست نقلية، وأقول له هي بالفعل ليست علوماً نقلية، بل لا وجود لما يسمى بالعلم النقلي الخالص. أذكرك بقولك في (علوم الحديث ص 17) " أن النقل الخالص لا وجود له، مجرد ادعاء غير صحيح، فالعقل داخل النقل والعلوم النقلية نظراً لما فيها من خلاف، وادعاء أنها علوم نقلية خالصة للحصول على مزيد من السلطة الشرعية". ويقول " العلوم مثل الفلسفات والفنون جزء من تصورات العالم التي تعبر عن تطور الوعي الإنساني" (علوم القرآن ص 7). كما أنه يقول تأييداً لدعوانا: "علوم الحديث اجتهادات إنسانية خالصة، الصواب فيها متعدد، ومن ثم فالاجتهاد مع القدماء وضدهم خلاف مشروع" (علوم الحديث ص 17). ثم بأي معنى هذه العلوم علوم نقلية وعلوم القرآن تعتمد فيما تعتمد على "علوم اللغة والنحو والبلاغة" (علوم القرآن 20 )، ثم إن حسن حنفي وضع كلاً من "البرهان" للزركشي، و "الإتقان" للسيوطي كأهم مؤلفين كاملين في علوم القرآن، وكلاهما احتاج لعلم التفسير كأساس لعلم القرآن. يذكر الزركشي أن الدافع على علم التفسير قدرته على إظهار المعاني الخفية وبيان بعض مقدمات الأقيسة وشروطها، (علوم القرآن ص 28 ). الجهد العقلي واضح، فكيف يكون علماً نقلياً؟
وعن علوم الحديث يرى حنفي أنها قد تدخل ضمن العلوم السمعية، وفي اختيار مقدماتها وفهمها واستعمالها وتركيبها في قضايا تحتاج إلى فهم وتحويل نصوص القرآن والحديث إلى مقدمات كلية في قضايا الاستنباط، (علوم الحديث ص 12) بأي معنى تكون علوم الحديث- إذن- علوماً نقلية خالصة؟
أضف إلى هذا أن التنظير في علوم الحديث أوضح من أن أقدم له أمثلة، ولكن لا بأس من مثال إضافي وهو تنظير ابن الصلاح في كتابه "مقدمة في علوم الحديث" في القرن السابع الهجري، بل ولقد اشتهر هذا الكتاب - على حد تعبير حنفي- لقدرته الفائقة على التنظير والتقسيم والتمييز والتحديد, (علوم الحديث ص 124) بأي معنى-إذن- هي علوم نقلية؟
اعتمد علم السيرة بشكل كبير على نموذج ابن إسحاق، وابن هشام، بل ويعدها حنفي ليست سوى قراءة وتعليق وشرح لسيرة ابن هشام مع إضافات في الهوامش وإحالات إلى مصادر أخرى. وهو أقدم النماذج وأكثرها ثباتاً على مسار التاريخ، وهي سيرة موضوعية تتجنب وجهات النظر العقائدية، سنية أو شيعية، سيرة كلية شاملة، دخلت في معظم السير اللاحقة، ويحال إليها من جميع أصحاب السيرة، قدماء ومحدثين، فهي النص العمدة، النص-النموذج، قرأت الدلالات، والوقائع يرويها الرواة، أقدمها هو الأقرب لها قبل تدخل الأهواء والميول الشخصية ( ص 808 علم السيرة).
علوم التفسير: ارتآها حنفي علماً واحداً من حيث الموضوع، ولكنه علوم باعتباره مناهج متعددة: التفسير بالمنقول "التفسير بالمأثور، التفسير بالتنزيل، التفسير اللغوي والفقهي"، التفسير بالمعقول الذي بدأ مع المعتزلة (علوم التفسير ص 46): " التفسير بالرأي وهو أحد مظاهر العقل أو تحكيم العقل: (علوم التفسير ص 491)، التفسير الكلامي "الذي يسمى أيضاً التفسير السجالي لأنه يتضمن سجالاً بين الفرق أو (التفسير العقائدي) لأنه يتضمن نقاشاً حول جدل العقائد (ص 558) ، التفسير الصوفي أو الإشاري (وهو التفسير الذي يشارك فيه الفلاسفة، ووضع تحت باب التفسير بالمعقول لأنه خروج على النقل وظاهر اللفظ إلى شيء يدركه العقل أو القلب، فالعقل أحد أبعاد القلب، والقلب أحد أبعاد العقل ) ص 755) ". بأي معنى تكون نقلية؟
كيف يجعل حنفي "العقل أساس النقل" في علم الفقه ثم يجعله علماً نقلياً؟ ليس العقل أساس النقل ولكنه بالأحرى "أساس فهم أو تأويل النص"، وما كنه هذا العقل الذي يتأسس عليه النقل؟ وإذا ما جعلنا العقل أساساً، فما حاجتنا بعد ذلك للنص؟ وإذا كانت هذه العلوم تشكل مصدر- أو بعض- مصادر اللاعقلانية في تراثنا القديم، والمشاريع العربية المعاصرة لن تنجح في إرساء قواعد العقلانية في أرض ثقافتها نقلية" – كما يقول حنفي-، فبأي معنى كانت هذه العلوم جزءاً من نهضة عربية إسلامية سادت العالم في العصور الوسطى؟
الرأي لدي أن هذه العلوم جزء من علوم اجتهد فيها واضعوها السابقون بإخلاص وأعملوا عقلهم فيها وأنه إذا كانت بعض الخرافات والإسرائيليات قد دخلت فيها، فإن هذا لا يمنع من تقدير واضعيها وفقاً للزمن والظروف التي عاشوها.
ننهي حديثنا بأن حنفي لم يكن واضحاً عبر مشروعه في بيان سبب إعادة بناء التراث القديم، فأحياناً يجعل الهدف من إعادة بناء هذا التراث القديم "جعله قادرا على الدخول في تحديات العصر الرئيسية ويساعد على وقف التغريب الذي يرى أن بعض الخاصة قد وقعت فيه وهي لا تعلم عن التراث القديم سوى أنه مضاد لمصالح الأمة فتهرب منه." ( علم الاستغراب: ص 13). ربما نبرر له هنا وفقاً لهذا الهدف محاولته لتطوير هذه العلوم. ولكنه في مواضع أخرى يرى أن الهدف من إعادة بناء التراث القديم هو "نفض الغبار عن القديم، وإجلاء صدئه عن معدنه البراق". (علم السيرة ص 803). ولكن هل هذا الهدف يحتاج أكثر من عرضه كما رآه القدماء توضيحاً له؟ هل يحتاج إجلاء الصدى عن معدنه تغيير العلوم من علوم نقلية إلى علوم عقلية، على افتراض صحة مسماها ودلالتها؟ وأخيراً، ألا يمكننا الدخول في تحديات العصر الرئيسة إلا بالالتزام بالقسمة نفسها للعلوم التي وضعها القدماء؟ وهل مجرد تحويلها إلى علوم عقلية يحل مشكلات العصر الحديث وما يجد من تحديات؟ أسئلة أحملها لمن حمل هموم الفكر والوطن وتركنا لنكمل المسيرة من بعده.