رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ثورية حسن حنفي

11-2-2022 | 20:00


د. سعيد علي عبيد

د. سعيد علي عبيد

عندما قرأت خبر وفاة الفيلسوف الثوري حسن حنفي (1935-2021م) عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، قلت في نفسي كيف أَنعَى فيلسوفًا ثوريًا بحجم عبد الرحمن الكواكبي بل يزيد عليه، حيث إن فكر الكواكبي لن يخرج عن دائرة الفلسفة السياسية في كتاباته عن الاستبداد والطغيان وغيرها، في حين كانت فلسفة حسن حنفي فلسفة ثورية أكاديمية تجديدية موجهة إلى المثقف العام وكذلك الأكاديمي المتخصص، حاول فيها قتل التراث فهمًا وتعليقًا وتنقيحًا ونقدًا، حيث عول حسن حنفي على العقل بشكل كلي في توظيف الثورة الفكرية والسياسية لسبر أغوار التراث مقارنة بفكرنا الراهن، لذا كان حسن حنفي بحق كواكبي هذا العصر، بل هو فيلسوف الأمة العربية بلا منازع، وفارس الثورة السياسية والفكرية في القرنين العشرين والحادي والعشرين الميلادي، فكان واجبًا عليَّ كتلميذٍ في مجرة حسن حنفي العتيدة أن أستعير أبيات الشاعر النيل – حافظ إبراهيم – عندما كتب ناعيًا زعيم المقاومة الاستبداية عبد الرحمن الكواكبي، حيث قال على قبره:

هنا خير مظلوم.. هنا خير كاتب.... هنا رجل الدنيا.. هنا مهبـط التقى.
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا.... عليه فهذا قــبـر الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــواكبي.

أما عن فكرة المقال "ثوريـة حسن حنفي" ولم تكن "حسن حنفي فيلسوف التجديد" أو "حسن حنفي فيلسوف التنوير" فهي أن كل من قرأ – ويقرأ – حسن حنفي يعلم على الفور أنه فيلسوف التجديد، بل هو من أعاد روح فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر الأوروبي ليوقظ بها فكرنا الراهن من سباته العميق، فإذا كان إيمانويل كانط – الفيلسوف الألماني – يقول عن ديفيد هيوم الأسكتلندي بأنه أيقظه من سباته العميق، فنحن جميعًا باحثو الفكر الفلسفي نقول: "إن حسن حنفي أيقظ الفكر الراهن برمته مستخدمًا منهجي التجديد والثورة". وعليها فإننا نجانب الصواب إذا قلنا إن حسن حنفي فيلسوف التجديد في الفكر الفلسفي الراهن دون أن ندرك الثورية كاتجاه ومنهج سيطر على حسن حنفي في جميع مراحله الفكرية.

أما عن فكرة الثورة أو الاتجاه الثوري أو الثورية التي اصطبغت بها أفكار حسن حنفي، القصة تعود هنا إلى العام الجامعي (2005 – 2006م) حيث كنا طلابًا بالسنة التمهيدية للماجستير لا يتجاوز عددنا سبعة عشر طالبًا، وكان حسن حنفي يدرس لنا مقرر "الفلسفة الإسلامية"، وكان من عادته أن يشارك طلابه الرأي، فالمحاضرة كانت تقوم على الحوار والمناقشة المشتركة بين الأستاذ وتلاميذه، وكانت محاضراته ثرية جدًا بالأفكار الموسوعية، فالمقرر كان بعوان "الفلسفة اللإسلامية" إلا أن المحاضرة كانت موسوعية، يطرح حسن حنفي التساؤلات على طلابه، وكان من بين هذه الأسئلة السؤال الذي أجاب عنه حسن حنفي وعجز عن إجابته جميع الطلاب في هذا اليوم، وهو: بم تصفون اتجـاه حسن حنفي الفلسفي؟

كان السؤال حقًا مُدهشًا "بم تصفون اتجاه حسن حنفي الفلسفي" وكان طرحه بهذه الكيفية وبنبرة صوت حنفي المميزة بالرصانة التي تجبر الجميع على الإنصات عندما يتكلم فيلسوف الأمة العربية، في حين أن السؤال السابق كان سؤالاً لميًا ومفتوحًا للجميع، حيث نظر حسن حنفي في وجه كل طالب مخاطبًا: من الفيلسوف الذي نال إعجابك في الفلسفة الغربية، ولماذا؟ وبدأ الطلاب في تقديم إجاباتهم وهو يستمع لهم ولا يُحقر من فكر أي طالب في هذا الوقت ولا يقلل من قيمته، وبعد أن يجيب الطالب على السؤال ينظر إليه حنفي قائلاً: لماذا يا بني؟

من ضمن الإجابات التي قُدمت في هذه المحاضرة كانت إجابتي الشخصية عن السؤال، فقلت له: "إنني معجبُ جدًا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت" فقال حنفي لماذا؟ قُلتُ لأنه فيلسوف العقلانية في القرن السابع عشر بلا منازع، وهو فيلسوف البساطة والوضوح، وهو الفيلسوف الذي كتب كل أفكاره الفلسفية على فراشه، فلم تأته أفكاره في قاعة المحاضرات أو على مكتبه، إنما جاءت أفكاره على فراشه، فهو الفيلسوف الذي استخدم المنهج الشكي للوصول إلى اليقين بطريقة صحيحة في الانتقال من إثبات وجود النفس الإنسانية كذات قادرة على التفكير إلى إثبات وجود الله تعالى ومن بعده أثبت وجود العالم الخارجي، وقدم الأدلة والبراهين المنطقية التي تؤيد ذلك، ومع ذلك يكفينا أن ديكارت القائل: "ومن الحكمة أن لا نثق فيمن خدعنا ولو مرة واحدة في العمر". 

هنا ابتسم حسن حنفي لأنني أخذت وقتًا أطول في الإجابة على السؤال، فنظر إليًّ قائلاً: وبم تصف اتجاه حسن حنفي الفلسفي إذن؟ فقلت له: العقلانية، فقال لا، وأخذ بعدها يستمع إلى الجميع، ثم يسأل سؤاله المعتاد في هذا اليوم ويجيب على الجميع قائلا: لا، وبعد أن انتهى جميع الطلاب من تقديم إجاباتهم حول الفيلسوف الغربي الذي نال إعجابهم، نظر جميع الطلاب إلى حسن حنفي قائلين له: بمَ تصف حضرتك اتجاه الدكتور حسن حنفي الفلسفي؟ فأجاب حنفي في كلمة واحدة ، ولكنها تحمل معانٍ كثيرة ودلالات بليغة، قائلاً: الثورية، فقال البعض: أتقصد الثورة بالمفهوم السياسي للكلمة Revolution فقال: إنما أقصد الثورية في جميع دلالات هذه الكلمة، والتي تعني عندي في أفضل معانيها إعادة البناء الفكري والسياسي لعقول الأمة العربية، فالثورية عندي تعني Reconstruction أي إعادة البناء لهذه العقول التي وقفت عند حد التراث رافضة التجديد بكل ما تحمله الكلمة من انتعاش للعقل الميت حتى يستيقظ من غفوته، فالثورية عندي بمعنى الصحوة الفلسفية التي أتمنى أراها تطبيقًا فعليًا نحو التجديد وإعادة البناء لحل أزمة العصر وأفكاره المغلقة التي تقف عند التراث، فلابد من إعادة بناء التراث، حتى نستطيع التقدم نحو مستقبل أفضل، علمًا بأن التراث هو الأساس النظرى لأبنية الواقع.

يحذر حسن حنفي من الأحكام المطلقة دون قراءة متأنية لأفكاره، فعندما نادى بالثورية لم يقصد بها الرفض التام أو الرفض المطلق لكل ما جاء به التراث، وإنما أراد فقط إعادة بناء التراث من جديد بما يتواكب مع روح العصر، وكذلك متطلبات المستقبل، حيث الأفكار التراثية إنما وجدت في العصور السابقة لكي تعالج أمورًا لمتطلبات هذه الفترة بعينها، أما نحن الآن ففي بداية الألفية الثالثة بما تشمله من تغيرات في الفكر والثقافة، وهو ما جعل حسن حنفي يقول: "لسنا أمام علم مقدس، بل أمام نتاج تاريخي خالص، صب كل عصرٍ ثقافته وتصوره فيه. وتصور القدماء تصور تاريخي خالص يعبر عن عصرهم ومستواهم الثقافي، كما أن تصورنا المعاصر يُعبر عن روح عصرنا ومستوانا الثقافي".

يناشد حسن حنفي الجماهير بضرورة الثورة الفكرية وهو على أمل أن تكون هناك ثورة سياسية تُعيد للإنسان إنسانيته، فكانت الثورة السياسية بمثابة حلم، يتمنى أن يستيقظ يومًا عليه، وقد كان حقًا في ثورة 25 يناير 2011م، حتى جعل في هذا العام مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية تحت مسمى "الفلسفة والثورة" والتي استضافته جامعة بني سويف في هذا العام، وكانت محاور المؤتمر بكاملها تدور حول إيقاظ الوعي من خلال الثورة، حتى اقترنت الثورة الفكرية بالثورة السياسية في كتاباته ومحاور مؤتمره، فمن الصعب الفصل بين الثورتين في فكر حسن حنفي الفلسفي.  

يؤكد حسن حنفي في كتابه "من العقيدة إلى الثورة" في جزئه الأول ضرورة إعادة بناء التراث من خلال ثورة في إعادة بناء المفاهيم، من خلال الوعي والاستخدام الصحيح للعقل، فتراه يقول "والحقيقة أنه لا يحمي الإنسان المعاصر، ولا يحافظ على مصالح الجماعة إلا الوعي الفردي، وتجنيد الجماهير، وكلاهما لن يتم إلا بالثورة الفعلية. لن يتغير الواقع بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين. الجماهير هم الدرع الواقي، والطليعة هم رأس الحربة، لا تسليم هناك بشىء، بل لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يُعرض على العقل والواقع وإثبات أنه كذلك".

إن الباحث المدقق في أفكار حسن حنفي الثورية وموقفه النقدي من التراث، يجد في أفكاره التنويرية اتفاقًا كبيرًا مع تلميذه الفيلسوف المصري – محمد عثمان الخشت – في قول الأخير: " إن قبول التراث كله ككتلة واحدة لا يقل حماقة عن رفضه كله ككتلة واحدة، فكلاهما تعصب، ولابد من تجاوز هذين الموقفين من التراث والوصول إلى مركب جديد يحل الإشكالية بين الأخوة الأعداء. والوصول إلى المركب الجديد لن يكون إلا بتجديد التفكير الديني تجديدًا حقيقيًا يجمع بين عناصر الماضي الإيجابية لا السلبية، وعلوم العصر ومتغيرات الحاضر".

مما سبق نستخلص فكرة مؤداها أن تجديد النص الديني – الآن - أصبح ضرورة مُلحة لمواكبة روح العصر، فالثورة التي يقصدها حسن حنفي ثورة لتصحيح المفاهيم التي تقبلناها دون عرضها على العقل، فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وهو حاكم عادل على الفكر والأفكار، فالفكر الفلسفي متصل وغير منقطع، فهو في صيرورةٍ دائمةٍ، وديناميكية لا تتوقف، واحترام للآخر مهما كانت اتجاهاته الدينية، رحم الله فيلسوف الأمة حسن حنفي رائد الثورة في فكرنا الراهن.


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022