أ.د. صبري أبو حسين - عضو اتحاد الكتاب
لا مراء في أن كلية الآداب بجامعة القاهرة مدرسة عريقة في البحث والتثقيف والتنوير، منذ أسست عام 1925م، ومنذ صار تمثال الكاتب المصري - المصنوع من الحجر الجيري، والذي يُمثَّل صاحبه جالسًا في وضع القرفصاء، واضعًا بردية على ساقيه، ممسكًا بريشته، بينما ينظر إلى الأمام وكأنه يتأهب للكتابة - شعار الكلية؛ للدلالة لكل الطلاب والمنتسبين إلى هذا الصرح العلمي أن وظيفة الكاتب من أهم الوظائف التي شغلها المصري القديم، وينبغي أن يشغلها المصري في كل زمان وأوان، وأن من دواعي فخر المرء أن يذكر أنه كاتب مُلِمٌّ بعلوم الكتابة وفنونها، ومن ثم خرج في رحاب هذه الكلية العتيقة الكبار الشوامخ من الكتاب أمثال عميد الأدب العربي طه حسين، والعلامة التجديدي الشيخ أمين الخولي، ومؤرخ الأدب العربي الدكتور شوقي ضيف، والدكتورة الناقدة الرائدة سهير القلماوي، والمحقق الكبير الدكتور حسين نصار، والناقدة المنتجة الدكتورة نبيلة إبراهيم، واللغوي الكبير الدكتور محمود فهمي حجازي، والناقد الروائي الدكتور عبدالمحسن طه بدر، والناقد الفذ الدكتور يوسف خليف، والناقد الأصيل الدكتور عبد الحكيم راضي،... وغيرهم ، ومن نسلهم وجينهم كان الراحل الدكتور جابر عصفور، الذي تدل سيرته الذاتية على رحلة علمية وثقافية ماتعة ومتنوعة، عبر مسيرته الحياتية البالغة سبعة وسبعين عامًا (1944 – 2021).
تثقف عصفور ثقافات متنوعة عربيًّا وغربيًّا، ولا مراء في أن هذه الثقافة المتكاملة أكبر معين على عمق الناقد الأدبي؛ فللأدب "صَناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات"؛ فمطلوب من الناقد أن يكون ذواقة مدربًا خبيرًا بالإبداع الأدبي، ولديه مؤهلات عقلية خاصة يقدر بها أن يبيّن جماليات أي عمل أدبي وإخفاقاته؛ فالنقد الأدبي تأمُّل يُعلن استحقاق عمل أدبي أو عدم أحقيته في نيل الاعتبار والوجود أو عدم الوجود؛ وأن موضوع النقد الأدبي هو الأدب، وأن وظيفة النقد الأدبي الرئيسة أن يُنير سبيل الأدب أمامنا ويُغرينا بالسير فيه، ويلفتنا إلى ما فيه من جمال لا نستطيع إدراكه بأنفسنا، والناقد بذلك يجعلنا نرى العمل الأدبي لا بعيوننا ولكن بعينه، فنفهم منه ما يفهم هو، ونخطئ فيه ما يُخطئه، ونَحكم عليه بحكمه؛ ولذلك وجب أن يكون الناقد "مسلحًا بالمعرفة الواسعة، والقدرة الخاصة على النظر والفهم، وارتباطه بإطار نظري وخلفية معرفية، كل ذلك يفرض على الناقد الاستناد إلى منهج وطريقة مخصوصة للتعامل مع الإبداع الأدبي، فالتعامل مع الأدب صار يَنبني على أدوات إجرائية يُحدِّدها الإطار النظري للمنهج الذي يتبناه الناقد باعتباره وسيلة لفهم الإبداع وتفسيره والحكم عليه. ولا مراء في أن هذه الثقافة المتكاملة أكبر معين على النقد الأدبي؛ فمطلوب من الناقد أن يكون ذواقة مدربًا خبيرًا بالإبداع الأدبي، ولديه مؤهلات عقلية خاصة يقدر بها أن يبيّن جماليات أي عمل أدبي وإخفاقاته.....
وبدأ تثقف (الدكتور جابر) وتأسيسه القِرائي في المحلة الكبرى، ثم تنور في الإسكندرية، وتأسس في القاهرة وتوسع، حيث حصل على درجة الليسانس من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، في يونيو سنة 1965م، ثم حصل على درجة الماجستير من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة بتقدير ممتاز، في يوليو سنة 1969م، ثم حصل على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة، بمرتبة الشرف الأولى سنة 1973م، وأخذ في الترقي بالسلم الجامعي درجة بعد أخرى إلى أن صار ذلكم الأستاذ الناقد التنويري الليبرالي الحاضر بقلمه في الشأن العام محليًّا وإقليميًّا... إنه خلاصة أساتذة كلية الآداب الكبار الذين تعلم منهم وأفاد من مناهجهم، ومن الكيفية التي يبنون عليها المشاكل التي تعترضهم ويعالجونها، بحيوية جريئة، ومعاصرة حادة.
وإن سيرة (الدكتور جابر عصفور) كسيرة آبائه من المدرسين، حيث العميد طه حسين المثال، والشيخ أمين الخولي المنير، والدكتورة سهير القلماوي المعلمة التي كان يسميها (أمي بالرأس)، والدكتورة نبيلة إبراهيم الموجهة، وغيرهم، وهو ثمرة المكتبات التي نهل منها ثقافاته الأولى، تلك المكتبات التي فتحت شهيته للمطالعة، لاسيما بائعي الكتب في سوق الأزبكية، ومن ثم تنوعت مشاربه التعليمية تنوعًا فريدًا، ظهر في آثاره مؤلفاتٍ ومُتَرجَماتٍ ومقالاتٍ، ونشاطاتٍ ثقافية وفكرية؛ فقد كان مثقفًا حركيًّا ميدانيًّا، لم ينغلق في عمله الأكاديمي النخبوي أو الحكومي الرسمي ولم يقف عند حدوده، بل جاهد بقلمه ولسانه في معتركات فكرية متنوعة، عن طريق سُهماته في مجلات وجرائد ومؤتمرات ومحاضرات عامة وخاصة، رسمية وشعبوية، في بقاع عربية ودولية متنوعة، فكان "صورة مغايرة للثقافة العربية التقليدية، فعبّر عن جيل عربي له موقعه ورؤيته للحضارة والثقافة العربيتين. كان مجتهدًا، ونشيطًا، ومثابرًا، واجه التحديات والتغيرات التي مرّ بها العالم العربي عمومًا ومصر خصوصًا، بوعي المثقف الرؤيوي"، كما يقول الكاتب صالح فرحان.
وأكبر دليل على حضور الناقد المثقف في شخصية (الدكتور جابر) قراءة مجمل آثاره العلمية؛ إذ نجدها تتنوع إلى آثار أدبية ونقدية، وآثار تثقيفية، وآثار تنويرية، وآثار استرفادية، ففي ميدان الدرس الأدبي والنقدي، الذي هو تخصصه الأكاديمي الرئيس- نجده يبدأ بثلاثية من الكتب النقدية المتخصصة التي تنطلق من التراث العربي، وهي: [الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، سنة 1973م، ومفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي سنة 1978م، و قراءة التراث النقدي، سنة 1991م]، وظل الدكتور جابر مع التراث فكان كتاباه: (غواية التراث سنة 2011م، ودفاعًا عن التراث سنة 2012م)، ، ثم كان كتابه المعنون بـ(المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين سنة 1983م) في النقد الأدبي الحديث، ومن ثم فالدكتور جابر ليس بالحداثي المقاطع للتراث أو المتمرد عليه، كلا، ثم كلا، إنه أحد دارسيه المتخصصين فيه، والمعلنين عن جوانب الإضاءة والنباهة فيه، حيث يدعو إلى تعليم الأجيال القادمة أن الأصالة - التي هي الوجه الآخر من المعاصرة - موجودة في كل زمان ومكان، وأن جوهر الإبداع أكثر عالمية من العولمة، وأن كل إبداع حقيقي ينتمي إلى جوهر واحد من القيم الجمالية التي تعبر حواجز الأزمة والأمكنة واللغة، وأن الذي بلا ماض بلا حاضر ولا مستقبل.
ويقرر "الدكتور جابر" أن الحفاظ على التراث الأدبي يكون بالممارسة العملية بالتقديم الجديد له، وبما تسيغه الأذواق المعاصرة، رغم اختلاف تجلياته من عصر إلى عصر
إنه يدعو إلى أن يُدافَع عن التراث الأدبي بالتعريف به، والتقريب بينه والقارئ المعاصر، سواء بطرح تفسيرات مواكبة لمعطيات الواقع، تتجاوب وجوهره الإنساني في القيمة الإبداعية التي تنجح في تخطي كل الحوائل. ويكتمل التعريف بما يقود إليه، ويسبقه، من التقديم العلمي الذي يشمل التحقيق والتوثيق والكشف عن كل ما يظل في حاجة إلى كشف بل إن (الدكتور جابر) ليؤلف دفاعًا عن هذا التراث الماجد، الذي يمثل أصلنا وهُويتنا ..
لا يمتطي المجد من لم يعرف الأثرا ولا ينال العلا من قدم الحذرا
وبعد هذه النشأة الأصيلة في التراث الأدبي العربي ومعه، يبدأ (الدكتور جابر) في قراءة الأدب العربي الحديث والمعاصر عبر فني الشعر والرواية، وذلك انطلاقًا من كتابه المثير (زمن الرواية سنة 1999م)، ومرورًا بكتبه: [ الإحيائية والإحيائيون ـسنة 2001م، ذاكرة للشعر سنة 2002م، وفي محبة الأدب سنة 2003م، مواجهة الإرهاب قراءة في الأدب الروائي سنة 2003م، والهوية الثقافية والنقد الأدبي سنة 2009م، ورؤى العالم عن تأسيس الحداثة في الشعر سنة 2008م، ونجيب محفوظ الإنجاز والقيمة سنة 2010م، والرواية والاستنارة سنة 2011م، وعوالم شعرية معاصرة سنة 2012م، وتيارات نقدية محدثة سنة 2019م]، وله دراسة عن رواية الدين والعلم والمال لفرح أنطون سنة 1995م، وتقديم ودراسة لرواية غابة الحق سنة 2000م].
ولم يقتصر (الدكتور جابر) على تخصصه العلمي الجامعي الأدبي والنقدي فقط، بل كان له إسهام في قراءة المشهد الثقافي المصري والعربي، والدعوة إلى التنوير ومناصرة أفكاره ودعاته، وذلك في كتبه: (التنوير يواجه الإظلام سنة 1992م، ومحنة التنوير سنة 1992، ودفاعًا عن التنوير سنة 1993م، وهوامش على دفتر التنوير سنة 1993م، وإضاءات سنة 1994م، وأنوار العقل سنة 1996م، وآفاق العصر سنة 199م، وضد التعصب سنة 200م)، وهذه الكتب تمثل معارك فكرية ورؤى أيديولوجية ليبرالية للدكتور جابر مع التيار السلفي عربيًّا ومصريًّا، فيها ما يُقبَل وفيها ما يدعو للمجادلة والمناقشة والمفاتشة والمراجعة، بمناهج فكرية وسطية، تصِفُ وتحلِّل وتُقيِّم وتُقوِّم.
وفي الحديث المُعمَّق عن الحالة الثقافية نجد للدكتور جابر الكتب الآتية: [أوراق ثقافية سنة 2003م، وأوراق ثقافية: ثقافة المستقبل ومستقبل الثقافة سنة 2003م، ونحو ثقافة مغايرة سنة 2008م، ، نقد ثقافة التخلف سنة 2008م]، وهو في هذا البعد يتقمص شخصية مثاله الدكتور طه حسين في كتابه(مستقبل الثقافة في مصر، سنة 1938م)، عن طريق تقديم تصور جاد وواعٍ للعالم المعاصر، وطرح فهم عميق لمشاكلنا الآنية.
ومن كتبه المتنوعة الرؤية سياسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، والتي تحاول علاج أدواء العقل العربي الآني : [آفاق العصر سنة 1997م، والرهان على المستقبل سنة 2004م، والاحتفاء بالقيمة سنة 2004م، ودفاعًا عن المرأة سنة 2007م، ومن هناك سنة 2007م، ومقالات غاضبة سنة 2008م، جامعة دينها العلم سنة 2008م، وزمن جميل مضى سنة 2009م]
وفي مجال الاسترفاد والاستيراد من الآخر نجد للدكتور جابر عصفور جملة من المترجمات الناقلة للنقد الجديد والحداثي غربيًّا، حيث الكتب: [ عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو، سنة1985م، والماركسية والنقد الأدبي1987م، واتجاهات النقد المعاصر سنة 2003م، والنظرية الأدبية المعاصرة ، رامان سلدن سنة 1991م]، كما شارك بالترجمة في كتب [أنشودة المطر والشعر الحر سنة 1973م، قراءة في شعر نازك الملائكة سنة 1985م، ومدخل إلى المنهجية، ضمن كتاب مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية سنة 1988م، وقراءة التراث النقدي ضمن كتاب قراءة جديدة لتراثنا النقدي سنة 1990، وإسلام النفط والحداثة سنة 1991م].
وللدكتور جابر الكثير من البحوث والمقالات العلمية العميقة تأليفًا وترجمة، والمنشورة في كبرى المجلات والإصدارات والدوريات المصرية والعربية والأجنبية، منها الصورة الشعرية، مجلة المجلة، القاهرة سنة 1968م، وستيفن أولمان: الأسلوب والشخصية، المجلة، القاهرة، أغسطس، سنة 1971م، ونظرية الفن عند الفارابي، الكاتب، القاهرة سنة 1975م، وموريس بورا: الخيال البدائي، الكلمة، صنعاء، سبتمبر سنة 1976م، وقراءة أولية في أدونيس، الكلمة، اليمن سنة 1977م، ولوسيان جولدمان: علم اجتماع الأدب، فصول، القاهرة، يناير سنة 1981م، ونقاد نجيب محفوظ، فصول، القاهرة سنة 1981م، والنظريات الأدبية المعاصرة، جامعة الكويت، مارس سنة1987م، وشعراء السبعينيات في مصر، جامعة صنعاء، أبريل سنة 1991م، وجاك دريدا: البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية، فصول سنة 1993م، وأبو حيان التوحيدي بعد ألف عام، فصول، القاهرة، نوفمبر سنة 1995م، واستراحة البيان، مقال أسبوعي بجريدة البيان، دبي، منذ عام 1988م، هذا إضافة إلى مقالاته في مجلة العربي الكويتية وغيرها.
وهكذا نجد أنفسنا أمام شخصية علمية مصرية مثقفة مُنوِّرة، تتفرد تجربتها النقدية والثقافية بعدة فرائد، تتمثل في الحضور النقدي المتنوع فنيًّا، والحضور النقدي المتنوع مكانيًّا، والحضور النقدي المتنوع زمانيًّا، والعمق النقدي، واتساع مساحة التأثير وتنوعها عروبيًّا، وخصوصية المصطلح النقدي، وقيام تجربته على ثنائيات التراث والمعاصرة، والمثاقفة والإبداع، والمجادلة والمواجهة.
فما أحوجنا إلى أن نقرأ الدكتور جابر، وما أحوجنا إلى أن نفيد منه، ونُقيِّم تجربته، وأن ندرس آثاره دراسات متنوعة، ندرسه ناقدًا أدبيًّا، وندرسه مفكرًا، وندرسه كاتبًا، وندرسه أديبًا، وندرسه سياسيًّا وثقافيًّا، كما فعل مع كبار المجددين والتنويريين أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ رفاعة الطهطاوي والدكتور طه حسين والدكتورة سهير القلماوي وغيرهم، وكما عبر هو عن الدكتور طه حسين في مقدمة كتابه (المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين): "علمنا طه حسين في الجامعة وبالجامعة أن نفهم لنمتلك، وأن نمتلك لنتجاوز، ولم يعلمنا أن نجعل من فكره وثنًا نعبده أو وثنًا نرجمه، أو نقنع بكتاب حاشية أو تقرير على فكره"؛ ففي نتاج (الدكتور جابر) ما يُحمَد له وعليه، ويُبنَى عليه، وفيه ما يُنقَد ويحتاج إلى تقويم ككلِّ عمل بشري.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022